مقالات

“جهاديّون” يتغيّرون ومثقّفون على حالهم

“جهاديّون” يتغيّرون ومثقّفون على حالهم

عوض عبد الفتّاح

لقد أدّى العمى الأيديولوجيّ أو لوثة العصاب إلى تكلّس في المشاعر الإنسانيّة تجاه ضحايا النظام، وهو مرض عرفته حقبة الأنظمة التوتاليتاريّة والسلطويّة، وخاصّة الحقبة الستالينيّة الّتي غيّبت آلاف المثقّفين والمفكّرين والسياسيّين وملايين الناس…

كانت لحظة سقوط وانهيار النظام السوريّ على النحو الّذي جرى فيه مدهشة من حيث السرعة وسلميّة الحدث، وسلوك وخطاب الفصائل الجهاديّة. والتعبير عن هذه الدهشة غمرت وسائل الإعلام كلّها، والّتي تناولتها بالتعليقات والتفسيرات والتأويلات المختلفة. وتوزّع واختلف الموقف من هذا السقوط المدوّي بحسب المنطلقات الأيديولوجيّة والمصالح الإقليميّة والجيوسياسيّة لكلّ طرف، وتراوحت بين الفرحة والحذر والرعب. كما تقاطعت مشاعر الارتياح وكذلك الفرح بين أطراف لا تجمعهم مصائر مشتركة، وأيضًا تقاطعت حالة الخوف والغضب في حالة أطراف لا تجمعهم أيضًا توجّهات سياسيّة أو أيديولوجيّة، مثل خوف أنظمة عربيّة معادية للمقاومة، ودول داعمة للنظام السوريّ، مثل إيران وروسيا.

ولكنّ ثمة جانبًا من الحدث لم يلتفت إليه الكثيرون، ويتفكروا فيه بصورة كافية، والّذي يتّصل بمسألة التجديد والمراجعة الّتي تندر في العالم العربيّ؛ كيف أنّ تيّارات جهاديّة متطرّفة تمتلك الجرأة، وتقدّم على مراجعة طريقة تفكيرها وسلوكها ونهجها، وتحدث مفاجأة كبرى، وإن كان في إطار الأيديولوجيّة، الأيديولوجيّة الجهاديّة والإسلام السياسيّ الّتي تؤمن بها، وهي التغييرات والمراجعات على ما يبدو الّتي أهّلّتها لقيادة وتصدر عمليّة إسقاط النظام، وفتح الباب أمامها لقبول شعبيّ واسع، فيما للمفارقة ظلّ النظام ومريدوه من مثقّفين وإعلاميّين وأكاديميّين علمانيّين من داخل سوريّة وخارجه، في حالة تخشّب، وعمى طيلة السنوات الماضية، والّذي قاد إلى انفضاض قاعدته الشعبيّة والجيش عنه، وصولًا إلى الانهيار الكامل.

يتحمّل هؤلاء المثقّفون والإعلاميّون مسؤوليّة أخلاقيّة كبرى عن جرائم النظام، إذ وفّروا له حماية وشرعيّة زائفة لسنوات طويلة خلال قمعه وبطشه بشعبه، والأسوأ أنّهم واصلوا ممارسة الموقف ذاته، بل بمزيد من الشراسة، بعد توقّف الحرب الأهليّة عام 2018، وإعلان النظام “الانتصار”. صحيح أنّ جزءًا منهم بدأ بإعادة النظر وممارسة النقد الذاتيّ، ويتصالح على الأقلّ في نغمة الخطاب، ولكن هناك من يواصل المكابرة وهو أمر خطير.

