نحن متهمون بحب الأسد!
نحن متهمون بحب الأسد!
توفيق رباحي
بـ«نحن» أقصد مواطني شمال إفريقيا، تونس، الجزائر، المغرب وحتى موريتانيا. هناك انطباع، تطوَّر إلى تهمة، بأننا معجبون بديكتاتوريات المشرق العربي ونعشق رؤوسها مثل بشار الأسد وقبله صدام حسين.
هناك معطيات تدفع إلى الاعتقاد بأن هذه «التهمة» ليست نابعة من فراغ. كلما عصفت أزمة بدولة من دول المشرق العربي، ارتفع منسوب الجدل في المغرب العربي وبرزت «التهمة» في المشرق تصريحا وتلميحا.
لن أنسى ما حييت حمى انبهار الجزائريين، شعبا ونخبا، بصدام حسين وهو يحتل الكويت ويشرّد شعبها، وبـ»انتصاره الأسطوري» على التحالف العالمي الذي التأم لتحرير الكويت وتدمير الجيش العراقي بالنتيجة. أذكر تفاصيل ذلك الفلتان الإعلامي الكبير: كنت محررا مبتدئا في صحيفة مسائية وأشاهد من حولي كتّاب المقالات ينزوون كلٌّ في ركنه ليكتبوا ما يحلو لهم في تمجيد صدام. يمدحون خططه و«عبقريته العسكرية» بلا معلومات موثوقة وبلا رؤية كأنهم مخططون استراتيجيون عالميون أو جنرالات خاضوا معارك الحرب العالمية الثانية، رغم أن بعضهم لم يرَ بالعين المجردة بندقية صيد في حياته. ثم يجد كلامهم طريقه إلى النشر من دون أدنى تدقيق أو مراجعة.
عندما أتذكر ذلك الفلتان أقول في قرارة نفسي إننا مَدينون باعتذار علني للكويت. كنا في جهل كبير بمأساة الكويتيين جراء ذلك الاحتلال، ونصر على تجاهلها. حاولت السلطات الجزائرية تصويب الأمور لكنها فشلت لأسباب، منها مرور البلاد بحالة هيجان تعود لانفتاح سياسي وإعلامي أوشك على الخروج عن سيطرتها، وتزامنه مع هيمنة الإسلاميين بشعبيتهم الجارفة على الشارع. هناك مَن قال إن السلطات شجعت ذلك الفلتان لامتصاص حمى الشارع وتكريس الانطباع بوجود حريات سياسية وإعلامية.
قبل الكويتيين، كنا جاهلين بما فعلت ديكتاتورية صدام بالعراقيين ذاتهم، رغم وجود مئات الأساتذة العراقيين يُدرّسون في الجامعات الجزائرية من أقصى البلاد إلى أقصاها. التقيت عددا من هؤلاء في لندن بعد سنوات وعرفت أنهم كانوا من المعارضين، ووجدت بينهم من درَّسوا في جامعات سيدي بلعباس ووهران والعاصمة وحتى تيزي وزو فأحبوا أهلها وتعلموا كلمات أمازيغية.
وعندما تعلق الأمر بالحالة السورية لاحقا، تكرر الجهل الفادح بمعاناة السوريين من إجرام نظام حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار.
أقصد هنا الجزائريين، لكنني أستطيع أن أجزم بأن الحالة نفسها تتكرر، بشكل أو بآخر، في تونس والمغرب وموريتانيا.
لما أطاح التونسيون بنظام بن علي في 2011 هلّل لهم العالم العربي وفرح لفرحتهم. وعندما امتدت الانتفاضة إلى مصر كانت الفرحة ذاتها وأكبر. لكن عندما وصل طوفان الغضب إلى سوريا، بدأ الحديث عن مؤامرة عالمية تستهدف دورها المزعوم في دعم القضية الفلسطينية. حتى في تونس ارتفعت أصوات مثقفين وناشطين ينددون برغبة السوريين في التخلص من ديكتاتورهم ويعتبرونها «مؤامرة» دولية، رغم أن هؤلاء الأشخاص ذاتهم شجعوا الثوة على بن علي باعتبارها «إطاحة بنظام ديكتاتوري».
كلما عصفت أزمة بدولة من دول المشرق العربي، ارتفع منسوب الجدل في المغرب العربي وبرزت «التهمة» في المشرق تصريحا وتلميحا
استمر هذا المزاج في تونس والجزائر قبل هروب الأسد وبعده. في تونس مال المزاج السياسي منذ اليوم الأول نحو رفض ما حدث في سوريا. تسمع ذلك تصريحا وتلميحا في أوساط ما يسميها التونسيون الثورة المضادة. في الأسبوعين السابقين لهروب الأسد، حفلت قناة «الميادين» اللبنانية الداعمة لإيران، بالضيوف التونسيين الذين يدينون ما يجري ويصنّفونه في خانة المؤامرة على سوريا بسبب موقف قيادتها «الممانع الداعم للقضية الفلسطينية».
في الجزائر تناول الإعلام المحلي ما يجري في سوريا، ولا يزال، بحذر يقترب أحيانا إلى التعتيم. في موريتانيا يبدو نظام الرئيس ولد الغزواني أقل اندفاعا نحو سوريا مقارنة بنظام ولد عبد العزيز، لذلك جنح المزاج الموريتاني وفضّل الإعلام ما يشبه الحياد: تغليب الجانب الخبري على ما دونه.
سألني عراقيون في لقاءات لندن من أين نستمد كل ذلك الإعجاب بصدام حسين. وقال آخرون: لو أعرناكم إياه يحكمكم يوما واحد ستلعنون سلالته إلى عاشر جدّ. واليوم قد يكرر سائل السؤال ذاته عن صدام والأسد. جوابي: القضية الفلسطينية هي السبب! صديقنا أيّ أحد يدّعي الدفاع عن فلسطين. لا يهم إن كان صادقا أو كذوبا. ولا يهم إن أصاب أو أخفق. ولا يهم أيضا إن كان لذلك ثمن.
والدليل أن مواطني شمال إفريقيا لم يراكموا مشاعر قوية تجاه صدام حسين وهو يخوض حربه الشرسة الطويلة ضد إيران رغم أن إعجابهم به وبالعراق كان موجودا. لكن الإعجاب الكامن تطوَّر إلى انبهار أثناء احتلال الكويت بسبب مشاعر سلبية دفينة تجاه الكويت بسبب الثراء وبعض الأحكام الجاهزة المُخزّنة في شمال إفريقيا عنها وعن دول الخليج كله آنذاك. ثم تضاعف الانبهار بصدام ليفلت من عقاله في الشهور اللاحقة لأنه أطلق بضعة صواريخ في اتجاه إسرائيل.
مشكلتنا أننا مثل العاشق الأعمى، نتوقف عن ملاحظة عيوب مَن نفتتن بهم عندما يدَّعون الدفاع عن فلسطين. واستنتاجا رفض الكثيرين منا تصديق ما أُشيع طيلة السنوات الماضية عن جرائم بشار الأسد وصدام حسين في حق شعبيهما.
بعيدا عن السياسة، هناك أسباب سيوسيو ثقافية غير مباشرة لكن يجدر أخذها في عين الاعتبار. عشنا في شمال إفريقيا في مجتمعات متجانسة تماما ومستقرة.. دين واحد، طائفة واحدة، مذهب واحد. مجتمعات متجانسة عرقيا إلى حد بعيد. نشبه بعضنا في المأكل والملبس والعادات والتفكير والفرح والحزن، وفي التديّن وما يتفرّع عنه من أفكار ومعتقدات. وقد ترتَّب عن هذا الانسجام شيء من الصعوبة في تقبّل الاختلاف أو الخروج عن الإطار الاجتماعي المرسوم. وقابل الانسجام جهل بمجتمعات المشرق العربي فاعتقد كثيرون منا أن كل العرب مسلمون بالضرورة، واستغرب آخرون وجود مسيحي قيادي في حركات النضال الوطني الفلسطيني.
وسط هذا الجهل كنا نعتقد أننا نعرف عن المشرق أكثر مما يجب، ونعتب على أهله معرفتنا بهم وجهلهم بنا، واستمر هذا الحال إلى وقت قريب. اليوم هناك انفتاح واطلاع أكثر، لكن لم يصل الأمر بعد إلى تحرير «المغاربيين» كليا مما يمكن تسميتها مجازا «متلازمة طغاة المشرق».
كاتب وإعلامي من الجزائر