
إيف كلين: مبتكر الفراغ الفني وصانع الأسطورة الزرقاء

مهدي غلاّب
إذا كانت مجهودات البحث في تقنيات اللون منذ بداية الخمسينيات سببا في وفاته المبكرة عن سن تناهز 34 سنة بسبب استنشاق المكونات الكيميائية الصباغية، فإنها شكلت تحولا جذريا في مسيرته التشكيلية في فترة صعبة وقصيرة، قادته في ما بعد تدريجيا إلى تأسيس مشروعه البصري المعاصر المعروف بـ»الكي بي آي» (K.B.I)، كسبق فني لابتكار علامة النموذج الكليني الأزرق. شكل هذا التوجه المجدد ميزة معتبرة في الساحة البصرية آنذاك، قاده إلى ذروة النجاح والعالمية. تبلور هذا التوجه خاصة عبر الدخول في تجارب بصرية متفاوتة ولافتة، بعيدة عما عرفه في المحيط العائلي والقريب.
بدأ ظهور فكرة التجديد عند الفرنسي أيف كلين بعد إبعاده من صالون الواقعية الجديدة ورفض عمله «تعبير الكون» الذي قدمه في 1955، فاتجه مباشرة إلى مراجعة مساره، والبحث عن بديل فني جمالي يمكّنه من دخول الساحة التشكيلية من بابها الكبير. بذلك اتخذت مباحثه الجمالية المبتكرة على اختلافها مسارات عمودية تصاعدية خرج بها من دائرة التكرار والاجترار والتمثيلية الصوَرية التقليدية التي عاشها في صغره. ساعد استلهامه للأفكار الروحانية من خلال معايشته بالخصوص للثقافة الشرقية اليابانية، حتى قبل الفن (الجيدو) والتقاليد العائلية، إضافة إلى حساسيته الفنية في خلق اتجاه تشكيلي مجدد يوظف التفكير والتأمل والاستلهام، كبذرة أولية للمسار المفاهيمي، تعتمد بشكل كامل على التقديم الصُّوري (النظري) للأعمال، مع اهتمام لافت بالجوانب الإجرائية والعملياتية المتباينة من عمل لآخر، ما جعل الجمهور والنقاد يقبلون على الاهتمام بمختلف تقديماته الإبداعية المبتكرة. فأمكن له أن يفخر ببناء قاعدة جماهيرية، لاسيما في الفن المعاصر أهلته لعدد من التجارب البصرية المهمة بدأت بالمغامرة الزرقاء ثم تدرجت إلى تجسيم الجسد أو ما يسمى بالأنثروبومورفيا مرورا بتوظيف الدفق المائي في تحويل الأجسام ثم اعتماد قوة نيرانية هائلة لنحت المواد الخشبية، وشبه الصناعية، وما يمكن الإشادة به من تأسيس لمرحلة فكرية تركت اللوحة واتجهت إلى مخاطبة الإدراك والصورة الذهنية عبر مبدأ التسطيح، الذي قلب المنهج التشكيلي رأسا على عقب لما شكله من تحويل كامل للتعاطي مع الصورة الفنية ولما أحدثه من تحوير معتبر في جوهر المفاهيم. تُوّج هذا المشروع بالتعويل على الأحادية اللونية (monochrome ) كأحد أهم الطروحات البصرية المعاصرة. غير أن التجربة الفريدة والجوهرية في مسار كلين الحقيقية تمثلت أساسا في مفهوم الفراغ، الذي سبق فيه غيره وشكّل بذرة ولادة الحركة التعبيرية التجريدية.
من تجسيم الجسد إلى تسطيح المساحة الزرقاء
يقول كلين: «لا أعتبر نفسي فنانا صُوَريا ولا فنانا تجريديا»، لذلك يبدو كل ما طرحه ثريا، حيويا ولافتا، حتى إن بعض النقاد وصفوا تجربته بالمغامرة الزرقاء التي تجاوزت كل التوقعات، سواء كان ذلك باعتماد التعدد اللوني التزويقي (مربعات الفسيفساء الصباغية)عبر استنباط خيار المادة اللونية الواحدة التي أصبحت في ما بعد «علامته الفنية»، أو حتى بالتوافق والتماهي مع أفق السماء الأزرق، الذي يبث من خلاله الفنان أبعادا روحية وفلسفيّة، كإشارات لمفهوم الحساسية اللونية الافتراضية الذي تميزت فيه الخيارات التشكيلية بالانفتاح والخروج من الإطار المحدود للمحامل. باعتماد وحدة المساحة ورفض التعارض بين الشكل والخلفية شق الفرنسي طريقا صعبة في مسيرته المحدودة زمنيا، اختلط فيها الطابع السيادي (سطوة اللون الواحد) الذي فاق فيه مالفيتش، بالطابع التجريدي المعاصر الذي تميز فيه عن بولوك، بالبعد المفاهيمي الذي اتجه فيه إلى زاوية نورانية تبحث في الروح، مرورا بالتناولات المادية التي تراوحت بين تشريب اللون في المساند الإسفنجية المصقولة والجسدية، التي اهتمت بقياسات طبع الجسد العاري المطلي على طول المساحات الجدارية، في إشارة لمفهوم «الأنثروبومرفيا» الذي ينطلق من الواقعية، متجها إلى الواقعية الجديدة كنافذة انفتاح على المحيط، ومحاولة للغوص في متاهات الكون العميقة، ما يجعل القراءات الكلينية تتطابق مع الفلسفة الروحانية الشرقية، التي تهدف إلى الترابط والسعادة والسلام الداخلي، إضافة إلى تعاليم الإيمان والممارسات التطبيقية عبر اليوغا سبيلا للوحدة التامة وفناء الجسد في الروح.
الاشتغال في الفراغ أو بسيكولوجيا التشكيل:
إن تجاوز إشكالية الفن عند كلاين لم تكن مجرد فكرة، بل تعدت ذلك إلى موقف راديكالي، رفض فيه علاقته بالتيار الطلائعي، ما أدى به إلى مقاطعة الفنانين والنقاد المعاصرين، وعدم حضور المعارض، خاصة في الفترة الخمسينية. وهي توجهات مرتبطة بمجموعة خصائص بشرية ونفسية متعلقة بالميراث العائلي والثقافي، إضافة إلى الرغبة الملحة في الصعود سريعا عبر مبدأ الاختلاف والغرابة، إذ يقول في هذا الخصوص: «إن الفنان ليس مجرد كائن يتسكع من لون إلى لون، بل يجب عليه تنويع الأشكال الفنيّة». وهو ما ينطبق على مساره التشكيلي، الذي تميز بتعدد الممارسات البصرية من تقنيات التجاور والتراكب إلى الاهتمام بالبعد البانورامي، سواء كان ذلك بعرض عمودي أو أفقي، والعودة إلى الأعمال القياسية على الجدران وتمطيط اللون الواحد، وصولا إلى التجاوز المطلق، الذي أظهر حساسيته الفنية المخفية، خاصة في معرض الفراغ في رواق ألندي في باريس في 1957، الذي احتفل فيه بتقديم جدران خالية من كل عمل، حيث تم بيع عدد من الأعمال اللامادية المرتبطة بالحساسية الفنية عبر تقديم وصولات في شكل صكوك مقابل سبيكة ذهبية واحدة لكل عمل غير مرئي. هذا التمشي كان يهدف للوصول لمبدأين على الأقل:
– المبدأ الأول، فني: تمثل في تجاوز المنظومة النقدية نفسها المتبعة في التعامل إلى يومنا هذا.
– المبدأ الثاني، شخصي: اتضح بالخصوص في رغبته المستميتة في التميز والظهور، لاسيما باتباع مباحث تحتمل السطحية والتعدي والسذاجة والتحامل على الذات والجسد، ما جعل المهتمين والنقاد يطرحون السؤال وراء الآخر عن العملية الفنية المعاصرة، التي باتت تتموقع بين الإنسانية واللاإنسانية. ما الفن؟ ما الجدوى من هذا التوجه؟
غير أن كلين يعتبر أن تجاوز الفن الموجود على الساحة يحيده عن خيبات الواقع المتراكمة ويقوده إلى السمو. فانكسار الحدود وانطلاق لانهائية الخطوط يؤدي إلى لانهائية الروح، وبالتالي الخلود في اللحظة الفنية للاستمتاع بالنشوة الروحية الفائقة. وكلها «نجاحات» متهورة للفنان وتَعدٍّ لافتٌ يضاف لمساره البصري، أدى به إلى الوصول لتجربة معانقة الفراغ ولو لبرهة عبر القفز من ارتفاع هائل، دون احتياطات سلامة – كان من الممكن اتخاذها – بهدف توليد الأسطورة الخرافية التي تتعاقبها الأجيال، ثم بعد ذلك الرحيل مبكرا بسبب أزمات متعددة متعلقة بطبيعة تفاصيل المبحث التجريبي المخبري المعاصر الذي اتخذه.
كاتب تونسي