
بعض المسكوت عنه في رواية «خبايا الرماد» للأردني جهاد الرنتيسي

موسى إبراهيم أبو رياش
ينبئ عنوان الرواية «خبايا الرماد» عن أمور مخفية تحت الرماد، وستكشفها الرواية. وبعد قراءة الرواية، يدرك القارئ أنها أسفرت عن بعض الأمور، وتركت لخيال القارئ أن يكتشف غيرها بنفسه، وربما ما زالت تتوضح على مر الأيام.
لكن أي رماد هذا الذي يُخفي أو يخبئ هذه الأمور؟ هل هو رماد الثورة، أم رماد التنظيمات، أم رماد العلاقات، أم رماد الأيام أم رماد الإنسان؟ أيا كان هذا الرماد، فقد يكون من خباياه جمر لم ينطفئ، ربما يكون صغيرا، لكنه يبشر بالأمل، والعنقاء لا تنبعث إلا من رمادها.
تدور أحداث الرواية في الكويت والأردن وسوريا ولبنان والعراق واليمن، وتنطلق من شخصيتها الناظمة رشاد النادي الذي يقيم في فندق المدرج الروماني المطل على الساحة الهاشمية في عمّان، ويتنقل بين وسط البلد والغاردنز وفندق القدس والرصيفة وإربد ومخيمها، ومن خلال أوراق سعد الخبايا التي استأمنه عليها، حيث تسجل هذه الأوراق بعض المحطات ومنها: العمل في الكويت، وطرد الشيوعيين منها، والصراع مع القوميين، وبدايات فتح والعمل الثوري الفلسطيني إلى الخروج من الكويت بعد الغزو العراقي عام 1990. كما تستذكر الرواية أول بعثة تعليمية إلى الكويت من فلسطين، التي حرص الإنكليز على أن لا يكون أحد من أفرادها مسيسا. كما أشارت إلى محاولات الدخول إلى الكويت تهريبا عن طريق جنوب العراق، وهروب الأدلاء، وهلاك الكثيرين في الصحراء عطشا وتيها، وتعيدنا إلى أجواء رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني.
«خبايا الرماد» إحدى الروايات التي لا تحاكم الثورة الفلسطينية، بقدر ما تكشف بعض أوراقها المسكوت عنها للعيان، فقد انتهت مرحلة تقديس الثورة، وغض النظر عن أخطائها، والتسامح مع تجاوزاتها، بعد اتفاقية أوسلو 1993 التي أنهت مرحلة نابضة بالحياة والكفاح والنضال مع ما شابها من أخطاء وعيوب وخسائر، وابتدأت مرحلة أخرى غائمة هلامية لا ملامح لها، وتحول الثوار من أحرار يحاربون الكيان الصهيوني إلى موظفين يُسالمون عدو الأمس، ويخضعون له، ويساهمون بشكل أو بآخر بتدجين من يعيش الماضي الثوري، ويحلم باستعادته، وأصبح المتمسك بالحل الثوري عميلا وخائنا وجب قمعه وكتم أنفاسه عند اللزوم.
تسير الرواية في خطين متقاطعين؛ الخط الأول ذاكرة رشاد الناجي وما يستعيده من ذكريات العمل الثوري في الكويت ولبنان، ومحور أحاديثه مع بعض الرفاق في الرصيفة وعمّان.
والخط الثاني أوراق سعد الخبايا التي وضعها أمانة عند رشاد الناجي حتى يطلبها منه، لكنه اختفى ولم يظهر ثانية، وهذه الأوراق جاءت في ثلاثة دفاتر عنونها «إفادات، ملاحظات، خلاصات» وهي عناوين دالة ومعبرة، وبشكل عام هي توثيق لجانب من العمل الفلسطيني في الكويت، وذكرت بعض الأحداث بالحقائق والأسماء والشكوك، مثل اغتيال علي ياسين، واغتيال ناجي العلي في لندن، واتهام مبطن للمنظمة بأنها وراء كل ذلك.
خدش حياء الثورة وخيانتها
ورد في الرواية مصطلح «خدش حياء الثورة» وجاء على سبيل المزاح وربما السخرية والنقد المبطن، وهذا كان أيام العمل الثوري وقبل التخلي عن البنادق، ولكن يبدو أنه بعد أوسلو لم يعد متداولا أو موجودا أصلا، وربما لم يعد يوجد حياء ليُخدش؛ لتجمد العمل الثوري، بل التبرؤ منه وتجريمه، خاصة داخل حدود سلطة رام الله، التي تعمل تحت مظلة سلطة الاحتلال، ولا تستطيع أن تحرك ساكنا دون إذن منها، وتساهم في مطاردة المقاومين، وتسليمهم لعدوهم إذا تطلب الأمر. أي أن ثوار الأمس أصبحوا أعداء ثوار اليوم.
ويضاف إلى «خدش حياء الثورة» خيانة الثورة، والخروج عن إجماع الثوار بالانشقاق، وانشغال بعض قادة الثورة بالتجارة والوكالات العالمية، بالإضافة إلى الخيانات الزوجية بين رجال ونساء الثورة، وهذا يعني أن أوسلو لم تكن البداية، بل كانت نتيجة لا بد منها لكثير من أوجه الخلل والترهل والفساد في صفوف الثورة، ما أدى إلى ضعف بنيانها، وتضعضع إيمان قياداتها بجدوى العمل المسلح، ولذا كان من السهل توقيع اتفاقية أوسلو والعيش تحت جناح العدو باستكانة وخنوع.