لم يستوعب ذلك الفريق من المثقّفين والإعلاميّين المتعصّبين جدليّة الاستبداد والتحرّر، بل بعضهم استخفّوا بهذه الجدليّة ناعتين من يتمسّك بها بتبنّي رؤية ثقافويّة استشراقيّة عن مقوّمات الانتصار وأسباب الهزيمة في الوطن العربيّ، رغم أنّ بعضهم مفتون بكتابات الثوريّ فرانز فانون، الّذي حذّر قبل انتصار الثورة الجزائريّة من مغبّة استقرار مخلّفات الاستعمار في النخبة الّتي ستحكم البلد بعد الانتصار؛ وتمادوا بلغوهم الكلاميّ ورمي زملائهم من المثقّفين المتحرّرين المناصرين للثورات العربيّة والسوريّة من أنصار جدليّة المقاومة – التحرّر والاستبداد، بتهم الخيانة والتواطؤ مع الأعداء. وحتّى الّذين رفضوا العسكرة، وتدخّل وعبث الخارج، الخليجيّ والإمبرياليّ الغربيّ، ودعوا إلى الحوار والمصالحة منذ لحظة انفجار الثورة، وأطلقوا مبادرات وطنيّة مهمّة، تعرّضوا للتهم نفسها. ولم يثر اعتقال وملاحقة واختفاء بعض هؤلاء الشرفاء، مثل المثقّف الوطنيّ المستقلّ عبد العزيز الخير وغيره الآلاف، أيّ اهتمام من مثقّفي النظام في سوريّة وفلسطين وبقيّة أقطار الوطن العربيّ.

لقد أدّى العمى الأيديولوجيّ أو لوثة العصاب إلى تكلّس في المشاعر الإنسانيّة تجاه ضحايا النظام، وهو مرض عرفته حقبة الأنظمة التوتاليتاريّة والسلطويّة، وخاصّة الحقبة الستالينيّة الّتي غيّبت آلاف المثقّفين والمفكّرين والسياسيّين وملايين الناس، بحجّة حماية الداخل من العدوّ الرأسماليّ والإمبرياليّ. وعلى وجه اليقين أنّ هؤلاء قرأوا تلك الحقبة المظلمة، ولكنّهم لم يدركوا بعدها العمليّ المدمّر، وليس فقط بعدها الإنسانيّ. ولم يكن ليتمّ كلّ ذلك من دون تجنّد جيش من المثقّفين والإعلاميّين، إمّا قناعة، أو طلبًا لمصلحة، أو خوفًا من آلة البطش والقمع. وبطبيعة الحال، ينطبق هذا على أنظمة غربيّة إمبرياليّة أيضًا، خاصّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة، إذ تنطبق عليها رواية جورج أوريل “1984” الديستوبيّة الشهيرة، عن الدولة الشموليّة وطغيان النظام، ولكنّ هذه الأنظمة الّتي تفتك بوحشيّة بشعوب العالم، لا تفتك بمواطنيها بمجرّد التظاهر، بل تسيطر عليها بأساليب أخرى.

في سورية لم تكن لتنشأ تلك المنظّمات الجهاديّة المتطرّفة، ولم يكن ممكنًا خلق البعض منها من الخارج، من دون شموليّة وتوحّش النظام السوريّ وبطشه الدمويّ بالمتظاهرين السلميّين على مدار تسعة أشهر الأولى من الثورة، أي قبل أن تنجرف الثورة إلى العسكرة، وتوسّع تلاعب الخارج بها. ما معناه، أنّ النظام ومعه فريق واسع من المثقّفين، كان لهم الدور المركزيّ في تحويل الثورة من ثورة ذات طابع مدنيّ أهليّ إلى حرب أهليّة ومذهبيّة مدمّرة. وبدّل أن يقدم النظام على مراجعة نهجه وسلوكه، وبدّل أن يقوم المثقّفون بدورهم النقديّ والإصلاحيّ بدفع هذا النظام إلى الإصلاح والمصالحة، واصلوا الترويج لما سمّوه صموده الأسطوريّ، وتمكّنه من “الانتصار على ثمانين دولة”، دون أن يقولوا لنا لماذا لم ينتصر على الاحتلال الإسرائيليّ في الجولان طالما له القدرة على الانتصار على الجميع، في حين أنّه كان عام 2014 قاب قوسين أو أدنى من السقوط قبل التدخّل الروسيّ الّذي سبقه تدخّل إيران وحزب اللّه. لقد غذّوا غطرسته وانغلاقه بشعارات فارغة، وطربوا على خطاباته الممانعة.

إنّ جزءًا من هؤلاء كانوا مدفوعين بقناعة صادقة، هكذا ظنّوا أو توهّموا، أنّ دفاعهم عن النظام هو دفاع عن خيار المقاومة. لكنّهم فرطوا، بوعي أو بغير وعي، بمصالح الشعب وبمطالبه بالحرّيّة والأمن ولقمة العيش والكرامة، مصوّرين كلّ ذلك أنّه في مواجهة إسرائيل ومشروعها التوسّعيّ العدوانيّ. وحتّى عندما بدأوا يلمسون بدء تسلّل النظام، بل علنًا، خارج محور المقاومة من خلال إقدامه على تطبيع علاقته مع نظام الإمارات المتحالف مع إسرائيل، والتضييق على الوجود الإيرانيّ في سوريّة، وتهرّبه من واجب المقاومة في أثناء الحرب الإباديّة على غزّة ولبنان، لم يتوقّفوا عن ممارسة دورهم في التغطية عليه. فجاءت الصدمة لهم في هذا الجانب الّذي استثمروا فيه كلّ طاقاتهم الأخلاقيّة، وانتهى الأمر في خسارة كلا الرهانين؛ خسارة النظام، وهي خسارة محمودة، وخسارة خيار المقاومة أو انحسارها، وهي خسارة مؤقّتة، لأنّ الشعب الفلسطينيّ والشعوب العربيّة لا يمكن أن تسمح للمشروع التوسّعيّ الصهيونيّ الغربيّ بأن يحقّق أهدافه.

طبعًا لا نعني بكلّ هذا النقد تجاهل المخاوف من تأثيرات التغيير في سورية على القضيّة الفلسطينيّة، وعلى مستقبل وأمن المنطقة العربيّة، إذ إنّ النظام الصهيونيّ كشف مخطّطاته التوسّعيّة بلا رتوش، والّتي تعني رفض أيّ تسوية معهم. ولا يمكن تجاهل أنّ تفكّك محور المقاومة، مع كلّ ما له وما عليه، يلقي بإسقاطاته على معادلة القوّة ضدّ إسرائيل الّتي باتت تشعر بمزيد من الغطرسة والانفلات والتوحّش والتوسّع، في سوريّة وفلسطين ولبنان، خاصّة وأنّ موقف القيادة الجديدة لسوريّة غير واضح بخصوص المواجهة مع العدوان الخارجيّ، ناهيك عن تهتّك النظام العربيّ الرسميّ الّذي يتهيّأ للتكيّف مع سياسات ومطالب رئيس الإمبراطوريّة الأميركيّة القادم، دونالد ترامب، والتطبيع مع نظام الأبرتهايد الإباديّ. ولذلك، ينتظر الكثيرون في سورية والعالم العربيّ من القيادة الجديدة ومختلف المكوّنات السياسيّة والمدنيّة للشعب السوريّ، ربط إعادة البناء وتشكيل سوريّة الجديدة بواجب الدفاع عن سيادة البلد ضدّ الاحتلالات الكثيرة، وفي مقدّمتها الاحتلال الصهيونيّ، وهو أطول احتلال على جزء عزيز من أرضها، الجولان.

ما يميّز المثقّف الحقيقيّ هو وقوفه ضدّ الظلم، وقدرته واستعداده لاستخلاص الدروس، والاصطفاف إلى جانب الشعوب وتطلّعاتها بالحرّيّة والتحرّر والأمن والعدالة الاقتصاديّة. ومطلوب منه في هذا الوقت بالذات أن يبقى بالمرصاد للسلطة الجديدة، الانتقاليّة أو الّتي ستنتخب، في انتخابات ديمقراطيّة قادمة، مراقبًا وناقدًا وموجّهًا لها. وهذا ينطبق على مثقّفي العالم العربيّ، بما فيها فلسطين.

ولذلك، لا مفرّ أمام دول الوطن العربيّ إلّا ربط رؤية التحرّر بالتنمية الداخليّة والديمقراطيّة، والحرّيّات والعدالة الاقتصاديّة. إنّ من شأن ذلك أن يحقّق النهضة الداخليّة وينهي الاستعمار، ويجلب السلام والحياة الحرّة الكريمة والعدالة لشعوب المنطقة، من دون حروب ودماء وعذابات يعاد إنتاجها بصورة مروّعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب