التعليم ومهارات التكنولوجيا الرقمية: نحو مستقبل تعليمي مستدام
محمد الديهاجي
تمثل التكنولوجيا الرقمية في التعليم العربي، في وقتنا الراهن، تحديا وفرصة في آنٍ واحد، حيث أصبحت الحاجة لتطوير العملية التعليمية ملحة للغاية، بما يتناسب مع هذه التطورات، في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، خاصة مع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي.
إن التعليم الحديث اليوم، في الدول المتقدمة، يسعى إلى تحقيق تجربة تعليمية شاملة ومتكاملة ونوعية، تؤهل الطلاب لمواجهة تحديات المستقبل والمساهمة في بناء مجتمعات مستدامة ومزدهرة.
وسنسعى من خلال هذا المقال إلى تسليط الضوء على دور التكنولوجيا الرقمية في تعزيز الفهم والتحصيل الدراسي، مع مراعاة التحديات المرتبطة بتبني هذه الأدوات في المنظومة التعليمية العربية. كما سنوضح كيف يمكن للتكنولوجيا أن تسهم في إحداث تغيير جذري في طرق التدريس، ودور المعلم، وتفاعل الطلاب مع المحتوى التعليمي، مع النظر إلى العقبات التي تقف في وجه هذا التطور، فضلا عن دور الذكاء الاصطناعي في تجويد المادة التعليمية، وقدرته على تذويب الصعوبات بطرق خارقة ما جعله يقفز بالتعليم قفزة مذهلة للغاية في الدول المتقدمة.
أهمية التكنولوجيا الرقمية في التعليم
مع انتشار الإنترنت، وتطور الذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي، لم تعد الأدوات التكنولوجية مجرد وسائل داعمة، بل أصبحت جزءا لا يتجزأ من عملية التعلم. فالتعليم الحديث اليوم يعتمد على الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية لتحسين الفهم، وتسهيل الوصول إلى المعرفة، وتطوير المهارات المختلفة لدى الطلاب. ذلك أن التكنولوجيا اليوم بتحولاتها الرقمية، كما تقول كاثرين هيليس في كتابها «كيف أصبحنا ما بعد البشر»: «لا تؤثر فقط على الشكل الأدبي (أو المادة التعليمية)، بل أيضا على طبيعة الكاتب والقراء (المعلم والمتعلمون) على حد سواء، ما يخلق علاقة جديدة بين الإنسان والتكنولوجيا، حيث يصبح الأدب (التعلمات) ليس مجرد نص (مادة) بل تجربة معلوماتية متعددة الطبقات».
ولعل من إحدى أهم الفوائد التي تقدمها هذه التكنولوجيا في مجال التعليم، هي تعزيز التفاعل بين المعلم والطالب. فمنصات التعليم الإلكترونية، مثل Google Classroom وMicrosoft Teams، تسمح بإدارة الدروس وتوجيه المهام بطريقة سلسة وتفاعلية، في إطار تعلم تشاركي يتيح فرصة أكبر للطلاب للمشاركة والتفاعل مع بعضهم بعضا ومع معلميهم.
ثاني هذه الفوائد أن التكنولوجيا الرقمية تعد أداة قوية لتخصيص تجربة التعلم، وفقا لقدرات واحتياجات كل طالب. فباستخدام برامج تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي، يمكن للمعلمين الحصول على رؤى دقيقة حول نقاط قوة وضعف كل طالب. هذه البيانات تساعد لا محالة في توجيه التعليم ليصبح أكثر فردانية وتكيفا، ما يتيح للطلاب التقدم، وفقا لإيقاعهم الخاص ويزيد من فرص التحصيل الجيد.
كما أن التكنولوجيا الرقمية، دون غيرها من الوسائط التقليدية، تسمح بتقديم المحتوى التعليمي بطرق مبتكرة وأكثر جاذبية، كاستخدام الفيديوهات، والرسوم المتحركة، والتطبيقات التفاعلية، التي بإمكانها أن تحوّل الدروس التقليدية إلى تجارب تعليمية ممتعة، على سبيل المثال، يمكن للطلاب استكشاف دروس التاريخ عبر الواقع الافتراضي، أو فهم التجارب العلمية من خلال محاكاة ثلاثية الأبعاد. هذه الأدوات، لا شك، أنها تعزز الفهم العميق وتساعد على تقريب المفاهيم المعقدة.
