أبْصَرْنَ بعينيهِ.. عبّاس محمود العقاد عاشقا (2)
بروين حبيب
ذكرتُ في نهاية القسم الأول من مقالي الأسبوع الماضي، أن عباس محمود العقاد بعد نهاية علاقته بمي زيادة انغمس في قصة حب جديدة عنيفة هي النقيض من حبه العذري الحالم مع مي، ولحسن حظنا أن العقاد خلّد قصة حبه الثانية بتفاصيلها في روايته الوحيدة «سارة»، بل في روايته عقد فصلا بعنوان «حبّان» قارن فيه بين المرأتين كما قارن بين حبّه لكليهما، وكيف كانتا على مثالين من الأنوثة متناقضتين، حيث يقول مقارنا بينهما: «إذا كانت سارة قد خلقت وثنية في ساحة الطبيعة، فهند خلقت راهبة في دير، ومن غـير حاجة إلى دير! تلك مشغولة بأن تحطم القيود أكثر ما استطاعت، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر ما استطاعت من قيود.. تلك يومها جمعة الآلام وتلك شم النسيم»، وما زالت العلاقة بسارة تقوى وبهند أو مي زيادة تضعف حتى «ابتلعته اللجة وشغلته سارة عن كل شاغلٍ، أو أصبحت على الأصح ممزوجة بكل شاغلٍ»، فمَن هذا اللغز الذي يدعى سارة؟
بعد وفاة عباس محمود العقاد سنة 1964 ترك وصية أن لا يُكشف من هي سارة الحقيقية حتى بعد وفاتها، رغم أن اسمها الحقيقي كان معروفا عند أصدقائه وتلاميذه ومنهم من كان شاهدا على هذا الحب وله دور فيه مثل عبد الرحمن صدقي وطاهر الجبلاوي، ويومها صرح ابن أخيه عامر العقاد أن سارة تعيش في باريس واحتراما لرغبة عمه لن يعلن اسمها، ولكن بعد خمس سنوات من هذا التصريح نشر عامر العقاد في مجلة «المصور» صورة للعقاد وسارة، وعرف القراء أن سارة ليست سوى أليس عبده هاشم أو «أليس داغر» الاسم الذي اشتهرت به وأخذته من زوجها الأول الصحافي اللامع أسعد داغر، وأمها لبيبة هاشم إحدى الرائدات النسويات في مصر، وصاحبة مجلة «فتاة الشرق» التي كان ينشر فيها العقاد نفسه. روى العقاد في روايته لقاءه الأول بأليس حيث كان يقصد زيارة صديق له يسكن في بنسيون امرأة إيطالية، ولم يجده ولكن وجد في المقابل مع العجوز صبية تتجاوز العشرين بقليل جريئة ذكية بادلته الحوار بثقة، واتصلت به تلفونيا في اليوم التالي وبعدها بيوم التقيا في حديقة لتبدأ قصة حب بين كاتب مشاكس وامرأة مطلقة لها بنت، متحررة ذكية قوية الشخصية بعكس مي زيادة المحافظة التي تضع مسافة بينها وبين عاشقيها، يصف العقاد سارة أو أليس بقوله: «استغرقتها الأنوثة فليس فيها إلا الأنوثة، لعلها أنثى ونصف أنثى… ليست غواية الجسم عندها كجوع الحيوان يشبعه العلف، ولكنها كرعدة الحمّى وصرعة الفرس الجموح يتبعها النشاط والمراح كما يتبعها الإعياء والبكاء». ونتجت عن هذه اللقاءات المتكررة قصة حب، فكانت السينما أو دار الصور المتحركة، كما كان يسميها العقاد، مسرح لقاءاتهما فقد كانت بالنسبة لهما «شيئا أكثر من ملهى الفراغ وموعد اللقاء، كانت محور حياتهما الغرامية»، كما كانت اللقاءات البيتية عنده أو عندها تغذّي هذا الحب حتى أنه لم يتخيل أن يجد يوما فتاة تخلفها في مثل ذكائها ونضارتها وموافقتها. ولأن أليس كانت ابنة واحدة من الرائدات النسويات في العالم العربي فقد تربت في بيت للمرأة فيه حظ من الحرية والمساواة، بعكس حبيبها الأربعيني ذي التنشئة الصعيدية المحافظة، «لم يتحمل العقاد حريتها، فقد ظل محروقا من علاقاتها مع أصدقائها. غيرته من محيطها كانت مدمرة، كان متملكا أكثر منه محبا»، كما لخص واسيني الأعرج علاقتهما. ولعل كلمة واحدة هي مفتاح هذه العلاقة «الشك»، وهذا ليس سرا بل تحدث عنه العقاد مطولا في روايته «سارة» ويكفي أن نذكر أن ثلاثة فصول من هذه الرواية ورد في عناوينها لفظة «الشك» هي «الشكوك» و»علاج الشك» و»لماذا أشك فيها؟»، بل وصف هذا الشك الموجع بصريح العبارة حين كتب «كانت شكوكا مريرة، لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض، وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا، ولا يزال ينطبق وينطبق وينطبق، حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار»، فكان يسألها مع من ذهبت إلى السينما، ويسأل عامل السينما عمن كان يجلس جنبها، ولعلها هي من أججت الشك في قلبه العاشق، حين طلبت منه أن يمثل دور الكاهن في الديانة المسيحية لتعترف له بأخطائها، و»اعترفت له بعلاقتين سابقتين: إحداهما متينة مستحكمة طويلة، والأخرى هوجاء حامية سريعة، وإحداهما مع كهلٍ يقارب الأربعين، والأخرى مع فتى في نحو الخامسة والعشرين» يومها شكر لها صراحتها، لكن اتقدت في روحه نار الغيرة، فلم يجد بدا من مراقبتها، وأوكل هذه المهمة إلى صديقه طاهر الجبلاوي الذي سماه في الرواية «أمين»، بل كاد يوكل هذه المهمة إلى رقيب ويدفع له أجرا، غير أنه تنبه إلى أن هذا الرقيب بدوره محتاج إلى من يراقبه، وفي رواية «سارة» أيضا ثلاثة فصول عن الرقابة هي: «الرقابة» و»كيف الرقابة؟» و»مضحِكات الرقابة».
ولأن من استقصى وجد فقد تأكد لديه أن لأليس ما تخفيه، واعتبرها خادعة غشاشة، بل عمّم هذا الحكم الجائر على النساء جميعهن فكتب نثرا «الغش عند المرأة كالعظمة عند فصائل الكلاب، يعضضها الكلب المدلل ويدّخرها حيث يعود إليها وإن شبع جوفه من اللبن واللحم والأغذية المشتهاة»، كما كتب أبياتا اشتهرت جاء فيها: غفر الذنب من بكائي عليك/أنني لا أعود ما عشت أبكي/لا يساوي – وقد تعلمت منك -/نسل حوائكن دمعة شك/خير ما في النساء ساعة ضحك. وهكذا انتهت قصة حب عباس العقاد وأليس داغر (سارة) بعد ان استمرت عامين وبقي محتفظا بصورتها إلى يوم وفاته، وحين كتب قصة حبهما بعد ثلاث عشرة سنة من انتهائها ختمها بهذه الجملة وكأنه استشعر أنه ظلمها: «أليس من الجائز أنها وفت لك في أيام عشرتها واستحقت وفاءك لها وصيانتك إياها وغيرتك عليها؟ أليس من الجائز أنها يئست منك فزلّت بعد الفراق؟».
لم يبق قلب عباس محمود العقاد فارغا فقد شاءت الأقدار أن يرى إعلانا لصبية سمراء لم تبلغ العشرين من عمرها جاء فيه «الاسم هنومة خليل حبيب.. من مواليد 1921، تلميذة في مدرسة التطريز في شبرا.. مؤهلها الدراسي شهادة الابتدائية.. تهوى التمثيل»، فأعجب بها وحرص على أن يلتقيها، فجلبها أحد أصدقائه وكانت صديقة أخته إلى صالون العقاد الأسبوعي، فانبهرت الصبية بهذا البيت الذي تغطي جدرانه آلاف الكتب، وبهؤلاء الصحافيين الكبار والكتاب الذين يحيطون برجل خمسيني أجلسها إلى جانبه، يسألونه فيجيب، من المؤكد أنها لم تسمع باسمه من قبل وإن كانت شعرت أنها في حضرة شخص ذي قيمة كبيرة. قرر العقاد وهو الذي عاش قصتي حب كبيرتين فشل فيهما، أن يتبنى فكريا وعاطفيا هذه الشابة التي كتب عنها عامر العقاد فصلا في كتابه بعنوان «السمراء الفاتنة». وأُعجبت الفتاة بهذه الأجواء الجديدة عليها واهتمام كاتب كبير بتعليمها وتثقيفها، ولكن قلبها كان معلقا بالتمثيل هوايتها الأولى، وعاد العقاد إلى طبيعته التملكية، محاولا سجنها في قفص من كتب، فكلف من يراقبها، ويحصي عليها أنفاسها، إلى أن واتتها الفرصة على غفلة منه للتمثيل مع المطرب الكبير محمد عبدالوهاب في فيلم «ممنوع الحب»، ولم تنفذ أمر العقاد بتمزيق عقد العمل والذهاب إلى بيته، بل اتصلت به بعد أيام تخبره أنها قد سمت نفسها مديحة يسري وأنها ارتبطت بمطرب يدعى محمد أمين، وكانت تلك نهاية حب من طرف واحد، وقد صرحت بعد وفاة العقاد بأنها لم تكن تحبه، بل كانت تعتبره أستاذا لها. وما كان لكبرياء صاحب القلم الجبار أن تتقبل ذلك فلجأ إلى الفن ينتقم به منها، فكتب عدة قصائد في ديوانه «أعاصير مغرب» قسا في بعضها جدا على مديحة يسرى حين كتب: أفي حجرة النوم أم قاعة العرض جمهور فنك مستحضر/ ومن تعرفين أمام الستار أم خلفه دائما أكثر. وبعد أن كان يضع صورتها أمام سريره في حجرة نومه استبدلها بلوحة طلبها من تلميذه الفنان صلاح طاهر مرسوم فيها صورة فطيرة عليها صرصور وذباب يحوم، وذباب آخر ميت سقط في القدح الذي يُصب منه العسل على الفطيرة، «فلا يأكل من الفطيرة الحلوة على هذه الصورة شبعان ولا جوعان، بل تعزف النفس حين تراها عن كل طعام» كما قال العقاد نفسه.
كانت هنومة التي أصبحت بعد ذلك الفنانة الكبيرة مديحة يسري وتزوجت الملحن محمد فوزي آخر حب كبير في حياة رجل قهر سياسيين وأدباء كبارا بعقله، ولكنه لم يستطع فهم ما يدور برأس النساء فقهرن قلبه، فلم يجد سببا لذلك برأيه، إلا أنهن خائنات غادرات بالفطرة، فدعا إلى مبادلتهن الخيانة بمثلها: خلّ الملام فليس يثنيهـا…حب الخداع طبيعة فيهـا/خنها ولا تخلص لها أبدا… تَخلُص إلى أغلى غواليها.
شاعرة وإعلامية من البحرين