ثقافة وفنون

فلا قرّت عيونُ الحاسدينا

فلا قرّت عيونُ الحاسدينا

توفيق قريرة

العنوان عجز بيت من قصيد لأبي الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه «اختراع» علم النحو؛ وجدت القصيدة في كتاب للسيوطي أتصفحه من وقت لآخر هو «تاريخ الخلفاء» وزعم السيوطي أن الدؤلي رثى بهذه القصيدة الخليفة الراشدي الرابع عليّ بن أبي طالب والقتيل الثالث منهم. طالع القصيد يقول: (ألا يا عينُ خبّرينا ويحَكِ أسْعِدينَا/ ألا بكّي أمير المؤمنينا). قصة علي مع أبي الأسود الدؤلي معروفة عند النحاة. لقد طلب منه حين فشا اللحن أن يؤلف كتابا يحفظ فيه قواعد العربية وقال له اكتب فيه: الكلام اسم وفعل وحرف وانْحُ هذا النحو، وتقول القصة التي لا تخلو من أسطورية، أن النحو سمّي كذلك لهذه العبارة. كتبنا كثيرا في الردّ على أسطورية هذا الخبر بما أغنانا عن إعادته في هذا الموضع.
كان أبو الأسود ابن ثماني سنوات حين ولد علي بن أبي طالب ومات علي مقتولا قبل 29 سنة من وفاة أبي الأسود، وتقول الأخبار إن أبا الأسود كان يصحب عليّا وإنّه شهد معه وقعتي صفين والجمل، وحارب معه الخوارج، بل يقال إن عليّا ولاّه البصرة ليكون، إن صدقت الأخبار، النحويّ الأوّل الذي مارس السياسة في بلاد عسيرة القيادة، لكن لم تكن لأبي الأسود وهو في البصرة صولات زياد بن أبيه ولا كان له في العراق بعض من أصداء الحجاج بن يوسف. ربما غلب النحو عليه أو طغى الشعر، ولم ينصف السياسة ولا هي أنصفته، وربما كانت الفتنة تزري به وهو في رفقة الخليفة.
البصرة في تاريخ النحاة ليست هي البصرة في تاريخ السياسة. في تاريخ النحاة ستكون البصرة مدرسة النحو العظيمة، التي ترأسها سيبويه وكثير من أعلام النحو من أمثال الأخفش والمبرد وابن السراج وغيرهم من جهابذة النحاة وسينتصر البصريون على الكوفيين، رغم أن مدرسة الكوفة عرفت أعتى النحاة من أمثال الكسائي والفراء وثعلب. ومن الممكن أن تلتقي البصرة العلمية بالبصرة السياسية مثلما كان عليه الأمر في المناظرة التي جرت في عهد هارون الرشيد بين سيبويه والكسائي، وكان الكسائي معلم ولديه وانتصر فيها على سيبويه، ويقال إنّه خرج منها مدحورا وعاد إلى فارس بلده الأصلي وهذا كله عزف أسطوري جميل.
البصرة السياسية في عهد عليّ كانت المكان الذي التقى فيه معارضيه طلحة والزبير وعائشة وجماعتهم، كانت عائشة تريد القصاص من علي لموقفه في حديث الإفك. الأصل في الخصومات الكلام ولئن كان أوستين ومن بعده البراغماتيون يعتقدون أن الكلام عمل فإنّ كثيرا من العمل في التاريخ كان أصله كلاما لا يلقى قبولا. خارج الصدق والكذب هناك شيء كثير متنازع فيه، يبدأ صدقا وينتهي كذبا أو يبدأ كذبا وينتهي صدقا ويصنع هذا كله بعض المواقف التي لا تمّحي.
تنقلب الضغائن في كثير من الأحيان إلى معارضات سياسية. في البصرة بلدة النحاة الكبرى بعد مدة، جرت وقعة الجمل سنة 36 للهجرة، وقتل بها طلحة والزبير ويروي السيوطي في «تاريخ الخلفاء» أن عدد القتلى بلغ ثلاثة عشر ألفا. يختلط دم المسلم بدم أخيه على أرض البصرة، التي لن تكون بداية من هذا التاريخ محايدة. في تلكم الأيام لا يعني النحو بما هو فنّ شيئا، بل يعني النحو بما هو تموقع في ناحية كلّ شيء: يحتاج أن تكون مع عليّ أو ضدّه، وكان أبو الأسود مع عليّ ولسنا ندري هل هو من اختار أن ينحو هذا النحو، أم أن الخليفة هو من قال له انح هذا النحو.
أقام عليّ بالبصرة منتصرا نصف شهر، قبل أن ينصرف إلى الكوفة، وبها بلغه نبأ خروج معاوية عليه في الشام، وفي موقعه صفين قال عليّ قولته: (أُعْصَى ويُطاع معاويةǃ) قولة يترجمها كلّ كما يريد وينحو فيها النحو الذي يشتهي كأن يقال، إن فيها ندما على أنّه وكّل أبا موسى الأشعري فخلعه، ووكل معاوية عمرو بن العاص فبايعه. لا شكّ أن للنحو باعا في كلام عليّ ففيه بناء للمجهول لفعل مشين فاعله معروف وذكر بالاسم لعدوّ يراه علي على غير الكفة التي توازيه، إذ هو الخليفة وهو الوالي وابن عم الرسول الأكرم. ليس للنحو هنا أن يؤرّخ لا انتصارا ولا انكسارا يمكن للنحوي أن يدّعي أن في رأس الجملة حذفا لهمزة الاستفهام إذ الأصل (أَ أٌعصى؟) لكن يحتاج أن يواطئه البلاغي على أن الاستفهام يفيد التعجب وأنّ التعجب باب من أبواب إنكار الوضع.
لكنّ النحو، شئنا أم أبينا، هو الذي أرّخ للأحداث وهو الذي بنى لنا مواقف منها ورؤى. نحن لا ندّعي ما لا يستطيعه النحو، بل ما بات فهم العلماء العرفانيّين له اليوم. فالنحو مرتبط بالتصوير وبالتمثيل للأشياء. ذلك أن في جملة عليّ (أعصى ويطاع معاويةǃ) بناء للوضعية مثلما تصوّرها عليّ. كان يرى نفسه شيئا وإذا بالواقع شيء جديد. في تمثله للخديعة التي أوقعه فيها أبو موسى الأشعري، ضرب من تمثل للواقع يقع بين تصديقه وتكذيبه: التكذيب مبني على وعي مسبق بأنّ ما حدث مستحيل أن يقع. والتصديق مبنى على وعي مفارق بأنّ ما وقع على غرابته قد وقع. لم يملك عليّ باني القولة شيئا غير أن يدفع الكلام إلى الاستفهام، وهو يريد أن يبني وضعية تصف ما وقع. الاستفهام في التصوّر هو ضرب من بناء الكون على افتراض التحقق، وليس على التحقق الفعلي. من سوء الحظ أن النحاة القدامة من جماعة الدؤلي لا يقولون شيئا نحويّا في الاستفهام، غير أن يحددوا نوع الجملة، أو أن يتحدثوا في بناء حروف الاستفهام وغير ذلك من مسائل الإعراب والبناء، التي لا تقول لنا شيئا عما حدث في ذهن المتكلم، وهو ينشئ الجملة ولا عن تصوّراته.
يُقتل عليّ ويرثيه أبو الأسود الدؤلي لا بما هو نحويّ بل بما هو متشيّع قبل التشيع لهذا الخليفة. رثاه رثاء بدأ باردا ثمّ ما فتئ أن صار حارّا؛ وليست برودة النصّ في معانيه البلاغية، التي تبدأ بدايات الخنساء، التي لا تليق بهذا المقام، وإنما برودة النصّ في حديثه عن الخوارج (ألا قل للخوارج حيث كانوا/ فلا قرّت عيون الحاسدينا). نعني بالبرودة من الناحية الإدراكية فرقا بين مناسبة الوضعية والكلام الذي يقال فيها. يقول لنا النحو العرفاني إنّنا ونحن نتكلم نبني الكون على الطريقة التي رأيناها بها، وبالأثر النفسي والعاطفي الذي يخترق وجدانه. بمعنى آخر أنّنا يمكن أن نبني الوضعيات بشكل موضوعي حين نقول (مات عليّ) لكن حين يقال (نُكبنا في عليّ) فإنّ الوضعية تبنى بشكل ذاتي فيه حديث عن أثر مقتل عليّ في نفس من يتحدث. البرودة تنغرس في الرؤية الذاتية في وصف الأحداث وهي في هذا البيت تكمن في مواضع كثيرة أهمها الدعاء على الخوارج باعتبارهم «حاسدين» بأن لا يهنأ لهم بال.
عبارة «حاسدين» هي أكثر العبارات برودة وهي لفظ قلق في مستقره، كما يقول النقاد القدامى لأن الحسد شعور بين الأحياء: حين يعلو شأن ويستفل شأن يكون الحسد دواء عند الحاسد يعوض به استفاله. لكن كيف يحسد قتيل؟ بعض الروايات تستبدل كلمة حاسدين بشامتين استبدالا محمودا ومناسبا. في موضع آخر يروى العجز بعبارة الشامتينا لكن بصدر جديد هو قوله ( ألا أبلغ معاوية بن حرب / فلا قرّت عيون الشامتينا). لكنّ البرودة لا تزول حتى في هذا التنويع. لأنّ الشاعر استعمل عبارة جاهزة أو متكلسة حاول أن ينشطها أو يفضي عليها شيئا من السخونة تجعلها أقل تجمدا فيها برد، لكنه برد لا يجمد وهي عبارة لا قرت عين. لكنّ العين يمكن أن تكون باردة..

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب