ثقافة وفنون

” عودة بعد الانتظار ” بقلم أ. خضير بشارات

بقلم أ. خضير بشارات

” عودة بعد الانتظار “
بقلم ، أ. خضير بشارات
لحظة انتظار في باص النقل يغير مجرى الرتابة التي أعدها مسبقا ، منذ أن فتح نافذة غرفة النوم التي يهجع داخلها في ضحى الجمعة، فشاهد نسمات الخريف تقترب ، غيوم تسبح في سماء المدينة تخفي شمسها و أشعة اللهب التي كادت أن تغادر مع ذيل آب ، فالشمس لم تعد ملتهبة تسطع لتحرق طرفي النهار و هدوء القيلولة أو لتزعج جلسات الليل و سمره ،
حتى أصوات الباعة المتجولين بين أزقة المدينة لم تزعجه هذا الصباح و كأنهم اكتفوا بما لوثته أصوات المساء في اليوم السابق ، فتسير سيارة حمراء في شارع المخفية الرئيسي و يطلق صاحبها العنان لزاموره غير المتقطع ويعرفه صبية المنطقة إنه يبيع ما يبحثون عنه ، ويرافق صوت الزامور صوت الرجل المسجل مسبقا فهو يملأ الفضاء بضخامة الصوت المؤذي ، فهو لا يراعي حرمات المكان و لا الزمان يزعج كبار السن في جلساتهم المسائية و يقلق رتابة الناس وهم داخل منازلهم ، يجتمع حول مبيعاته أولاد صغار ليبيعهم ما يملك من حاجات، فرغم قوة الصوت إلا أن نوع المبيعات غير واضحة ولكن في الأغلب يبيع هريسة جنين ، وغيره يبيع الذراية مع اقتراب صلاة العشاء و ما بعدها ، فتئن جدران المنازل من ثقل إزعاجهم غير المنتهي و لا يوجد من يردع فوضاهم المنتشرة في كل أرجاء الوطن و آخر يجر عربته التي تتألم لحاجتها إلى دعة الليل و الراحة من التجوال فهي تسير من زقاق إلى آخر و يقذفها صاحبها بين الصبية عله يجد من يبتاع منه كاسة من الذرا أو من الترمس أو غير ذلك مما تحمله العربة .
كسر هدوء الصباح و انطلق من فراشه و جهز نفسه فالساعة تقترب إلى الحادية عشرة صباحا ، فهو اتخذ قراره لصلاة الجمعة في أحد مساجد المدينة القريبة من المجمع الشرقي حيث سيارات الأجرة التي تنقل إلى محافظة طوباس ، حركة الأبناء لا اعتيادية ، تظهر البسمة على الوجوه لما اكتنزوا من ملابس و حقائب و قرطاسية للعام الدراسي الجديد ، فرحة تغمر نفوسهم ، و تبدو جلية على الجوارح و التصرفات اليومية ، لكن في الصباح هذا شاهت الوجوه عندما رأوا أباهم قد لبس لبسته غير المعتادة لصلاة الجمعة فأيقنت الصغيرات أنه لا محال ذاهب إلى طمون ، جلس مع ابنه علي لحظات ليمنع عنه صراخ الأطفال و اللحاق به فأومأ برأسه علامة الموافقة و رافقها ابتسامة على جانبي الفم و أعطى الأب زوجه تعليمات التوجه إلى منزل جدهم في عراق بوربن ليخفف عنهم أرق النهار و طوله ،
حمل نفسه و غادر المنزل و قد مالت الشمس إلى الظهيرة أو كادت تقترب إلى وسط السماء ، الأجواء في الخارج ليس كما هي في داخل المنزل فرغم انتشار الغيوم المتقطعة إلا أن سطوة الشمس و حرارتها يضربان في الأرض فيفعلان في الجسم و يؤثران على هدوء الرحلة المعد لها،
تظهر نابلس هادئة مطمئنة على طول الشارع الموصل إلى الدوار رغم مدنيتها ، لا سيارات تزعج المارة ، لا باعة يتجول في مسارب الحارات ، لا ضجيج للأطفال بعد ، لكن ما أن وضعت السيارة عجلاتها بالقرب من شارع غرناطة و دخلة سوق الحدادين حتى ظهر للعيان الحركة النشطة التي تتمتع بها ساحة الدوار فينتشر الباعة أصحاب العربات بكل أنواع الخضار و الفاكهة ما تشتهي الأنفس و ما تلذ به الأعين ، أما حركة الناس فهي تقتصر على الرجال و الشباب تكاد تكون مقطوعة حركة النساء فالأسواق مغلقة و إلا لحضرن،
عاد الهدوء إلى رتابته على بعد مسافة قليلة عن الدوار ، فشارع حطين تخلو منه الأزمة ربما سيارة أو اثنتان تخرجان منه نحو الشارع الرئيسي المؤدي إلى البلدية ،و تغيبان خلف العمارات ، ليصوب نظره هو في الطريق الموصلة إلى المجمع الشرقي فإذا بالسوق يعج بالناس الباعة و المتجولين سوق البالة مشرع على كل أبوابه و سوق الطيور كذلك يستقبل زواره فتفوح رائحة الطيور و أصواتها مختلفة النغمات ، يخلو المجمع من سيارات الأجرة فهو فارغ ، فالوضع الطبيعي لا تحضر الباصات يوم الجمعة فكيف ستأتي بمثل هذه الظروف ؟ يوم الجمعة تغلق كل المحال التجارية، لا بيع و لا شراء ، الوضع الأمني غير مستقر حواجز و تفتيش للمركبات اعتقالات لا نظير لها من تعسف و ضرب و إهانات و كل ذلك تنشره صفحات التواصل مباشرة فالناس تتجنب تلك الأزمات قدر المستطاع، و قد تأتي الحواجز الطيارة بين الفينة و الأخرى أو قد يقتحم الجيش منطقة ما في أي وقت هذا يخفف حركة الناس بل يعدمها كليا و بالتالي لا داع لوجود باصات النقل بين المدن ،
باصان ينقلان إلى طوباس فقط لم ير غيرهما لأي من المناطق الأخرى لكن المجمع مليء بالسيارات الخاصة التي تحضر لسوق الطيور أو البالة ، قال : كم راكبا معك ، أجاب السائق خمسة ، يعني نصلي الجمعة هنا أم ننطلق قبل الموعد ، نرى إن جاء ركاب و عند سماع الأذان سنذهب إلى الصلاة ، أيقن يوسف أن لا فائدة من الحوار ، جلس لبضع دقايق و انصرف إلى مسجد الأنبياء،
كانت الخطبة مختصرة عما يعانيه أهل غزة و الضفة الغربية فدعا الخطيب بالنصر لفلسطين و أهلها و أنهى يوم الجمعة بقول حسبي الله و نعم الوكيل و دعا إلى تكرارها سبعين مرة بعد الصلاة نصرة لفلسطين وغادر المصلون المسجد إلى أعمالهم فارتفعت أصوات الباعة و كثر تجوال الناس من السوق و إليه لقضاء حاجاتهم .
أما يوسف فتوجه مسرعا إلى الباص خوفا من نزوله إلى طوباس ويبقى هو للباص الثاني و هذا سيضاعف عليه الوقت و الجهد و هو بغنى عنهما ، فالجاهة بعد صلاة العصر و يريد الوصول مبكرا إلى الخزان حيث الوالدين لتدور مائدة الحديث التي لم تغب عنهم في أي لقاء ، لم يلتفت إلا إلى الأمام، مخلفا وراءه أصوات الباعة و نظرات المتجولين التي تضرب على العربات و تغادرها فالأسعار تبدو لا تناسبهم ، يرخي صاحب الباص جسده الهزيل على المقعد متخذا مخدة قديمة رثة ممزقة ومتسخة متكأ له و يظهر ابتسامة لا تخرج عن لؤم و قبح مما زاد من قلق الركاب و يأسهم فحاوره أحدهم إذ قال : ألا تريد التحرك ؟ وهو ينظر إليه بعيون الصديق ، فرد عليه أن لا ، عليك التوجه إلى باص الفارعة الذي حضر للتو ، فقال : أنتظرتك أكثر من ساعتين ، ألا يكفي هذا الانتظار لاكتمال نصاب الحمولة ،تمتم بحركة الوجه التي تأبى العيون من رؤيتها ، فحمل الراكب أغراضه و غادر إلى الباص الآخر، و كأن شيء لم يحدث ، لم يطق يوسف تصرفه و ذهب إلى الجهة الأخرى بقرب أقفاص الطيور ، و لكنه لم يعرها اهتماما ، بل ظل يتابع حركة من يدخل إلى المجمع أو يخرج منه سواء كان راجلا أو راكبا ، ويقلب جواله عبر صفحات الأخبار المختلفة فهي كعادتها حرب في جنين و اقتحامات في طول كرم و مخيمها، قصف عنيف في غزة ، المقاومة في كل المحاور كما أسماها المحلل الدويري تضرب و بقوة ، يرتقي الشهداء ، تدمر البنية التحتية ، تنقل الإصابات إلى المشافي إذا سمح العدو من الوصول إليها أو حمل المصاب ، جرافة صهيوتية تنكل بالشهيد في جنين و لازال العرب في سباتهم، يرفع رأسه، يتقدم إلى الباص ليجلس في المقعد الأمامي و يستمر بمتابعة الأخبار و تتنقل عيناه مع المارة أيضا، حضر من تبقى من الركاب وراحوا يسخرون من السائق فلم يطق تلك السخرية إلا أنه قابلها بالصمت و نقل جلسته إلى مقعد آخر و معه حشوة المخدة التي تشكو من وساختها ، قاربت الساعة إلى الثانية عصرا ، ولم يحضر أي راكب بل نقص الموجودون راكبا ، ليصيروا أربعة لا غير و السائق كأنه أبر اليمين لن يتحرك إلا بكل حمولته رغم محاولات السائق الثاني ، و أمام تقدم الزمن و بلادة السائق أقسم يوسف أن يعود إلى منزله إذا وصلت الساعة إلى الثانية إضافة إلى الجو الذي حرارته أخذت بالارتفاع ، و خشي أن يقتحم عقرب الساعات إلى الثالثة أو أكثر دون أن يتحرك مقود الباص ، فبهدوء حمل يوسف نفسه خارجا من الباص ممتشقا الطريق سبيلا للخلاص من حالة الانتظار التي يكره الوقوع فيها ، فعاد إلى المنزل و يحفه الحديث عن سوء تصرفات السائق التي لا تراعي الوقت الذي أهدره الركاب من أجل قضاء مشاويرهم في المحافظة الأخرى أو العودة إلى منازلهم فيها ،
لم تخبر الزوج الصغار بعودة والدهم فكان دخوله من الباب مفاجئا ، فركض الجميع و استقبلوه كغائب منذ زمن بعيد ، فهم لم يصدقوا عودته ، فانهالوا بالأسئلة التي لا تخرج من براءة الأطفال، لماذا عدت ؟ ذهبت إلى الجاهة؟ كيف تمكنت من الوصول إلى طمون و العودة ؟ هل السيارات متاحة ؟ لم يجد الوالد الإجابات لكل الأسئلة أو بالأحرى لا يريد أن يخبرهم حقيقة عودته فهي تذكره بالسائق الجشع صاحب السلوك غير السوي ، بضع دقائق حتى عاد البيت إلى وضعه الطبيعي ، حديث الأطفال حول المدرسة و مشترياتها ، يحاولون أن يرتبوا الحقائب ويأخذوا حصصهم من القرطاسية و انغمس الجميع في نهار ذلك اليوم تاركين خلفهم كل الصباح و ما تخلله من منغصات .
6_9_2024م ، الجمعة ، 49: 03 ، مساء .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب