مقالات

سورية وإسلامية ما بعد التغول

سورية وإسلامية ما بعد التغول

ياسين الحاج صالح

 

 

شهدت سوريا تحولاً غولياً إسلامياً بدءاً من عام 2013 استمر لسنوات، ارتكب خلالها سلفيون جهاديون ومجاهدون جرائم منكرة، وبدا طوال سنوات صعودهم المجنون أن الثورة السورية خسرت قضيتها نهائياً. ويبدو أن إسلاميي اليوم هم إسلاميو ما بعد التغول، نزلوا عن الشجرة العالية التي صعدوا عليها، فأخذوا يرفعون علم الثورة السورية بعد أن كانوا ينبذونه، بل صاروا يتكلمون على الثورة السورية، بعد أن كان خيالهم السياسي مسكونا بشبح «الأمة الإسلامية» واعتدلت لغتهم وممارساتهم بعد أن كانت فائقة التطرف. نتكلم على تغول إسلامي لأن الأمر كان ضرباً من جنون التطرف، ضربا من سكرة دينية مذهبة للعقل، أصابت مجموعات الإسلاميين كلهم، وإن بتفاوت، سكرة لم تكن على قطيعة مع أفكار المواطنة والمساواة في الحقوق فقط، وإنما حتى مع التقليد الإسلامي (السني) ذي المنحى الاستيعابي في إطار سيادة إسلامية سياسية ورمزية. ما يرى من اعتدال بين إسلاميي سوريا اليوم يبدو أقرب إلى عودة إلى هذا التقليد الذي يقبل بالتعددية الدينية والثقافية الموروثة من الماضي (لكن ليس بتعددية سياسية تحيل إلى مصالح ورؤى وتفضيلات اليوم).
ذروة التغول تمثلت في داعش، الذي كان مطحنة للبشر في مناطق سيطرته، وجمع بين نظام تجسسي شمولي لا يعترف بحرمة الحياة الخاصة، وبين استعمار استيطاني إحلالي مثل إسرائيل، يمنح مساكن السوريين الذين نجوا بأنفسهم لمجاهديها الجوالين القادمين من كل مكان، الذين لا تضبطهم لا أعراف ولا شبكات اجتماعية ولا لغة كلام مشتركة مع محكوميهم من «عوام المسلمين»؛ وداعش بعد ذلك منظمة إرهابية لا تميز بين مدنيين وعسكريين، وتُكفّر على «أبو جنب» حسب التعبير المحكي السوري، أي عشوائياً وفي كل اتجاه. إعدامات داعش المشهدية كانت مصدر ترويع عام، استندت إليه في حكمها مثلما استند الحكم الأسدي على مخابراته المتوحشة.
ورغم أن داعش لم يكن من نتاج ديناميكيات الثورة السورية، أو تجسداً دينياً منظماً لديناميكيات التجذر والتشدد والعسكرة والأسلمة والتطييف التي أخذت تشاهد في سوريا بتصاعد في عام 2012 وما بعد، إلا أنه استفاد من هذه الديناميكيات واستقطب قسماً من مجاهديه الجوالين من السوريين، وسيطر على مناطق واسعة من البلد طوال سنوات. لم يكن هذا الغول غولنا حصراً، لكن سوريا وفرت بيئة انتشار لمثل هذا التكوين الجهادي المعولم، الذي لا يلحظ نموذج الديني السياسي مجتمعات عينية وتجارب تاريخية مختلفة وذاكرات نوعية، والذي لذلك بالذات يعرض استعداداً غولياً. اليوم، داعش غول صغير، مقلم الأظافر، وقد يكون التحول السياسي الديني الذي جرى في سوريا هو الترياق الأنسب ضد ما بقي من هذا الغول.
جبهة النصرة بدورها لم تكن وثيقة الصلة بديناميكيات الصراع السوري، فقد وفد مجاهدوها الأولون من العراق إلى سوريا التي أخذت تبدو لهم بيئة تمدد وانتشار بفعل حرب الحكم الأسدي على الثورة السورية. كانت جبهة النصرة قوة تطرف لا ترتبط بمجتمع وتاريخ وذاكرة وحساسية خاصة، ولديها نموذجها المجرد، السلفي الجهادي، يصلح هنا والآن وفي كل مكان وزمان، ويفرض بالقوة (داعش نفسها كانت جزءاً منها حتى نيسان 2013). وجمعت هي الأخرى مجاهدين جوالين من بلدان عديدة (يبدو أن بعضهم هم من أحرقوا شجرة الميلاد في السقيلبية قبل أيام) وإن كان أكثرهم سينحازون إلى داعش في وقت لاحق. وفي سجلها هجمات على عدرا العمالية في ديسمبر 2013، وعلى قرى أرياف اللاذقية في العام نفسه، مع استهداف مدنيين علويين بالقتل والخطف في الحالين. ومن هؤلاء المحازيين من قتلوا نحو عشرين درزياً في قرية قلب لوزة في إدلب في حزيران 2015. على أن الصفة السورية لجبهة النصرة تنامت منذ انشقاق داعش، وعرضت في وقت لاحق اعتدالاً أوسع، حتى أنها لجمت مجموعات جهادية متطرفة في منطقة سيطرتها. ومعلوم أنها غيرت اسمها إلى جبهة فتح الشام، ثم إلى هيئة تحرير الشام، وفكت ارتباطها مع منظمة القاعدة، وأخذت ترفع علم الثورة وتنسب نفسها إلى الثورة السورية.

هل ما بعد التغول أنسنة؟ سياسة إنسانية إسلامية؟ أقل من ذلك، بالنظر إلى ما قلناه للتو عن استعادة تعددية أهلية مفتوحة على الماضي، وليس تعددية سياسية مفتوحة على المستقبل. هنا يستعيد التشكك في عمق التحول ما بعد الغولي واستدامته كامل حقوقه

وصعد جيش الإسلام الدوماني الشجرة المجنونة، فرفّع نفسه خلال عام واحد من سرية الإسلام إلى لواء الإسلام إلى جيش الإسلام. ومنح نفسه رخصة في ارتكاب الجرائم، من الاعتقال والتعذيب في سجون مؤسسة التوبة، إلى التغييب القسري مثلما حدث لسميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة ونظام حمادي، إلى الإعدام الداعشي المشهدي مثلما جرى لأبو علي خبية في سوق الغنم، ودوماً مع شن حرب أهلية ضمن مجتمع الثورة المحاصر من قبل النظام والمعرض لقصف يومي. وبعد التهجير من دوما إلى مناطق الشمال السوري كان ما بقي من جيش الإسلام جزءاً من الجيش الوطني، تشكيلات مسلحة سورية كلية الفساد وكلية التبعية لتركيا، ولأجندتها المضادة للكرد أساساً. جماعة جيش الإسلام بدورهم أخذوا يعرضون بعض الاعتدال الشكلي، من حيث العَلَم ومن حيث الاندراج في النسق السوري. لكنهم أسرى جرائمهم الماضية، ولا يبدو أنه يمكن أن يكون لهم مستقبل مستقل.
يمكن بطبيعة الحال التشكك في صدق وعمق الاعتدال على هؤلاء الشركاء في النموذج السلفي الجهادي، بل ويجب التشكك. يبدو أقرب إلى الصواب مع ذلك القول إننا ما بعد الذروة الغولية إن جاز التعبير. لكن ما هو جذر التغول ذاته؟ أقدر أنه نتاج تلاقح بين منطق الدولة السيدة الحديثة، ذات الولاية العامة والرقيبة على الكل، وبين صيغة خاصة من الفكر السياسي الإسلامي، السلفية، وفي صيغتها الوهابية الصارمة بخاصة. القطبية المصرية وريثة دعوة أبو الأعلى المودودي للحاكمية الإلهية هي الجسر الذي ربط بين الوهابية والسيادية، وكانت أفغانستان أرض اللقاء. ولقد ظهر أن هذا تحول فتاك، مميت، لا يقوم معه مجتمع ولا سياسة أو ثقافة أو فنون أو حياة روحية.
والأرجح أن للقوى المسيطرة الجديدة تكوينا غير متجانس، يمتد من بين من كانوا سلفيين جهاديين في الحساسية والمخيلة واللغة، ومن هم محافظون اجتماعياً، وربما وطنيون سوريون مؤمنون. وقد يقع أحد أقوى مصادر التوتر في الوضع السوري الجديد ضمن الطيف الإسلامي المسيطر بين عاقلين ومجانين دينيين.
ماذا يكون ما بعد التغول، إذن؟ يبدو أقرب إلى التقليد السلطاني الإسلامي، مزيج من مركزية إسلامية سنية مع «تطمين» الجماعات الدينية والمذهبية الأخرى إلى أن «لها ما لنا وعليها وما علينا». وقد يشمل التطمين العلويين و«المكونات» السورية غير الكتابية الأخرى بالتطمين، لكن مرة أخرى يقتصر الأمر على تعددية أمر واقع دينية ومذهبية، وليس تعددية سياسية. ما ينبع من التكوين ما بعد الغولي للفريق الإسلامي المسيطر اليوم هو ضرب من حكم عاقل، غير متطرف، لكن عقله لا يتجاوز الاستيعاب الإسلامي السلطاني التقليدي.
هل ما بعد التغول أنسنة؟ سياسة إنسانية إسلامية؟ أقل من ذلك، بالنظر إلى ما قلناه للتو عن استعادة تعددية أهلية مفتوحة على الماضي، وليس تعددية سياسية مفتوحة على المستقبل. هنا يستعيد التشكك في عمق التحول ما بعد الغولي واستدامته كامل حقوقه. فليس لهذا التحول روح تبث الحياة فيه، ولا تأتي الروح من غير جبهة فكرية نشطة، من شجاعة في الفكر والوجدان، تستجيب لقيم الحرية والمساواة في العالم الحديث وتعيد هيكلة القيم الإسلامية الأساسية لملاقاة هذه القيم. ولأن هذه الجبهة خامدة، فإن «براغماتية» الإسلاميين الراهنة ضعيفة الشخصية وقليلة العمق. الإسلامية التي يدينون بها هي الشكل التاريخي المعاصر من الإسلام الذي عرض كثيراً من الشجاعة الجسدية والاستعداد الحربي وقليلاً من الشجاعة الفكرية والروحية وتغيير النفس.
ما يبدو مستبعداً من تشكيلة السلطة ـ الإيديولوجية الحالية هو السنيين غير النمطيين من يساريين وليبراليين وعلمانيين وغير مؤمنين. ليس هناك مقولة أهلية تشمل هذا الطيف بما يتيح استيعابه، ولكنه لذلك بالذات، أعني لتكوينه المدني أو اللاأهلي يمثل موقع الانفتاح في التشكيلة ومدخل التعددية السياسية إليها. صورة النظام السياسي في سوريا ما بعد الأسدية تتحدد ليس بما يريده المسيطرون الجدد حصراً، ولكن كذلك بقدرة قطاعات أوسع من السوريين على تنظيم قواهم وإسماع أصواتهم وفرض أنفسهم كقوى فاعلة في الحقل الجديد.

كاتب سوري

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب