أن تذهب بعيدا: الكتابةُ سقْط متاعٍ ودُرة تاجٍ!
عاطف محمد عبد المجيد
سواء أكانت الكتابة جيدة، أم كانت سيئة، وسواء أكانت جيدة عن قصد، أم كانت سيئة عن غشم، وسواء أكانت مستعصية أمام وجهات النظر المتضاربة على فرز المهارة عن الغشامة، وسواء أكان فريق القصد والمهارة هو فريق لعب وتسلية، وكان فريق الغشامة فريق جد وطموح، فهي في آن معا سقط متاع ودرة تاج. هذا ما نقرؤه في إحدى يوميات كتاب «أن تذهب بعيدا.. يوميات من المكان نفسه» للكاتب مصطفى ذكري، الصادر عن مجموعة بيت الحكمة للثقافة، دون إهداء ودون مقدمة أو تمهيد، ودون إشارة إلى جنس أدبي ينتمي إليه الكتاب، وفيه يكتب قائلا، إنه في واحدة من الأساطير التي جمعها جيمس فريزر، أن القمر بعث رسالة إلى الإنسان يُنبئه فيها بجدل الفناء والخلود، إلا أن القمر استبطأ السلحفاة حاملة الرسالة، فبعث الأرنب البري السريع بالرسالة نفسها، وهي أن الإنسان يفنى ويعود مثل القمر، لكن الأرنب البري كان من أتباع الوضعية المنطقية، فكتم نبوءة الخلود والماورائيات، وبشر الإنسان بفناء خال من الأبهة، ولما علم القمر بتحريف الرسالة، ضرب الأرنب البري بعصا على شفته فشقتها، واللعنة ورّثها الأرنب لأبناء نوعه إلى الآن، إلا أن الأرنب خدش وجه القمر في دفاعه عن نفسه ولهذا نرى في الليل آثار خدش الأرنب البري على وجه القمر، أما السلحفاة فقد نسيت رسالة القمر ولم تصل إلى الآن.
حكايات خيالية
ذكري الذي يُقسم كتابه هذا إلى قسمين أولهما يضم عددا من الفقرات النثرية تلتهم أكثر من مئة صفحة من صفحات الكتاب، بينما عنوَن آخرهما بـ»حكايات خيالية»، ويضم ما يمكن أن نطلق عليه قصة طويلة، أو رواية قصيرة، أو حكايات مثلما ذهب المؤلف إلى تسميتها، وتتجاوز صفحات هذا القسم الخمسين صفحة، وفيه يحكي الكاتب عن مجموعة أفراد يستقلون عربة أجرة/ سرفيس ميكروباص وتدور بينهم نقاشات ومواقف حياتية تعبر عن واقع فانتازي عجيب ومضحك ومحزن في الوقت نفسه. في يومياته التي يكتب فيها عن أشياء عديدة يقول ذكري، لا بد أن هناك معجزات حدثت في زمن ماض، لكنها حدثت دون شهود عيان، دون تصفيق، دون توثيق، دون حاجة لحدوثها، فهي لا تنافس المعجزات المسجَّلة المستخدمَة الممهورة بأختام التاريخ، فقط تزور المعجزات الآثمة غير الشرعية شقيقتها المُعترف بها، المعتمدَة، في الليل كأشباح وكوابيس لتنزع عنها الطمأنينة، كما يكتب أيضا، مشيرا إلى أنه في فيلم «الحوت» الذي ظهر في عام 2022 للمخرج دارين أرنوفسكي تشبيه أو استعارة بين تشارلي بطل الفيلم وحوت رواية موبي ديك لهنري ميلفل.
القاعدة، حسب قول الكاتب، أن الإشارة إلى الأعمال الأدبية الكبيرة في الأدب تؤدي إلى نتائج محدودة، أو حتى عكسية في السينما، وإذا كانت استعارة السمنة المفرطة لبطل فيلم «الحوت» تبدو للوهلة الأولى، في التحامها مع الحوت المهيب في رواية ميلفل، واعدة فنيّا، إلا أن أرنوفسكي يُهدر الاستعارة كلما تقدمنا في زمن الفيلم، ليتخبط بديلا عنها في عاطفة تطارد المُشاهِد بإلحاح.
