ثقافة وفنون

سوف تطاردك المدينة!

سوف تطاردك المدينة!

إبراهيم عبد المجيد

بعد خمسة وأربعين عاما، سافرت إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في إحدى ندوات معرض كتاب مدينة جدة. تلقيت خلال هذه السنوات الطويلة أكثر من دعوة لمهرجانات مثل الجنادرية، لكن لم تكن الظروف تسمح لي بالسفر. رغم التعب والانشغال وافقت هذه المرة. لم تكن الدعوة لوقت طويل. ثلاثة أيام. السفر إلى جدة من القاهرة غير متعب، فالطائرة لا تستغرق أكثر من ساعتين. وافقت رغم أني لست بالقوة التي تسمح لي بالتنقل بين المدن التي اشتاق إليها، وعلى رأسها مكة والمدينة. كان موضوع الندوة هو «المدينة والرواية».. وكان من محاسن الندوة أن الذي يديرها هو الشاعر والصحافي هاشم الجحدلي، الذي تمتد صداقتنا لسنوات طويلة، والذي هو من أكثر الناس معرفة بي شخصيا ومعرفة بأعمالي.

طبيعي أن تنثال عليّ الذكريات أثناء عملي في المملكة العربية السعودية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وكان من حصادها رواية «البلدة الأخرى»، التي صدرت نهاية عام 1990. لكن بعيدا عن الذكريات، كنت أعرف أني سألتقي بشخصيات أحبها من هناك أو من العالم العربي. لسوء الحظ من قابلتهم من العالم العربي كان اللقاء بهم عابرا، فالدعوة لأي منا ليست لأيام طويلة. يومان أو ثلاثة أيام. ومن ثم كنت أجد وأنا داخل إلى الفندق صديقا خارجا، لكنه مسافر بعد يومين قضاهما، وأقابل بينما أنا خارج من الفندق صديقا وصل الآن وسيصعد إلى غرفته للراحة، لكن في كل الأحوال كانت سعادتنا باللقاء السريع كبيرة. ذهبت إلى المعرض في اليوم الأول لحضوري وأخذت جولة بين دور النشر، صاحبني فيها هاشم الجحدلي، الذي لم يفارقني قط، والذي جعل للزيارة روعتها، فهو لم يشاركني في الندوة فقط، لكن صحبني مع بعض الأصدقاء، التقيتهم معه لأول مرة، مثل صالح بوقري وعبد الله الخطيب الناقد والملحق الثقافي السابق في فرنسا وفهد العريفي ووليد النعام وعبد الله المحيميد وبكر الخطيب. صحبني في زيارة رائعة معهم لجدة التاريخية، أو ما يطلقون عليه اسم «البلد». مشينا بين بنايات تحمل جمال الطرز المعمارية القديمة، من مشربيات وأبواب مصنوعة من حجر المنقبي البحري، تجسد أصالة العمارة المحلية. ومن دعانا للجولة كان كاتب القصة الساخر ومحب الفن صالح بوقري، صار يشرح لنا تاريخ المكان. رأيت كيف يحافظون على هذه الطرز المعمارية النادرة، ولا يغريهم البناء الحديث الذي ترتفع فيه البنايات دون جمال.

رأيت العمل في تجديد البيوت، لتكون من أجمل المزارات السياحية، وكيف لا يتم الاعتداء عليها أو محوها لأي سبب. من المظاهر التي أسعدتني جدا، أن في مقدمة المعرض استراحة واسعة مريحة المقاعد، جلسنا فيها قليلا فإذا بعدد كبير من الفتيات الصغيرات، يمرن علينا حاملات القهوة العربية أو الشاي أو التمر أو الحلوى. فتيات وليس أولادا. الأولاد موجودون أيضا في كل مكان في المعرض لتقديم أي مساعدات للزائر، لكن أدهشني العدد الكبير للفتيات لتقديم أي خدمات مطلوبة. باعتبارنا من المدعوين، كان الجميع تحت طلبنا عند نهاية جولتنا، بإحضار السيارة التي تعيدنا إلى الفندق، أو أي مكان نريد زيارته. في الفندق نفسه كانت هناك فتاتان تتغيران بين النهار والليل تشغلان مكانا في ردهته لتنفيذ مطالبنا. فتيات دائما أكثر. في المقاهي التي جلسنا فيها، في جولتنا في الحي القديم، رأيت فتيات أيضا يقمن بالخدمة فيها أكثر من الأولاد. ورأيت الجالسين معا من الجنسين كبارا أو شبابا. كنت أضحك وأنا أتذكر الزمن القديم، حين كنا نطلق عليها المملكة العربية السعودية للبنين! لقد صار هذا غير موجود وصارت للجميع. كنت أعرف ذلك قبل سفري طبعا، لكن الآن رأيته بنفسي. جاءت الندوة التي أدارها باقتدار هاشم الجحدلي. كان السؤال عن المدينة والرواية كما تجلت في أعمالي التي يعرفها هاشم جيدا. طفنا بين عواصم أوروبية وعواصم عربية كثيرة، ما جعلني أتذكر كثيرا مما كتبته في روايات لي أو مقالات. مدن مثل باريس أو روما أو مدريد أو بغداد أو دمشق أو مراكش أو الرباط وغيرها. كانت الندوة حافلة بالحضور والأسئلة والنقاش، رغم قصر الوقت الذي كان ساعة واحدة. أخذني بعدها هاشم في جولة أخرى بين شوارع جدة من جديد.

