
سِيَر النساء: من أجل كتابة أنثوية خارج إطار «الجندر» التمييزي

عبداللطيف الوراري
الحاجة إلى هوية أنثوية
كانت ثمة نظرة دونية ناجمة عن طبيعة البنية الذهنية للمجتمع العربي وتمثيلاتها الرمزية، كانت ترى إلى أدب المرأة بوصفه ضعيفا وقليل القيمة لا يُضاهي أدب الرجال، وهو ما جعل المرأة تتهيب من خوض نشاط الأدب، وحُكِم عليها أن تبقى خارج حلبته أو معركته داخل المجتمع، وهو ما يُفسر غياب المدونة الأدبية النسائية العربية، أو على الأقل تبعثرها ونُدْرتها. وقد ظلت هذه النظرة تُوجه مجمل نشاطية الأدب، كأنها غدت ضربا من سلطة السنن الثقافي، الذي رَسخته مؤسسة الأدب وارتضته الذائقة المهيمنة، ولم تتزحزح تِباعا إلا مع اشتداد الدعوة الإصلاحية منذ أوائل القرن العشرين إلى تحرير المرأة ومنحها حقوقها المسلوبة منها؛ إذ بدأ الصوت الثقافي الجماعي للمرأة الأديبة، ابتداء من عائشة التيمورية ومرورا بملك حفني ناصف وهدى الشعراوي ووردة اليازجي ومي زيادة وغيرهن، يهب في موجاتٍ متتالية، ليرمي عنها سمات السلبية والخنوع والتردد، ويكسر حاجز الخوف من قول أناها ودفائنه المطمورة.
فالحاجة إلى للتعبير عند المرأة، بأسماء مستعارة في بادئ الأمر، عن معاناتها الذاتية وأرشيفها الشخصي الموجع، شعرا وسردا، كانت تشتد في سياق الدفاع عن حريتها وقضيتها داخل المجتمع، ثم في سياق الدفاع عن هويتها الأنثوية خارج أطر الجندر التمييزي، بحيث تكون المرأة فاعلة في خطابها الخاص، لا موضوعا أو ثيمة مجاورة لغيرها داخل مستويات التحليل الثقافي والأدبي. ولهذا، نفهم أسباب تأخر كتابة المرأة عن أناها الأصلي المرجعي بصريح الدلالة، وعن حياتها وماضيها الشخصي وأشكال صراعها مع نسيج بيئتها المجتمعية وواقعها المادي المعقد؛ إلى أن كتبت عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) سيرتها الذاتية تحت عنوان «على الجسر.. بين الحياة والموت» عام 1967، ثم تلتها السير الذاتية: «أيام من حياتي» لزينب الغزالي (1978) و«رحلة جبلية رحلة صعبة» لفدوى طوقان (1985) و«الرحلة، أيام طالبة في أمريكا» و«حملة تفتيش: أوراق شخصية» للطيفة الزيات (1992) و«رجوع إلى الطفولة» لليلى أبو زيد (1993) و«شرائط ملونة من حياتي» لليلى عسيران (1994) و«أوراقي.. حياتي» لنوال السعداوي (2000- 2001) ، قبل أن تنشط نصوص الكتابة السيرذاتية مع ازدياد حضور المرأة، وتوسيع الهامش الديمقراطي والحقوقي، وانفجار المدونات الشخصية والمنصات التفاعلية. وكان يتطور داخل هذه الكتابة إحساس المرأة باعتبارها قوة رمزية فاعلة بما تقترحه من إبدالات تعبيرية وتخييلية في سياق بحثها عن نفسها، وعن معنى حياتها في العالم والوجود، بغير قليل من الجرأة والقدرة على البوح والكشف عن الذات.
بيد أن هذه الكتابة كانت تواجه مأزقا مضاعفا: تبخيس النقاد لنوع السيرة الذاتية وما يدخل تحتها بوجه عام، وسيادة رؤية تحقيرية حول ما تدونه المرأة من اعترافات ورسائل وويوميات ومذكرات، باعتبارها «كتابة فضائحية»؛ وإلا لما بقي الإنتاج السيرذاتي النسائي خارج الاهتمام النقدي والأكاديمي. ولم تنهض لدراسة هذا الإنتاج وتحليل أجناسه وخطاباته من منظورات متنوعة، إلا بنات جنسها ممن امتلكن سلطة المعرفة وبيان «ما فيه اعتبار» نقديا.
انشطار والتباس
درست الباحثة أمل التميمي نصوص «السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر» (2005) وهي نصوص ذات كفاءة تمثيلية ونقدية، تنطبق عليها شروط جنس السيرة الذاتية بمفهومه الحديث، وتتوجه فيها صواحبها من النسوة الشهيرات (هدى شعراوي، نبوية موسى، عائشة عبد الرحمن، زينب الغزالي، فدوى طوقان، نوال السعداوي، ليلى عسيران، ليلى العثمان) إلى إثبات ذلك عن وعي وقصدية عبر تدوين «جوانب خاصة وشبه كاملة عن حياتهن» داخل خطاب تعبيري كان يتطور من نمط مقالي وروائي إلى شكل سيرذاتي. وقد راعت في اختيار المتن أن يكون بين هذه النصوص قواسم مشتركة، وأن تكون عابرة لأجيال وحقب وجغرافيات متنوعة ومختلفة، على نحو يعكس طبيعة الموضوعات التي شغلت المرأة في كل طور من سيرتها، بقدر ما يشخص مجمل الطرائق الفنية التي نهجتها للتعبير عن قصة حياتها، وعن سبيل كفاحها ودورها في المجتمع، ويبرز صور «انشطار الذات الأنثوية» نتيجة اختلال الوضع قيميا وأخلاقيا، والحرج من التعبير عن ذلك في علاقتها بذاتها أو بالرجل. ورغم ما تقع فيه الباحثة من التباس منهجي على مستوى التجنيس، إلا أنها قدمت دراسة تاريخية بذلت فيها مجهودا لتوثيق المدونة النسائية، وكان شاغلها هو إبراز تطور السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي الحديث، وربط موضوعاتها بأولوية التحرر والقضية الوطنية، ضمن ما كان يشهده الفكر العربي من صراع و»ازدواجية» بين المجددين والمحافظين.
وتنطلق لطيفة لبصير في دراسة «سيرهن الذاتية» (2013) من منظور التحليل النفسي، وتنعت السيرة الذاتية النسائية بـ»الجنس الملتبس»؛ ليس فقط بسبب اختلاف كتابة المرأة عما يكتبه الرجال، بل يرجع كذلك إلى خوف المرأة وشعورها بالتهيب والحرج من أجل رغبة التعبير عن ذاتها الأنثوية، ما يولد لديها القدرة على توظيف الاستعارة كوسيط أساسي لكسر أطر النسيج الذكوري الذي ظل يهيمن على مؤسسة الأدب. يترتب على هذا التوظيف حضور «ألاعيب» فنية أثناء الكتابة، مثل الخطاب المزدوج، والانتقال بين ضمائر المحكي الذاتي بشكل ينقل الميثاق المتعارف عليه إلى فضاء التخييل الذاتي، أي «الانتقال من كتابة الواقع واعتماد المباشرة في السرد، إلى أساليب متعددة تضمر عدة مراتب في الحكي والقول والتعبير». ومن هنا، لا تراهن كتابة المرأة لسيرتها الذاتية على الماضي كزمن ولّى وتلاشى، بل على المستقبل الذي يحركه هاجس الابتداء باستمرار في سيرورة القراءة والتأويل. فالنص السيرذاتي، من المنظور التحليل-نفسي الذي تعتمده، يمزج بين الوعي واللاوعي ويتجاوز الميثاق المرجعي إلى التخييل الذاتي، الذي يفيد إعادة بناء الحياة ومعناها لدى المؤلف والقارئ معا.
ومن خلال نصوص نوال السعداوي، وفدوى طوقان، وليلى العثمان، وربيعة السالمي، وفاطنة البيه، وهدى بركات ومليكة مستظرف، على اختلاف متحققاتها السيرذاتية ومشاغلها وهواجسها التعبيرية، تفترض الباحثة وجود «كتابة اختلافية» لدى المرأة في علاقتها بذاتها من جهة، وفي سعيها إلى «البحث عن الهوية الأنثوية من خلال الكتابة عن الذات» من جهة أخرى؛ وذلك بالقياس إلى ما يكتبه الرجال عنها، كما تحققت في «سير» محمد برادة، وسليم بركات، وجبرا إبراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيف، وعبدالقادر الشاوي، ومحمد شكري وغالب هلسا. بيد أن المرأة وهي تكتب سيرتها الذاتية وعنها، تتأثر بأبعادها الخاصة كأنثى محاطة بـ»محظورات» شتى، ومحفزة بوازع إثبات الذات، إلى درجة أن يصير «الآخر» سلطة لها امتداد في شكل صوغ السيرة ورؤيتها للعالم.
تفكيك الجندر
توسع جليلة الطريطر منظورها لفهم استراتيجيات كتابات الذات النسائية العربية، بحيث جاوزت المدونة السيرذاتية لتشمل أنواعا أدبية أخرى، مثل المذكرات واليوميات والصور الشخصية وغيرها من الوسائط التي اتخذْنَها للتعبير عن ذواتهن، بل إن بعضها أسبق تاريخيا من نوع السيرة الذاتية بمفهومها الحديث؛ مثل المذكرات التي كتبتها رائدات الأدب النسائي، مثل هدى شعراوي، ونبوية موسى، وسلمى الصائغ، ومنيرة ثابت وفاطمة روز اليوسف. تتوسل الباحثة في «مرائي النساء» )2021) بتحليل ثقافي موسع يطرح قضايا كتابات الذات النسائية في علاقتها بقضايا كتابة المرأة في سياقها العربي، أو بقضايا الكتابة الأدبية في الثقافة العربية عامة؛ لأنها ـ في نظرها- «قضايا أجناسية تهم توصيف حقول الكتابة الأدبية، وما تستدعيه تبعا لذلك من تكثيف استقراء الأجناس الأدبية» أو لكونها «قضايا تتصل جوهريا بنقد أنساق الفكر والأيديولوجيا التي يبطنها الأدب، وتحيين تاريخ الأفكار في تاريخ الأدب والثقافة». ولذلك فهي لا ترغب في التعمق في فهم استراتيجيات مدونة الكتابة النسائية وحسب، بل كذلك توظيف هذه المدونة في مراجعة إعادة كتابة تاريخ الأفكار من وجهة نظر نسائية، وتحديدا إعادة كتابة تاريخ تحرير المرأة العربية، بما يشتمل عليه من مجمل إسهاماتها الفكرية والنضالية الميدانية، خارج المتن المعهود الذي كانت تحتكره المدونات الإصلاحية.
وفي هذا السياق، تعتمد الباحثة مقولة الجندر بوصفها الأداة المنهجية التي تلائم دراسة طبيعة علاقات السلطة التمييزية بين الجنسين في المجتمع العربي، وتساهم في تحليل مظاهر الصراع النسوي ضد الهيمنة الذكورية، وفي كشف تمثيلات عوالم سرد الأنا الأنثوي الذي يتخلق داخل أطره الخاصة. فالمتن الذي اعتمدته متنوع في الزمان والمكان، وفي مجال انتسابه الأجناسي، وصادر عن وعي المرأة العربية الكاتبة بجدارة انتمائها إلى العصر الحديث، وافتكاك موقع خاص بها داخل النسق الرمزي للثقافة العربية، ولاسيما من خلال إنتاجها الذاتي الذي يمثل قوة المرجع وسلطة الفعل التمثيلي داخل هذه الكتابات وبرنامجها السردي، ويسترد حقها في تملك الذات وقولها، بقدر ما هو يروم إعادة إنتاج هوية سردية بديلة من «الهوية الأنثوية الجندرية». سؤال هذه الهوية هو ما شغل مقاربتها من أجل تفكيك الجندر، سواء في مستوى الملفوظ والتلفظ، أو في عبورها من الحكي الشفوي إلى محكي الذات، أو في تمثيلاتها الأجناسية (السيرة الذاتية، الشهادة، المذكرات، محكي السفر، اليوميات) التي تتبدل أبعادها المفهومية ومرجعياتها الجمالية والأيديولوجية في علاقتها بموقع الأنا الأنثوي من الخطاب ورؤيته للعالم الذي يعبره، ويُشهد عليه، أو يقيم عليه الحجة لنقده والثورة عليه.
إن سير النساء وكتاباتها الذاتية تكشف الصراع المرير والطبيعي الذي خُضْنَه من أجل تحرير الأنا الأنثوي وحق تملك السرد والمعنى في العالم الذي تقيم داخله، عبر جبهات متعددة، سياسية وثقافية وجمالية. إنه أدب مغامرة، وأدب مقاومة في آن. والعودة إلى هذا الأدب ليس مجرد ترف فكري، ولا ذريعة لدعوى مفاضلة بينه وبين غيره، بقدر ما هو ضرورة لفهم صور الغيرية التي يغدقها علينا العالم الأدبي، إذا أعدنا تموقعها داخل العالم المادي المتلاطم الذي نحياه.
كاتب مغربي