رواية «أفعال بشرية» … شاهدا على مذبحة غوانغجو
رواية «أفعال بشرية» … شاهدا على مذبحة غوانغجو
عبدالله الحيمر
«بعد وفاتك لم أستطع إقامة جنازة، وهكذا أصبحت حياتي جنازة»
في عام الإبادة الجماعية في غزة، وفي زمن الانتصار على سردية المذابح والمجازر الصهيونية وبجدارة الحياة الفلسطينية بملحمة طوفان الأقصى. تفوز الروائية هان كانغ بجائزة نوبل عن مجمل أعمالها الروائية، وكانت شاهدة على الوجه الخفي للتوحش الإنساني بالإبادة الجماعية برواية «أفعال بشرية»، تنتصر فيها لإنسانيتنا المؤجلة بأقنعة الحقيقة وفك شيفرة الذاكرة المعتقلة.
وفي إطار أسئلتها الوجودية التي تتعلق بمدى هشاشة إنسانيتنا، اعتقدت أنه يمكنها العثور على المعنى الحقيقي للعالم عن طريق الكتابة بحبر الكآبة. فهل يمكننا التساؤل كنقاد وقراء، عما تبحث عنه في روايتها. هل الحقيقة كإنصاف ومصالحة؟ أم عن مواجهة مجازر ومذابح عصرها في صياغة المستقبل الإنساني؟ أم هي شكل من أشكال المقاومة التي يواجه بها الإنسان ما يسميه هيدغر «نسيان الكائن»؟
أولا تواجهنا بأحد أهم أسئلة عصرنا ما هي الإنسانية؟ شهادتها الجريئة مكان جيد للبدء منه في البحث عن إجابة، علما هي تقول مسبقا: «وبدلا من البحث عن إجابات من الناس، التفتّ إلى الكتب عندما كنت مراهقة، عانيت من أسئلة نموذجية: لماذا الألم، ولماذا الموت؟ اعتقدت أن الكتب تحتوي على الإجابات، لكن من الغريب أنني أدركت أنها تحتوي فقط على أجوبة ضعيفة وأنهم ضعفاء مثلنا تماما» فهي تواصل توجيه أسئلتها المتميزة في كل روايتها عن العنف البشري وعن ثقل الضمير، وصعوبة أن تكون إنسانا حائرا وأن تكون ناجيا. وتكتب شهادة بحد السكين عن الجرح الغائر في إنسانيتنا بتأمل جاد وحكيم، وعن استعدادنا كبشر للمخاطرة براحتنا وحريتنا للدفاع عن قضية ما.
رواياتها تردد صدى بعضها بعضا: الأرواح تتحدث، والأجساد تتحول، والأشياء تختفي. هناك إحساس بالحلم والبحث في كل شخوص أبطالها، عالقة في طرح أسئلة وجودية على نفسيهما. وضحت كانغ أن البحث عن موضوع رواية «أفعال بشرية» وكتابتها أوصلها إلى حافة فقدان الثقة في البشرية قائلة ذات مرة، «كدت أستسلم». ولكنها تحدت فظائع مجزرة غوانغجو بمجابهة قوية للنسيان، مع دعوة حقيقية للبحث عن الحقيقة والتصالح مع الماضي المؤلم. ففي كوريا الجنوبية لم يتم الاعتراف بها ولم يتم إصدار أي معلومات حتى عام 1997 ـ بعد سبعة عشر عاما من الحقيقة ـ ولم يتم الكتابة عنها في الأدب إلا في مطلع الألفية. وكانت الحقيقة تتشوه في «إصدارات رسمية» مختلفة. والأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لكانغ هو أن الأطفال في سن المدرسة لا يعرفون أي شيء عن تلك المجزرة، التي خلفت آثارا عميقة في ذاكرة وطن. قائلة: «أردت أن أعير أحاسيسي، وحياتي، للأشخاص الذين قتلوا».
يمكن اعتبار رواية «أفعال بشرية»، التي نالت بترجمتها الفرنسية جائزة ميديسيس للأدب الأجنبي عام 2023، مرثية حزينة وشهادة جريئة عن انتفاضة مدينة غوانغجو عام 1980. رواية عن الراحلين والباقين والعالقين بين الرحيل والبقاء. قصة يرويها أحياء عن أموات وأموات عن أحياء. تحفر في أعماق الروح البشرية لوصف الألم والحزن والإحباط. تتضمن دعوى قوية للكشف عن ذاكرة مؤلمة دفنت لعقود، تخللها حداد وكوابيس، مع شخصيات لا نعرف هل هي أشباح أم أحلام أم لها حضور حقيقي؟ محاولة فك لغزين غير قابلين للحل: كيف يمكن للبشر أن يكونوا عنيفين وقاسين للغاية، وماذا يمكن للناس أن يفعلوا لمواجهة مثل هذا العنف الشديد؟
طلبة مقيدون من قبل قوات الجيش في غوانغجو
في رواية «أفعال بشرية» (2014) تستخدم هان كانغ حدثا تاريخيا وقع في مدينة غوانغجو ، كأساس سياسي لها، حيث نشأت هي نفسها وحيث قُتل مئات الطلاب والمدنيين العزل خلال مجزرة نفذها الجيش الكوري الجنوبي عام 1980. في سعيها لإعطاء صوت لضحايا التاريخ، تواجه الرواية هذا الحدث بتجسيد قاسٍ، وبذلك تقارب نوع أدب الشهادات. لقد اكتشفت المذبحة عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها؛ كان مخبأ على الرف العلوي لخزانة كتب العائلة ألبوم تذكاري تم توزيعه سرا للصور التي التقطها صحافيون أجانب. تم وضعه على رف منعزل في الخزانة لمنع هان وإخوتها من العثور عليها. حول الاكتشاف الصادم من صدمة عامة إلى صدمة شخصية للغاية. تكتب هان: «أتذكر اللحظة التي سقط فيها نظري على الوجه المشوه لامرأة شابة، وقطعت ملامحها بحربة، والحلق المقطوع بأداة حمراء بارزة، وأصابع القدم المتعفنة، والجثث المتحللة، قائلة، «بصمت، ودون ضجة، انكسر شيء رقيق في أعماقي. شيء لم أكن أدرك وجوده حتى ذلك الحين». مضيفة: «شعرت بالخوف والصدمة بعمق في داخلي. ما جعلني أفكر إلى أي مدى يمكن للبشرية أن تذهب وأن تظل بشرية.. لقد بقي ذلك معي دائما وهو شيء يجب عليّ إعادة إنشائه باستمرار. إنه لغز، سؤال أساسي في داخلي، لذلك يظهر في كل ما أكتبه «.
بأسلوب شعري مؤثر، تسرد فيه قصة النضال الصامت والطويل للناجين، الذين لا يزالون يبحثون عن أفراد أسرهم المفقودين منذ تلك الحادثة المروعة. تصف كانغ رحلتها في كتابة هذا العمل، فتقول: «استغرق مني الأمر وقتا طويلا لأكمل هذه الرواية. وعندما سئلت عن طبيعة ما أكتب، وجدت نفسي في حيرة أمام تعدد التفسيرات. أحيانا كنت أقول إنها تتحدث عن التجربة الإنسانية الكاملة. كنت صادقة في كل تلك الأجوبة، ولكن إن كان عليَّ أن أختار وصفا واحدا، فسأختار القول إنها رواية عن التجربة الإنسانية الكاملة». ومن ثم تقول: «هل صحيح أن البشر بطبيعتهم قساة؟ هل تجربة القسوة هي الشيء الوحيد الذي يجمعنا كجنس بشري؟ هل الكرامة التي نتمسك بها ليست سوى وهم ذاتي، نخفي به الحقيقة الوحيدة: كل واحد منا قادر على أن يتحول إلى حشرة، وحش مفترس، أو كتلة من اللحم؟ هل الإذلال والقتل هو جوهر الإنسانية، الذي أكد التاريخ على أنه حتمي؟».
لقد أثار العنف «انتشاره في كل مكان» من كوريا المعاصرة، قلق الكاتبة هان منذ صغرها. وهي ابنة الروائي هان سونغ وون، وقد ولدت في غوانغجو، وهي مدينة إقليمية بالقرب من طرف شبه الجزيرة الكورية. انتقلت عائلتها إلى سيول عندما كان عمرها أربعة أشهر، من قبيل الصدفة، قبل أن تدمر انتفاضة غوانغجو مسقط رأسها. قُتل المتظاهرون السلميون والمارة بوحشية. مضيفة: «لن أنسى ضياع الكرامة الإنسانية في صور الطابور الطويل للغاية للأشخاص الذين أرادوا التبرع بدمائهم للجرحى بعد إطلاق النار الجماعي عليهم.. كانت هذه الأسئلة مختومة في داخلي. لم أكن أريد أن أكتب عن المذبحة نفسها. أردت فقط الخوض في معنى أن أكون إنسانة تنتصر لما هو إنساني فينا».
بدأت في بناء معمار الرواية وهي بعمر 42 سنة. مرهونة بهواجس إنسانية وبسؤال لا ينتهي عن كينونتها. قائلة: «صحيح أنني بدأت في تجميع الوثائق المتعلقة بغوانغجو في ديسمبر/كانون الأول 2012. لكن الشعور بأن هذا كان شيئا أحتاج إلى الكتابة عنه كان معي منذ يناير/كانون الثاني 2009. في ذلك الوقت، تم تخصيص مبنى في منطقة يونغسان في سيول لإعادة التطوير، وأقام أولئك الذين استأجروا شركات صغيرة هناك اعتصاما على سطح المبنى للاحتجاج على التعويض الضئيل الذي تم عرضه عليهم. مارست الحكومة استخداما غير متناسب للقوة لتفريق الاحتجاج، حيث اندلع حريق أودى بحياة خمسة متظاهرين وضابط شرطة واحد. رأيت المبنى المحترق في الأخبار، وفكرت في غوانغجو. شعرت بأنها قد عادت إلينا مرتدية وجها مختلفا، لم يعد اسما مناسبا، بل أصبح اسما شائعا؛ إننا كنا نعيش عن غير قصد داخل غوانغجو طوال هذا الوقت؛ وأنها كانت تكشف عن نفسها في تلك النيران القصيرة. لأنني اعتقدت أن غوانغجو أصبح الآن اسما ينطبق على شيء عالمي وليس خاصا بأي مكان أو بلد واحد، فإن الوثائق التي قرأتها لاحقا لا تتعلق فقط بغوانغجو، ولكن أيضا أوشفيتز والبوسنة ونانجينغ ومذبحة الأمريكيين الأصليين. وروت هان كانغ ما مرت به في سن العاشرة عندما قمع النظام الديكتاتوري في غوانغجو الثورات الطلابية والنقابية بشكل مأساوي. فهي ما زالت تتذكر يقظة الجمهور الكوري، وكلمات امرأة كورية في السبعينيات من عمرها كانت تبكي وتقول: «الديكتاتورية لم تدع أي معلومات تمر». حملت هان كانغ رسالة أمل من خلال روايتها قائلة: «حتى لو سعى المرء إلى دفن الحقيقة، إنها ستظهر مرة أخرى يوما ما».
الكاتبة هان امرأة ذات تفكير كاريزمي، أخذها بحثها إلى بعض أحلك حلقات تاريخ القرن العشرين، ليس فقط في كوريا، ولكن في البوسنة وفي أوشفيتز. «كنت أخشى أكثر فأكثر أن أفقد ثقتي في البشرية». كنت على وشك الاستسلام عندما اكتشفت مذكرات أحد أفراد الميليشيا المدنية، الذي احتل أحد مكاتب الحكومة الإقليمية، حيث وقعت المجزرة، بينما تراجعت القوات لفترة وجيزة. قالت: «لماذا لديّ شيء مثل الضمير الذي يوخزني بهذه الطريقة؟ أدركت أنني كنت أنسى اللغز الثاني في طفولتي. أعطتني المذكرات طريقة للتحرك نحو الكرامة الإنسانية، على الرغم من أنني بدأت من العنف». بعد ثلاثة عقود، أدركت أن الصور الفوتوغرافية ألقت بها في أزمة وجودية، من شأنها أن يتردد صداها طوال حياتها. «لو كان عمري 20 عاما عندما رأيتها ربما كان بإمكاني تركيز كراهيتي على النظام العسكري، لكنني كنت صغيرة جدا وشعرت فقط بأن البشر مخيفون وأنا واحدة منهم».
كانت الرواية عملية حزن حيث احتاجت إلى «فترة حداد قدر الإمكان»، لكنها كانت في النهاية تجربة تحولية، حيث انتقلت طاقات الكاتبة هان وتركيزها «من العنف البشري إلى الكرامة الإنسانية»، إلى السؤال الثاني: أولئك الذين قاتلوا، أولئك الذين ماتوا، أولئك الذين نجوا، أولئك الذين دفعهم الحب للانتصار لقيم الحرية والديمقراطية»، فامتد حدادها على ضحايا المجزرة إلى حداد كامل للامة الكورية وللإنسانية جمعاء. ومن المفارقات، على وجه التحديد، في خضم هذه الأعمال الوحشية، يظهر ما هو أكثر قيمة: التضامن والكرامة والقوة للاستمرار – وقبل كل شيء، المسؤولية الكبيرة عن البقاء والتذكر. النطاق الأخلاقي للرواية يتصدى لفقدان الذاكرة الجماعية الذي تفرضه الرقابة، إنه يفسح المجال لوقائع يتم فيها الخلط بين الأحياء والأموات، والحاضر والماضي، والذاكرة بالرقابة، والكلمة مع عدم فعالية العنف الذي يفترض أنه غير إنساني. يمكن أن يكون البقاء على قيد الحياة شكلا من أشكال الموافقة الصامتة؟ تحمل إيماءة الرفض أيضا في حد ذاتها محاولة للتعافي – بصعوبة بالغة – من خلال عمل مدمر للذات.
عندما استلمت الجائزة بفي فرنسا عن روايتها قالت: «أنا والقراء الفرنسيين – نتقاسم المشاعر نفسها معا – لأننا نتشارك جميعا في التجارب البشرية مثل العنف البشري والإبادة الجماعية على مرور الزمن، على الرغم من اختلاف اللغة والثقافة والسياق». وهذا ما انفردت بها روايتها «أفعال إنسانية»، كرحلة سردية تراوح ما بين كوريا الجنوبية المعاصرة وتاريخها الدامي في زمن الديكتاتورية. بتقديم أبطال يعبرون جيدا عن قوة العاطفة للكرامة الاجتماعية، للحرية والديمقراطية، وانتقادها لروح الإنسانية من قلب مأساة المذابح والمجازر، عبر منح البائسين معنى وحافزا للاستمرار في رحلتهم الحياتية الصعبة نحو التحرر من أغلال الديكتاتورية. بتأملات فلسفية، حول ماهية التواصل مع الذات، والمعنى العميق في اكتشاف الآخر، كما لو أنه مرآة لوجودنا..
في بحثها عن عالم خالٍ من الإبادة الجماعية، حيث تسود مبادئ حقوق الإنسان والسلام، لأنها كانت وليدة زمن انتهاء الديكتاتورية المسؤولة عن المذبحة في بلدها، ومحظوظة بالانتماء إلى الجيل الحر في كوريا الجنوبية المعاصرة، قالت ذات مرة: «في الواقع لا أحب العنف، لكنني أريد أن أكون صادقة مع نفسي. أنا لا أحب حتى الأفلام العنيفة للغاية، عندما أنظر إلى العالم، لا يمكنني أن أنظر بعيدا. أشعر بأنني يجب أن أخترق الحقيقة الخام للبشر والعالم، بدلا من الاستمتاع أو الانبهار بالعنف».
كاتب ومترجم مغربي