بدأت الندوة بسؤال هاشم الجحدلي عن الإسكندرية وكيف تجلت في أعمالي. أوجزت الأمر بحديث عن الأسطورة التي رافقت بناء الإسكندرية حين طلب الإسكندر الأكبر عام 331 قبل الميلاد من دينوقراطيس الشهير والبارع في الهندسة، أن يرسم له المدينة التي ينوي بناءها على الأرض. كيف لم يجد دينوقراطيس حجرا جيريا يرسم به على الأرض فرسم خطوط المدينة بالغلال. وإذا بالطيور تأتي من السماء تأكل الغلال، ما جعل الإسكندر يفزع ويتشاءم، لكن دينوقراطيس قال له لا تقلق يا سيدي، هذه المدنية ستكون لكل العالم يأتي إليها. وبالفعل صارت كذلك لأكثر من عشرة قرون وتفاصيل ذلك، من المكتبة إلى الجامعة إلى الفلاسفة والعلماء، الذين ظهروا فيها وغير ذلك كثير، حتى دخلها العرب بعد حوالي عشرة قرون فتم إهمالها بإهمال الميناء وطلتها على العالم. كيف عادت إلى عالميتها مع محمد علي باشا، بعد حفره ترعة المحمودية وإعادة ربط المدينة بالعالم عن طريق الميناء، رغم ما دفعه المصريون من ثمن لمشاريعه، خاصة في السخرة في العمل التي استمرت مع أبنائه حتى إسماعيل باشا، رغم مشاريعهم النهضوية. كيف بعد حفر ترعة المحمودية وفد إليها اليونانيون والإيطاليون واليهود والأرمن والأكراد والشوام وغيرهم، وكيف كانوا صناع النهضة في الفنون والآداب. كيف جاءت يوليو/تموز 1952 وكانت السياسة الجديدة للدولة طاردة للجاليات الأجنبية في عهد عبد الناصر، ثم جاءت الخطوة التي لا تنتهي بشاعتها مع سياسة الدولة التي بدأت مع أنور السادات، فصارت مدينة عشوائية سلفية رجعية، وحديث طويل حملته صفحات ثلاثية الإسكندرية بأجزائها الثلاثة «لا أحد ينام في الإسكندرية – طيور العنبر – الإسكندرية في غيمة».

ظلت معي طوال عمري مقولة كفافيس «لن تجد بلدانا وبحورا أخرى.. سوف تطاردك المدينة»، وصارت عبارته الآن تشمل الإسكندرية والقاهرة التي تغيرت أيضا، ولم تنته ذكرياتي فيها منذ خمسين سنة في رواياتي عنها. كان لا بد للأسئلة أن تذهب مع هاشم الجحدلي إلى رحلة العمل في مدينة تبوك، التي أنتجت روايتي «البلدة الأخرى»، أوجزتها في عبارات قليلة هي الجملة التي افتتحت بها الرواية «انفتح باب الطائرة فرأيت الصمت»، وكيف كان الصمت خلف لغة الرواية، في مدينة لم يكن فيها أكثر من خمسين ألفا، فضلا عن الغرباء ذلك الوقت. وفي نهاية الرواية حين سأل المجاور في الطائرة بطل الرواية العائد إلى مصر، هل ستعود إلى تبوك فقال لا. هل ستبقي في مصر فقال لا أيضا. ومن يقرأ الرواية ويعرف ذلك الزمن يدرك أنه في مصر تجد العلاقات الإنسانية ولا تجد المال، وفي البلدة الأخرى تجد المال ولا تجد العلاقات الإنسانية، فليس هناك سينما ولا مسرح ولا حدائق ومقاه للجنسين مثلا كما يحدث الآن. والأمل يظل دائما فى مدينة فاضلة تتوفر فيها المادة مع الروح. كان من أجمل اللقاءات لقاء مع الكاتب عبده خال وعائلته والصحافي والكاتب علي مكي وعائلته وأنا ومعي زوجتي سندي في السفر والحركة. كان اللقاء في بيت علي مكي في مدينة «كاوست» أو جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ومعنا جميل الدندني الكاتب باللغة الإنكليزية في منصة سعودي جازيت. المدينة الصغيرة المدهشة في تكوينها للعاملين فيها من الأجانب والعرب، وبينهم علي مكي مستشارا إعلاميا. أغرقنا علي مكي بكرمه الحاتمي الدائم، كما عرفته وهو صاحب كتاب الحوارات «علمانيون وإسلامويون». أخذنا الحديث إلى الأدب والحياة والذكريات لساعات طويلة، وكانت أجمل ختام، ففي الصباح سأعود إلى القاهرة.

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب