الأمريكي وليام كارلوس وليامز: الشَّاعر الطبيب الذي استلهم قصائده من حكايات مرضاه

الأمريكي وليام كارلوس وليامز: الشَّاعر الطبيب الذي استلهم قصائده من حكايات مرضاه
د. سارة حامد حواس
”أرى الشِّعْرَ يُحْيي النَّاسَ والمَجْدَ بالذي تُبقِّيه أرواحٌ لهُ عَطِراتُ”
ابن الرُّومي
الشِّعرُ وما أدراكَ ما الشِّعر، عندما يشعر صاحبه باندلاع شرارته الأولى بداخله، لم يستطع إيقافه أو إبطال قوته، كالبُركان الذي استوى على أرضه قبل فورانه، فمهما تكن وظيفتك أو ميولك الدراسية أو اتجاهاتك في الحياة، سيدفعك الشِّعر نحوه بصورة عفوية تلقائية لا تستطيع مقاومتها. فالشِّعرُ يجذب المهندس والطبيب والصحفي حتَّى رجل الشارع قد يحوله من إنسانٍ يغرق في التيه إلى إنسانٍ يكتب ويبدع وينجح ويصبح ذا شأن، شريطة أن يحب موهبته ويعطيها من روحه ووقته الكثير ويرويها بماء فكره وقلبه وعقله وروحه.
فالشِّعر كما العمل كلما أعطيته أكثر، أحبَّك أكثر وأذاقك من حلوه الكثير. لا أكتب هنا عن مميزات الشِّعر فحسب من دون سببٍ، ولكنني أردت أن ألقي الضوء على طبيبٍ شاعرٍ تأثر بموهبته الشعرية ولم تستطع إيقافه أو منعه من الاتجاه نحوها برغم اشتغاله بمهنة الطب – طبيب أطفال – وليس كذلك فقط، بل إنَّهُ استطاع أن يجعل تعاملاته مع مرضاه من النساء والأطفال مصدرًا وإلهامًا للكتابة والإبداع. تناولت قصائده العديد من الحكايات اليومية مع مرضاه وشكوى النساء والأحاديث التي تقع في عيادته الخاصة، واستطاع أن يستلهم منها أفكارًا جعلت من قصائده مسردًا يُحاكي الحياة اليومية العادية التي تبعد تمامًا عن المبالغات والتكلف والتصنُّع. أحاديث خام مفعمة بالصدق والعفوية والتلقائية التي تجدها في امرأة تسير مع ابنتها في الشارع وتتحدثان عن شؤونٍ خاصَّة عادية تحدث بصورة يومية، مشاهد حياتية تحدث بشكل يومي، ولكن هذا الشاعر كان لديه المقدرة في تحويل العادي إلى غير عادي، كما كان لديه القدرة في تحويل حكايات عادية إلى قصائد يتغنَّى بها الجميع بل وينال على إثرها أرفع الجوائز الأدبية الأمريكية ومنها جائزة بوليتزر.
إنَّه الشاعر والناقد الأدبي والروائي الأمريكي وليام كارلوس وليامز (1883ـ1963) الذي ولد في رذرفورد بولاية نيوجرسي في الولايات المتحدة الأمريكية لوالد وُلِد في إنكلترا وكانت والدته من بورتو ريكو. وكانت رذرفورد معروفة بأنها مدينة للمسافرين دائمي الانتقال ويسافرون منها إلى نيويورك، وكان الوالد وليام جورج وليامز يحرص دائما على تعريف ابنه بالأعمال الأدبية والفنية الكلاسيكية، بما في ذلك أعمال الكاتب المسرحي والشاعر الإنكليزي وليام شكسبير.
ويُعدّ وليامز أحد أبرز الشعراء الحديثين، وكتب بأسلوب فريد يُعرف باسم ”التصويري ”Imagism أو الصورانية، حيث كان أحد الأعضاء المؤسسين لها، وصارت من التيارات الرئيسية التي ألهمت أعمال وليامز الناضجة. اتبع الشاعر نهج ”الإظهار” لا ”الإخبار” في شعره، أو بمعنى آخر كان يكتب بطريقة تخلق صورًا ذهنية لحدثٍ ما في ذهن القارئ، الذي عليه أن يفهم المعنى من تلقاء نفسه، أي يتبع منهج ”غير المباشرة”، وهذا من وجهة نظري الخاصة من شروط النص الأدبي الإبداعي، بمعنى أن يحمل النص عدة تأويلات تُفسر من القراء كُلٍّ حسب ثقافته ومعرفته وخبراته ومنظوره للحياة.
كانت محاولات وليامز الأولى في كتابة الشعر خلال فترة دراسته الجامعية غير ناجحة، ومع ذلك استطاع تدريجيًّا أن يطوِّر من شعريته بالتعليم الذاتي المستمر. كانت أول مجموعة شعرية له والتي نشرها لنفسه في رذرفورد بعنوان «قصائد» في عام 1909.
وفي بداية مسيرته الأدبية، ارتبط بشدة – تحت تأثير الشاعر الأمريكي إزرا باوند بالطليعيين في نيويورك، وبالحركة التصويرية التي أطلقها مجموعة من الشعراء الأمريكيين والإنكليز صِيغ برنامجهم الشعري في عام 1912 من قِبل باوند بالتعاون مع شعراء آخرين مثل هيلدا دوليتل وريتشارد ألدينغتون وف. س. فلينت، مع استلهام الآراء النقدية للشاعر الإنكليزي ت. إ. هولم.
ولم تكن أولى أعمال شعر وليامز مميزة بشكله الخاص المعروف بالشكل الناضج. أما مجموعته الشعرية «الربيع وكل شيء»، التي نشرت في عام 1923 فتعتبر نُقطة تحوِّل بالنسبة لوليام، حيث كانت مجموعة من مقاطع شعرية ونثرية مُتوالية، وقد وصلت المرحلة التجريبية من أعماله إلى ذروتها في هذا الكتاب، وأدى ذلك إلى إضفاء نوع من الطابع الفردي الخاص على عمله، وإحدى أشهر قصائده ‘»العربة الحمراء» كانت متضمنة في هذا الكتاب.
وعلى الّرغمِ من الاعتراف الواسع به بين الأوساط الأدبية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، لم يكن وليام معروفًا بشكلٍ كبيرٍ بين عامة القُرَّاء. ولكن بعد تأسيس تعاون مع دار نشر ”نيو دايركشنز” في عام 1937 والتي أُسست بناءً على مبادرة باوند، بدأت أعمال وليام تأخذ وضعها تدريجيًّا في الوسط الأدبي المعاصر، وباتت شعبية شعره المتزايدة حينها مرشدًا للأجيال الأدبية القادمة وملهمًا لكُتَّابٍ متنوعين مثل الشاعر الأمريكي ألن غنسبرغ والشاعر الأمريكي روبرت لويل.
نال وليام التقدير الأدبي والنقدي بعد الحرب العالمية الثانية مع ظهور قصائده:
«باترسون»، «الشخصية العظيمة»، «أسفوديل تلك الزهرة الخضراء»، و«العربة الحمراء»، التي تعتبر مثالًا لأسلوب الحركة ”التصويرية”. بعد ذلك، أصبح وليام مرجعًا رئيسًا لكُتَّاب «جيل البيت «Beat Generation وكذلك لمدرسة نيويورك ونهضة سان فرانسيسكو.
أمَّا عن الجوائز، فقد نال جائزة الكتاب الوطني الأولى في الشعر عام 1952 وعُينَ استشاريًّا في الشعر لمكتبة الكونغرس في واشنطن، ولكن مُنع بعد ذلك من إكمال فترة ولايته بسبب اتهامات لا أساس لها حول انتمائه إلى منظمة شيوعية. استأجر حينها محاميًا للدفاع عن نفسه ضد هذه الاتهامات، لكن لم يُسمح له بالرد على منتقديه ولم يحصل أبدًا على اعتذار من مكتبة الكونغرس. ومع ذلك، حصل بعدها في السنة التالية على جائزة بولينغن مع الشاعر الأمريكي أرشبيلد ماكليش. كما مُنح جائزة بوليتزر في عام 1963 عن ”صور من بروغيل وقصائد أخرى»، وميدالية الذهب في الشعر من المعهد الوطني للفنون والآداب. وقد أُدرج منزل وليامز في رذرفورد في السجل الوطني للأماكن التاريخية عام 1973 وأُدخل في قاعة مشاهير نيوجيرسي في عام2009.
وتُبنى شعرية وليام عن طريق تقديم الأشياء لقيمتها الذاتية وليس من منظور ميتافيزيقي، كما كان مهمًا عنده توثيقُ التجربة الأمريكية لمعاناة العديد من الكُتَّاب الحداثيين في المنفى الأوروبي. وقد التقط جوهر اللغة الأمريكية كما يجب أن يكون وذلك من خلال اللغة اليومية، حيث تتسم بالمباشرة وخالية من التعقيد وتستند تعبيراته الشعرية إلى معجم أمريكي أصيل. كذلك سعى دومًا إلى الوضوح للوصول إلى المعنى الكامل والرمزي للرسالة التي تتضمنها أيٌّ من قصائده. واتبع وليامز هذا المنهج في أعماله باستمرار حيث كان يخصص مساحة كبيرة لتجاربه اليومية وملاحظاته، وبذلك كان العديد من قصائده بمنزلة بورتريهات لأمريكا اليومية مع التركيز على جوانبها الخاصة.
ومن سمات شعر وليام المهمة مسألة ”القافية”، خاصة في سياق ”التدوين”، فهو مؤلف مفهوم الشعر ذي الخط الثلاثي Triadic-Line Poetry حيث يُقسم كل جملة إلى ثلاثة أجزاء (تشكل كل منها تفعيلة أو وزنًا محددًا) في سطرٍ منفصل. وبهذه الطريقة يحتفظ الشاعر بالإيقاع الطبيعي للعبارة، بينما لا يكسر القضايا الشكلية للتدوين. كما أنه طوَّر مفهوم المقاييس المتغيرة، وهو متجذر في بنية اللغة الأمريكية نفسها وكانت هذه الاكتشافات ثمرة لملاحظاته الدقيقة حول كيف ومتى وتأثير الراديو والصحف على طريقة تواصل الناس مع بعضها.
مهنة وليام كطبيب وممارس عام أثرت على اختيار موضوعات شعره وقالت في ذلك الأكاديمية والمؤلفة الأمريكية ليندا واغنر مارتن : «إنه عمل بجدّ ليصبح كاتبًا كما عمل بجد في مهنته بوصفه طبيبًا». لهذا السبب، قد تفشل أعمال وليامز غالبا في التحليل ضمن الخطابات الأيديولوجية.
فمقارنة به، يُعتبر إزرا باوند أو والاس ستيفنس أو ت. إس. إليوت أرستقراطيين في الكتابة، حيث كانوا يسعون إلى تعبيرهم الخاص في مجالات مختلفة تماما.
أما عن ديمقراطية وليام، فقد تشعر بها متجلية في قصائده من خلال اختياره مرضاه ليبني عليهم قصائد ممزوجة بحكاياتهم وخياله الخصب، فقضى معظم حياته يجمع بين عمله بوصفه طبيبًا والكتابة، لذا كان يعتبره الديمقراطيون العصريون قريبًا من تفكيرهم، ونشر على نطاق واسع في المجلات السياسية الراديكالية، واعتبر نفسه اشتراكيًا ومعارضًا للرأسمالية، ونشر عدة قصائد تعكس القضايا الاجتماعية والسياسية مثل «اليخوت» التي صورت النخبة الثرية كطفيليين والطبقات الشعبية على أنها تأمل في ثورة.
ومن ناحيتي أحب أن أكتب عن الإنسانية والبساطة، وعن الشعراء الذين وصلوا إلى هذه الرتبة ”رتبة إنسان”، نعم إنسان، فالإنسانية رتبة لا يصل إليها إلا من ارتفعت روحه وفطرته على المادة والمادية مثل وليام الذي قضى حياته مع مرضاه وحكاياتهم التي استلهم منها قصائده وشعره بعيدا عن التكلف والمبالغة.
وقد اختار أن يدوِّن ما يحدث مع الإنسان العادي المريض من معاناة وآلام، حركت تلك الأحاديث مشاعره وكتبها في قصائد تتسم بالبساطة والعفوية والعمق، مبتعدًا عن التعقيد والكلمات التي لا يفهمها إلا الإنسان المثقف، فاقترب أكثر من العادي وذاق حلاوته برغم مرارته وشعر أن رسالته ليست قصائد متحفية فحسب، بل قصائد تعبر عن الذات الإنسانية بداوخلها ونواقصها وهشاشتها، معتمدًا اللغة الأمريكية اليومية، مبتعدًا عن اللغة الرسمية المتقعرة التي لا تمت للإنسان العادي بصلة. لذا اقترب وليامز من قلوب متلقيه ببساطة وعفوية من دون تعمد، حيث شعر أن رسالته في الحياة هي معالجة مرضاه ليس بالأدوية فقط بل بالكتابة الشعرية التي فجرت الكثير من القضايا الاجتماعية التي تخصهم. وبرغم تعرضه إلى العديد من المشاكل بسبب ذلك، فإنه لم يتوان عن إكمال رسالته حتى أنه ظل يكتب حتى آخر يوم في عمره.