ثلاثة نصوص من كتاب « الرشفة الأولى من البيرة والمتع الصغيرة الأخرى»

ثلاثة نصوص من كتاب « الرشفة الأولى من البيرة والمتع الصغيرة الأخرى»
فيليب دلم – ترجمة: مفتاح النحالي- سلوى النحالي
الرشفة الأولى من البيرة
إنها الوحيدة التي تستحق الاهتمام فشتان بينها وبين الرشفات الأخرى، فهن لا يقدمن غير طلاء فاتر للسان. كلما تجرع منها أكثر كلما فقدت معناها وصارت مجرد إسراف. ربما من رحم معاناة الرشفة الأخيرة يستعيد بعضا من قوته، لكن الرشفة الأولى لها رونقها الخاص إذ لا تتعلق فقط بالحلق، بل تبدأ رحلتها عبر الشفاه أولا ومن ثمة يتدفق هذا الذهب الفوار المنعش ذو الرغوة الكثيفة، ليصل ببطء إلى الحنك وكأنه سعادة ملثمة بالمرارة. ما أطول هذه الرشفة الأولى! فهي تكاد تعانق الخلود، إنه يحتسيها دون تردد وبغريزة جشعة وزائفة.
في الحقيقة كل شيء مكتوب هنا: تلك هي الكمية المناسبة التي تصنع البداية المثالية، فهذا الشعور الفوري بالراحة يتخلله تنهد، أو طقطقة لسان، أو صمت يعادل ذلك الشعور المخادع بالمتعة التي تنفتح على أبواب المطلق وتعلن أن أفضل اللحظات قد انتهت حقا.
يضع كأسه جانبا ويبعده قليلا عن الورقة الصغيرة التي تحته، فقد أزف الوقت لتذوق اللون الذي يبدو كعسل اصطناعي ومثل شمس باردة. ينبغي أن يجرّب كل طقوس الحكمة والانتظار، ليستطيع فهم هذه المعجزة التي حدثت وتلاشت في آن .يقرأ بارتياح على جانب الزجاج الاسم المحدد للبيرة التي كان قد طلبها، ويتساءل عن تلك العلاقة التي تربط بين الوعاء وما يحتويه، فيدرك أن لا مجال لسد الهوة بينهما.
كم يتوق إلى كتمان سر هذا الذهب الصافي وحبسه في شكل شيفرات! غير أنه مثل عالم كيمياء محبط، يجلس أمام طاولته البيضاء المبقعة بضوء الشمس، لا يفقه غير ظاهر الأشياء. ها هو يشرب كثيرا من البيرة لكن بمتعة تتناقص شيئا فشيئا. إنها سعادة مريرة .. ذلك أنه يشرب كي ينسى الرشفة الأولى.
كُرْوَسّان الرصيف
كان أول من استيقظ من النوم، بدا حذرا كحارس هندي وهو يرتدي ثيابه ويتسلل من غرفة إلى أخرى، فتح باب المدخل ثم أوصده بدقة فائقة تحاكي تلك الدقة التي يتسلح بها الساعاتي أثناء عمله. ها قد صار في الخارج، في زرقة الصباح التي تلتفّ بالوردي في مزيج متنافر لولا البرودة التي تطهّر كل شيء. ينفخ سحابة من الدخان في كل زفير. يشعر بوجوده فهو حر وخفيف على الرصيف في هذا الصباح الباكر. من الأفضل أن تكون المخبزة أبعد قليلا. كان يشبه كيرواك وهو يضع يديه في جيوبه ثم يخطو بعيدا، فبدت كل خطوة وكأنها عيد. لقد تفاجأ بالمشي على حافة الرصيف كما لو كان طفلا ليكتشف أن ما يهم حقا هو هوامش الأمور وأبسطها. إنه وقت نقيّ فهذه فسحة ينهبها من النوم، بينما الآخرون كلهم أو بالأحرى أغلبهم نيام. هناك، يتراءى له ضوء المخبزة الساخن، إنه غاز (النيون) بيْد أن الحرارة تمنحه انعكاس العنبر. عندما يقترب من المكان يظهر الضباب على زجاج النافذة ويحظى بتلك التحية المرحة التي تحتفظ بها الخبازة حصرا لأول الزبائن، أولئك هم أحباء الفجر.
خمسة كُرْوَسّانات وخبزة باغيت غير مطهية كثيرا!
تتراءى الخبازة في أقصى المتجر مرتدية مئزرا يغطيه الدقيق فتلقي عليك التحية كما يُحيّي الشجعان ساعة القتال. يجد نفسه مجددا في الشارع فينتابه شعور قوي بأنّ طريق العودة سيكون مختلفا، فالرصيف أمسى أقل حرية وبورجوازيا إلى حد ما بسبب هذا الخبز العالق تحت المرفق وبكيس الكُرْوسان الذي يمسكه في اليد الأخرى.
يأخذ قطعة كُرْوسان من الكيس فتبدو العجينة دافئة وطرية، تجعل هذه اللقمة الصغيرة، وهو يمشي في البرد، صباحَ الشتاء يتحوّل إلى كُرْوسان من الداخل وكأنه قد صار هو نفسه الفرن والمنزل والملجأ. يتقدم بهدوء بالغ مشبعا باللون الأشقر ليعبر الأزرق والرمادي والوردي الذي يتلاشى.
يطلع النهار وأفضل ما فيه قد أُخِذ بالفعل.
رائحة التفاح
يدخل القبو. ما يشدّه في الحال هو أنّ التفّاحات هنا مرتّبة على الرفوف في صناديق مقلوبة. لا يفكر في ذلك ولم يكن لديه أي رغبة في أن يترك التعاسة تغزو روحه. لكن ما من شيء يمكن فعله، فرائحة التفاح تغرق المكان كموجة عاتية.
كيف استطاع العبور، منذ وقت طويل، من هذه الطفولة المريرة والحلوة؟
ينبغي أن تكون الثمار الذابلة لذيذة بذلك الجفاف الزائف إذْ تبدو هذه النكهة المحلاة قد تسلّلت إلى كل تجعيدة، لكن ليست لديه رغبة في أكلها ولا يريد أنْ يحوّل هذه القوة العائمة للرائحة إلى طعم يمكن التعرّف عليه. القول إن هذه الرائحة طيبة وأنها رائحة قوية غير ممكن فهذا أبعد من ذلك بكثير.
إنها رائحة داخلية، رائحة الذات الفضلى، حيث خريف المدرسة محبوس هناك، وحيث نخربش بالحبر الأرجواني على الورق خطوطا سميكة وأخرى رقيقة..
المطر يدق على البلاط مؤذِنا بأن الليل سيكون طويلا، لكن رائحة التفاح أكثر من مجرد ماض، يفكر في الماضي بسبب قوة وشدة هذه الرائحة، تلك الذكرى المقبلة من قبو متعفن وعلّية مظلمة. لكن عليه العيش هنا، عليه أن يظل واقفا خلف الأعشاب الطويلة والبستان المبلل أمامه مثل نفس دافئ يتسلل إليه في الظل.
أخذت الرائحة كل الألوان البنية والحمراء وقليلا من الحموضة الخضراء. من نعومة القشرة استقطرت الرائحة خشونتها الخفيفة. تعلم الشفاهُ الجافة مسبّقا أن هذا العطش لا يمكن إرواؤه فلا شيء سيحدث حين نقضم اللبّ الأبيض. يجب أن نصبحَ أكتوبرَ، أرضا مدمّرة ورطوبة قبو ومطرا وانتظارا. رائحة التفاح مؤلمة…إنها رائحة حياة أقوى ذات خمول لم نعد نستحقه.
*- فيليب دلم : كاتب وروائي وشاعر فرنسي
**- مفتاح النحالي: شاعر ومترجم تونسي.
***- سلوى النحالي: مترجمة تونسية