ومن مزايا التكنولوجيا الرقمية أيضا، قدرتها على توسيع الوصول إلى التعليم، إذ يمكن للطلاب من مختلف أنحاء العالم الوصول إلى المحتوى التعليمي، عبر الإنترنت، ما يتيح فرصا أكبر للتعلم، بغض النظر عن الموقع الجغرافي أو الموارد المتاحة في المدارس التقليدية. فقد ظهرت، بالموازاة مع ذلك، منصات مثل «Coursera» و»edX» تقدم دورات تدريبية من أفضل الجامعات العالمية، ما يفتح أبواب التعليم العالي أمام الجميع. وإذا كان الطلاب يحتاجون اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى المعرفة الأكاديمية للنجاح في سوق العمل، فإن التكنولوجيا الرقمية تقدم لهم فرصا كبيرة لتطوير المهارات الرقمية، التي أصبحت ضرورية في الاقتصاد الرقمي، من خلال التعلم عبر الإنترنت، واستخدام الأدوات الرقمية في المشاريع، وتطوير مهارات البحث على الإنترنت، ما يكسبهم مهارات حيوية للنجاح في الحياة المهنية.
دور الذكاء الاصطناعي في مستقبل التعليم
يعتبر الذكاء الاصطناعي من أبرز الابتكارات التكنولوجية التي يمكن أن تحدث ثورة في مجال التعليم. فهو يمتاز بقدرة هائلة على تحليل كميات ضخمة من البيانات بسرعة فائقة، مع استخدامها لاستخلاص أنماط وتوجيه عمليات اتخاذ القرار. في سياق التعليم، يمكن للذكاء الاصطناعي تخصيص التعلم لكل فرد، وفقا لاحتياجاته وقدراته الفردية. إذ يمكن للأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تقديم تجارب تعلم شخصية وفعالة، ما يزيد من فهم الطلاب ويعزز مستويات التحصيل العلمي لديهم. وفي هذا السياق سأورد نصا مقتبسا من تقرير صادر عن جامعة ستانفورد عام 2020 بعنوان (الذكاء الاصطناعي والتعليم: مسارات جديدة) يؤكد أهمية الذكاء الاصطناعي في تطوير القدرات الطلابية وتحسينها. يقول «يعتبر الذكاء الاصطناعي أداة قوية لتحسين العملية التعليمية، حيث يتيح تخصيص المحتوى التعليمي ليلائم احتياجات كل طالب على حدة. فهو يمكّن من تطوير بيئات تعليمية تتفاعل مع الطالب، وتستجيب لمستواه ووتيرته الخاصة، مما يعزز من فعالية التعلم ويساهم في معالجة الفجوات التعليمية بشكل أسرع وأكثر دقة».
ومن فضائل، استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم، كونه يساعد المعلمين على تطوير أساليب تقويم الأداء، وتحليل تقدم الطلاب كماً وكيفاً. فهو يتيح توفير ردود فورية دقيقة وتحليلات مفصلة حول أداء الطلاب، مما يساعد المعلمين في تحسين تقديم المواد التعليمية وضبط استراتيجيات التدريس.
وجدير بالذكر إن جل النظريات المعرفية التي نظرت للعملية التعليمية، قادرة اليوم على استثمار قدرات الذكاء الاصطناعي بشكل يطورها ويجعلها أكثر راهنية ونجاعة. فالنظرية البنائية (جان بياجي)، التي ترى أن الطلاب يتعلمون بشكل أفضل عندما يبنون معرفتهم من خلال التفاعل مع بيئتهم، فإن الذكاء الاصطناعي يتيح هذه التجربة من خلال توفير أدوات تعليمية تفاعلية، مثل المحاكاة والواقع المعزز، التي تساعد الطلاب على استكشاف المفاهيم بطريقة عملية وتطبيقية، بل إنه يسهم في جعل التعلم تفاعليا وشخصيا، مما يعزز من تجربة بناء المعرفة الذاتية.
أما نظرية التعلّم الشخصي (بنجامين بلوم)، التي تؤكد أهمية تخصيص التعليم لتلبية احتياجات كل طالب على حدة، فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي، بالموازاة مع ذلك، مثل الخوارزميات التكيفية، تسمح بتحليل سلوك الطلاب ونتائجهم في الوقت الفعلي، مما يساعد في تقديم محتوى تعليمي مصمّم خصيصا لقدراتهم ومستوياتهم. وهذا الأمر من شأنه أن يعزز من فعالية التعليم ويتيح تجربة تعلم فردية تلبي احتياجات كل طالب بشكل دقيق.
وإذا كانت المعلومات المقدمة بشكل مفرط أو غير منظم عند أصحاب النظرية المعرفية للتعلم المتنوع، قد تؤدي إلى إرباك الطلاب وتقليل قدرتهم على الفهم، فإن الذكاء الاصطناعي يساعد على تنظيم المعلومات بطريقة تتناسب مع مستوى الطالب وقدرته على الاستيعاب، إذ يمكن للأنظمة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تحليل الأنماط السلوكية للطلاب وتقديم المعلومات بمستويات متدرجة تناسب قدراتهم، مما يقلل العبء المعرفي ويعزز الفهم. إن نظريات مثل نموذج التعلم التكيفي، والتعلم الاجتماعي، والتعلم التعاوني وغيرها، تجمع بين المفاهيم الأكاديمية والتطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي في التعليم، ما يوضح كيف يمكن أن تكون التكنولوجيا الحديثة أداة فعالة لتعزيز التعليم بطرق مبتكرة ومستدامة.
والحاصل أن الذكاء الاصطناعي يعد بوابة لتحسين تجربة التعلم وتعزيز جودة التعليم. فمع استمرار التطور التكنولوجي، يبدو أن مستقبل التعليم سيكون أكثر تفعيلا وتخصيصا بفضل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. لكن مع ذلك، قد تعترض العملية التعليمية التعلمية بعض التحديات، التي يجب التغلب عليها لضمان تكامل الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم، منها القضايا المتعلقة بحماية الخصوصية وضمان التكافؤ في الوصول إلى التقنيات التعليمية المتقدمة. كما يعاني العديد من الدول العربية من نقص في البنية التحتية التكنولوجية، مثل ضعف الوصول إلى الإنترنت، وانخفاض مستويات الأجهزة التقنية المتاحة للطلاب والمعلمين، فضلا عن النقص المهول في المهارات التقنية لدى المعلمين، إذ لم يتم تدريبهم بشكل كافٍ على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في التعليم، مما يعوق قدرتهم على الاستفادة الكاملة من هذه الأدوات.
ينضاف إلى هذه التحديات مشكلة التمويل. ذلك أن تطوير ودمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في التعليم يتطلب استثمارات كبيرة، في الوقت الذي نجد فيه العديد من الدول العربية تفتقر إلى التمويل الكافي لتنفيذ هذه الأنظمة على نطاق واسع. كما أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تتوفر على المحتويات التعليمية باللغة العربية المتوافقة مع هذه الأنظمة الذكية، دون أن ننسى مقاومة بعض المجتمعات العربية المترددة في تقبل استخدام التكنولوجيا في التعليم، حيث يفضلون الأساليب التقليدية التي تعتمد على التفاعل البشري المباشر.
هذه العقبات وغيرها، تجعل من تبني الذكاء الاصطناعي في التعليم العربي مسألة تحتاج إلى تضافر جهود الحكومات والمؤسسات التعليمية، إضافة إلى تحسين البنية التحتية وتطوير المهارات.
على سبيل الختام
في نهاية هذا المقال أقول إنه على الرغم من أن التكنولوجيا الرقمية تعد قوة تغيير هائلة في مجال التعليم، بفضل قدرتها على تخصيص التعلم، وتوسيع نطاق الوصول إليه ووصوله، وتعزيز المهارات، وأنها تشكل مستقبلا واعدا للتعليم في العالم العربي، قلت رغم كل هذه الفوائد، فهناك تحديات كبيرة يجب التعامل معها.
لذلك، من المهم اليوم، في البلدان العربية، تطوير استراتيجيات تدمج بين التكنولوجيا والتفاعل البشري بطريقة متوازنة، مع ضرورة مراعاة كيفية دمج التكنولوجيا بطرق تتناسب مع احتياجات البيئة التعليمية المحلية، وضمان توفير البنية التحتية والموارد الضرورية للجميع.
كاتب مغربي