طموحات متواضعة
هنا يكتب مصطفى ذكري في يومياته عن مشاهدات، أفكار، معارف وقراءات، مُسربا فيها تأملاته ورؤيته الخاصة، دون فرض وصاية على القارئ، وها هو يقول في إحدى يومياته إنه رغم الطموحات المتواضعة والإمكانيات المحدودة والمحاولات الهزيلة، يبقى الأمل معقودا على شيء آخر يأتي من صاعقة الذهان، وليس من تكرار العصاب، ذاكرا أن الحد الأقصى لذاكرة مثالية هو أن تحمي مادتها من النسيان، ولما كان النسيان عدوّا لا يُستهان به، فقد شيدت الذاكرة حصونا وبروجا في وجه النسيان، إلا أن المكر الأكبر من الذاكرة المثالية هو أنها تخلصت تماما، برغبتها ودون ضغط النسيان، من مادتها قبل تشييد الحصون والبروج. كما يصف المؤلف هنا تولستوي بأنه مارد من مردة التاريخ، بينما يقول عن دوستويفسكي إنه مارد من مردة الدراما، مثلما ينقل قول جورج ستاينر عن ديستويفسكي، إذ يقول إنه لم يعمد إلى ترميز الجرائم اعتمادا على حادث تاريخي أو خرافة أو أسطورة، لكنه حصل على مادته من الجرائم المعاصرة، أو من نوعية الأخبار التافهة، إذ كان ديستويفسكي من ملتهمي الجرائد اليومية، وهنا يشير ذكري إلى أن مدّ هذا الحكم الجمالي على استقامته، يعني أن ديستويفسكي أعظم من تولستوي وشكسبير وراسين وغوته، لأن كل هؤلاء أخذوا مادة تاريخية عظيمة في ذاتها، بينما ديستويفسكي يبني جرائمه من مادة وضيعة جنائية، بعد أن حرّفها تماما عن واقعيتها بالذهانات والاعترافات. كذلك يكتب مصطفى ذكري في إحدى يومياته هنا فيقول إنه في مقال لماريو فارغاس يوسا يذكر أن بورخيس عندما سُئل: لماذا تعلن بوقاحة تأييدك للمحافظين؟ فقال بعجرفة ساخرة: إن السادة الفضلاء الجنتلمانات يفضلون القضايا الخاسرة، ومع هذا، يقول الكاتب، لم تستفد الأحزاب المحافظة الرجعية شيئا من تأييد بورخيس المريب، وهذه نقطة بعيدة في قسوتها عن إدراك يوسا اليساري الواقعي، فبورخيس كان عبئا على الرجعية كما كان ديستويفسكي.
متاع زائد
أيضا نعرف هنا أنه كان من عادة الكاتب أنه يكرر المحاولات على فترات زمنية متفاوتة الطول، والكثير منها يكون مصيره الفشل، أما عن المحاولات القليلة الناجحة فهي تسقط من الذاكرة كمتاع زائد أو تبقى في أفضل الأحوال باهتة منزوية لا تحمل نضال الظفر بها، وهو نضال غريب عنه الآن، مع أنه كان من طينة النضالات المتألقة بوهج إخفاقاتها الأليمة، مؤكدا أن المحاولات الفاشلة تتوقف بعد بدايتها بقليل، أو في منتصفها، تتوقف تحت ضغط هائل من العجز الذي يُحفر في الذاكرة ويُجتر بسلْم الأبقار الوديعة طوال الزمن الفاصل بين محاولة وأخرى.
في يوميات ذكرى ستقابلك أسماء أفلام سينمائية شهيرة، عناوين روايات ذائعة الصيت، كُتاب كبار شغلوا الواقع الأدبي والثقافي لسنوات وسنوات، أحداث ومواقف إنسانية، آراء ووجهات نظر في الحياة عموما وفي ما يخص ركن الأدب خاصة، ومؤكد ستخرج، من هذه اليوميات، بدَلْوك وهو مملوء بالمعارف التي ربما لم تكن قد قرأت عنها من قبل.
كاتب مصري