وذكرت الرواية أن عادل عبدالكريم هو صاحب فكرة نقل تجربة الثورة الجزائرية إلى فلسطين في عام 1958، وأن علي ياسين وصلاح خلف رفضا الانضمام إلى حركة فيها ياسر عرفات، ولم يوافقا إلا بعد أن أقنعهما عادل بأن القيادة جماعية، ولهذا الأمر دلالاته التي لا تخفى على المتابع للشأن الفلسطيني والعمل الثوري.
الرواية ليست توثيقية ولا تسجيلية؛ ولكنها تبث إشارات وتلميحات ومقتطفات عن الثورة الفلسطينية في غير مكان، وتترك فجوات هنا وهناك، وفطنة القارئ المهتم كفيلة بملء هذه الفراغات؛ ليس شرطا عن طريق البحث، وإنما يكفي التوقع والاستنتاج، فمعظم الأوراق تكشفت، وما لم يُكشف بعد، لن يؤثر على حجم خبايا الرماد التي ظهرت للعيان.
أماكن عمّانيّة
استعاد قارئ الرواية أماكن انقرضت من عمّان مثل مجمع رغدان القديم ومجمع العبدلي وجريدة شيحان وغيرها؛ أما مجمع رغدان فقد رُحلِّ إلى مجمع المحطة مؤقتا، ولكن بسبب سوء التخطيط، تحول إلى دائم، ومجمع رغدان الجديد (السياحي) تحول إلى مكان معطل وموقف للسيارات، دون أن تتم مساءلة أو محاسبة المسؤولين عن إهدار ما لا يقل عن 20 مليون دينار، وما زالت الخسائر تنزف حتى اللحظة، بالإضافة إلى خسائر مئات المحلات التجارية المجاورة للمجمع، التي تأثرت بانتقال المجمع. أما مجمع العبدلي فقد انتقل إلى مجمع الشمال، واستغل مؤقتا سوقا للبالة، ثم تحول إلى مساحات فارغة غير مستغلة. وانتقال مجمعي رغدان والعبدلي أثر بشكل كبير على الحركة التجارية في وسط البلد وما بينهما وحولهما، وتحولت الحركة التجارية إلى أماكن أخرى. وجريدة شيحان الأسبوعية التي كانت صوتا قويا مختلفا، اختفت من الساحة، ولم يعد لأي صحيفة يومية أو أسبوعية أي تأثير يذكر، وانتقل التأثير إلى المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. وذكرت الرواية أبو أحمد النيجيري بائع الفول السوداني (الفستق) الشهير جوار سوق الذهب في عمان الذي توفي سنة 2010.
أشارت الرواية عرضا إلى تخلخل العلاقات الاجتماعية، ومن ذلك أن رشاد الناجي دعاه ابن خالته المتوفاة أكثر من مرة لزيارته في مخيم إربد، ولما فعل، لم يجده، ووجد ابن خالته الآخر، وجلس قليلا من الوقت، ثم غادر بعد أن اعتذر عن دعوة باهتة للغداء. ولكن الأنكى أن رشاد الناجي كان يحرص على مكالمات ولقاءات صديقته غادة، واجتماعات رفاقه، ولم يعلم القارئ إلا في نهاية الرواية، أن له أما مريضة في مستشفى لوزميلا في جبل اللويبدة، وأنهى يوم عزائها الأول بإكمال السهرة في أحد البارات. اكتظت الرواية بأسماء الشخصيات والأماكن وتفصيلاتها، وهذا قد يكون مفيدا لمن يود المراجعة والعودة إلى تلك المرحلة، ولكنه يشوش القارئ بشكل عام، ولا يخدم الرواية. ومع أن الرواية خلت من أحداث مؤثرة أو مفصلية، إلا أنها أبقت القارئ مترقبا متشوقا ينتظر ما سيؤول إليه السرد الذي جاء كما الزمن متشظيا متداخلا، حتى في داخل الفقرة الواحدة، نجد تناوبا بين حدثين أو أكثر في زمنين مختلفين، وهي لعبة إبداعية خطرة، ولكن الكاتب نجح في عدم خلط الأمور، ولم يختلط الأمر على القارئ، فكان من السهل تتبع الأحداث، ورد كل جملة إلى سياقها.
وبعد؛ فإن «خبايا الرماد» للروائي الأردني جهاد الرنتيسي، الصادرة عن دار البيروني في عمّان، عام 2023، رواية قصيرة نسبيا (128 صفحة) إلا أنها قالت الكثير، وألمحت إلى الكثير، وأثارت العديد من الأسئلة حول مسيرة الثورة الفلسطينية، والشيوعيين، والقوميين، والبعثيين، والناصريين، وأثر التجاوزات والخلافات وصراعات السلطة والمصالح على صلابة الثورة وقوتها وإيمان الجماهير بها. وتقدم للأجيال الشابة التي لم تعاصر تلك الفترة جانبا من سردية الثورة الفلسطينية، من زاوية مختلفة، من قلم محب حريص على الثورة وتصويب مسيرتها، ويبشر بأن الأمل في جمر الرماد أن يشتعل ويُشعل من جديد، والأحداث مبشرة؛ فطوفان الأقصى، وانتفاضة الضفة الغربية تؤكد ذلك، والمقبل أجمل إن شاء الله.
٭ كاتب أردني