
الحلم الثقافي الأعزل

محمد خضير سلطان
هل هنا أو هناك قارئ شبح، لن نستطيع إدراكه ولم يكن بوسعه الوصول إلينا غير إننا قد نراه في لحظة ما مشاركاً في أحلامنا ورؤانا، ومع ذلك يتخفى هنا وهناك أيضاً ويسجل حضوراً شبه سري وعلني، ننسى أو ننغمر في تبديه الحي الافتراضي حينما نكتب، ونبحث عنه على نحو رياضي مضاعف في حشود معارض الكتب وطاولات المكتبات؟
إننا ننشد القارئ الحقيقي بوصفه نتاج نشأة ونمو وتكامل أبعاد التحديث المدني والمجتمعي، هو الذي يقرأ من موقعه الثقافي، وتتحرك قراءته لتحدث فرقاً في البعدين السياسي والاقتصادي، أو يقرأ من موقعه السياسي ليحدث فرقاً في البعدين الثقافي والاقتصادي، وأيضاً، يقرأ من موقعه الاقتصادي ليحدث الفرق نفسه في البعدين السياسي والثقافي.
أهذا هو الشبح أم ذاك؟
شيء من هذا، يُفسّر ما عبّر عنه الباحث سعيد الغانمي حين قال عبر مقدمة كتابه «ينابيع اللغة الأولى، أحلم بمشاركه القارئ فعل التأليف»، ويلقي أطراف حلمه على المستقبل الذي سيكون فيه «مشروع الكتاب بدائياً» كما يرى. من هو هذا القارئ المشارك الشبح، أو الحقيقي وهل رآه حقاً من رآه لكي يحلم بمشاركة المؤلفين فعل الكتابة؟ لم يكن على سبيل الانشاء والاعتباط، ان يكتب الباحث سعيد الغانمي نفسه في كتابه «ينابيع اللغة»، إهداءً معبراً الى جواد علي، يتبدى فيه حتماً كقارئ مشارك وفعاّل لكتاب «المفصل في تاريخ العرب»، ولكن بعد أكثر من نصف قرن بين صدور كتاب علي، وصدور كتاب الغانمي، وهنا السؤال على سبيل الافتراض: لو كان هو حلماً للباحث جواد علي، لا شك قد تحقق على يد الباحث الغانمي، نعم ولكن في فجوة زمنية لم تعد مقبولة أبداً، حينما يتأتى لحلم الباحث الغانمي نفسه، أن يتحقق بعد قرن من الزمن أكثر أو أقل على يد باحث آخر مجهول.. أي سبات ثقافي لقارئ فعّال، يستيقظ عبر دورة فلكية مفتوحة!
وربما من المؤكد بأن أي حلم يلقى على المستقبل في حالنا الراهن، هو أمر بعيد التحقق ولم يخل من سد فراغ سايكولوجي وترميم عجز فعلي في واقع الثقافة، وأقصد واقع الثقافة العراقية بالتحديد، الذي ظل ينتج الوقائع الثقافية والإبداعية، ويقدم آثاراً وأسماء مضيئة منذ تأسيس الدولة وحتى هذه اللحظة، ولكن قراءة الخطاب الثقافي والإبداعي وتحليل الوقائع لا ينتج وحدة خطاب متماسكة من نواح تاريخية واجتماعية، ولم تؤشر المحصلات الإبداعية عبر الحقب الماضية بناءً مؤسسياً ثابتاً، يمكن عدّه منبعاً خطابياً، تتجه فيه الأعمال الثقافية والإبداعية وتجري إلى مصباتها وتتكامل في الأبعاد الأخرى للفضاء الاجتماعي، بمعنى أن الفعل في الثقافة والإبداع لن يتكامل على نحو معين مع الفعل في الاقتصاد والسياسة، مهما كان مستواهما ومداهما، ويظل الفعل الثقافي والإبداعي المتقدم في نماذجه العراقية المعروفة منتجاً في سياق بعده الثقافي الأعزل من فضائه الاجتماعي، ولعل كتاب «ينابيع اللغة الأولى» أحد هذه النماذج.
وبذلك فإن الحلم الثقافي الفعّال هو الآخر، يعد أعزل كما يبدو، وبالحتم يستتبعه الحلمان السياسي والاقتصادي الأعزلان. وإذا كان من المستحيل مبدئياً أن يكون الفعل المبدع أعزل من فضائه الاجتماعي، فهو حتماً يعوّل بالنسغ على نحو معين من فضاء اجتماعي آخر، وهنا تتعين المسألة، إن فعلنا المبدع يستقي نسغه من الأبعاد الاجتماعية الأخرى في سياق عمليات التحديث والاندماج بالعالم المعاصر، من مؤسسات خارجية تم إنشاؤها لظروف تحديثية متداخلة داخل الدولة العراقية مثل دار المعلمين العالية ودار الآثار وسواهما. لقد غدت هذه المؤسسات التحديثية مثل سفارات ثقافية تمثل فضائها الاجتماعي الغربي المتماسك، الذي أنتج السياب والبياتي وطه باقر وعلي الوردي وكثيرين، ولكن معطياتها تبدو كأنها في فضاء مجتمعنا وتاريخنا، وغير خاف، أن ما يسمى حركة التجديد في الشعر والأدب العربيين وما أسفرت عنه الأبحاث الآركيولوجية في دراسة التاريخ الرافديني، يتصل بدور هاتين المؤسستين في الثقافة العراقية، من جانب آخر جرى تقويض البعدين السياسي والاقتصادي على نحو آخر معروف ليس محلاً لدراسته هنا. إنها البضاعة التي لن يتم استردادها من قبل الغرب الثقافي، في الوقت الذي لم يقو مجتمعنا المعرفي على تبييئها وتكاملها مع الأبعاد الأخرى، والمشكلة أن هذه البضاعة لمّا تزّل سارية منذ ما يربو على القرن من الزمان وأكثر، والدليل على ذلك، أن كتاب «ينابيع اللغة الأولى» نفسه كتب وسوّي في الخارج «أستراليا» مثلما كتب التكرلي «الرجع البعيد» في باريس، أو فرمان حين كتب رائعة «النخلة والجيران» في موسكو، ولو كان أحد هؤلاء في بغداد لما ظهرت هذه النماذج.
مرة، في العهد العثماني، كانت البضاعة نفسها مرتهنة بالتحديث التركي لدستور 1906 وظلاله على تحديث القصة والرواية والفكر المعاصر، ولم يمر وقت حتى ارتفعت كشوفات الآركيولوجيا الأوروبية وقراءات الشعر الإنكليزي المنبتة في الحقبة البريطانية، وأسفر زمن آخر ليسقط كل الاتجاهات والبوصلات عنوة فتستأثر السلطة باحتكار الثقافة في حقبة السبعينيات والثمانينيات صعوداً إلى المرحلة الراهنة التي أعادت تصفير كل الحقب في سياق عودة جديدة إلى ما قبل التحديث.
إذن متى يتحقق حلم المشاركة الإبداعية المنتج في ظل معادلة مرتبكة داخل الفضاء الاجتماعي، وكيف يمكن لمؤلف أن يفكر بقارئ فعّال في غياب مياه المجتمع السابغة الفضاءات والواضحة الأعماق والمتكاملة الأبعاد؟
كاتب عراقي