هذا ليس «السيد أزنافور»… هذا متحف شمع!
هذا ليس «السيد أزنافور»… هذا متحف شمع!
عاش المغني الفرنسي الراحل في باريس الحرب العالمية الثانية، وشهد على كل التحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي انعكست في أغنياته. لكنّ المخرجين مهدي إيدير وغران كور مالاد نزعا هذه الأغنيات من سياقها، وتلهّيا بالأطراف الاصطناعية والمؤثرات الرقمية لإبهار المشاهد!
النصف الأول من فيلم «السيد أزنافور» (2024 ـMonsieur Aznavour)، هو عقاب. أما النصف الثاني، فلولا الأغاني التي نحبها، كاد ليكون انتقاماً منّا لأننا نكمل المشاهدة. بدا كل شيء متواضعاً أمام حجم وأهمية شارل أزنافور (1924 ـــــ 2018)، فالمرحلة السابقة للشهرة بدت ملتبسة، أما الأحداث الشخصية التي تركت تأثيراً في موسيقاه وكلمات أغانيه وكونت شخصيته، فأتت باهتة.
تلهّى صنّاع الفيلم بالأطراف الاصطناعية والمؤثرات الرقمية لإبهار المشاهد، ثم أضافوا إليهما قصصاً تقليدية لإيهامنا بأنّ ما نراه من سطحية في المعالجة، هو كل ما يمكن التحدّث عنه في مسيرة الفنان الفرنسي. فيلم المخرجين الفرنسيين مهدي إيدير وغران كور مالاد، تقليدي، عن شخص ليس فيه شيء تقليدي، فضّلا المحاكاة على العمق، قالا قليلاً، وضاعا كثيراً.
تغاضى العمل عن كل الجوانب الإشكالية والمحرجة في مسيرة العملاق الفرنسي
يتقدم «السيد أزنافور» وفقاً لمنطق تراكمي بسيط، يتتبع مسيرة المغني الفرنسي الأرمني (يجسّد دوره طاهر رحيم)، منذ طفولته في باريس في كنف عائلة مهاجرة متواضعة، حتى وفاته في عام 2018، عن عمر ناهز 94 عاماً. يركز الفيلم على جوانب عدة من حياته: طفولته أثناء الحرب العالمية الثانية، وبداياته في الكباريهات مع شريكه الأول على المسرح بيار روش (باستين بويولون)، ولقاؤه الحاسم بإديث بياف (ماري ــــ جولي بو) التي احتضنته، ثم زواجه الأول والثاني، وسنواته في مونتريال، وجولاته، وعلاقته مع شقيقته، وولده «غير الشرعي»، وقدرته المذهلة على العمل والاستيعاب، وسعيه إلى الكمال، ووضع تحديات لنفسه، وطريقته في التغلب على العقبات والإهانات العنصرية، وما إلى ذلك.
كل هذا ـــــ في ذروة الكيتش ــــ مقسّم إلى فصول. تتبع الفصول بعضها البعض بحكمة في تسلسل زمني صارم، يركز كل منها على إحدى أغاني أزنافور من «الغيتاران»، و«شبابه»، و«البوهيمي» وغيرها من الأغنيات التي خُلِّدت في الذاكرة. لا يقدم الفيلم أي نظرة عميقة إلى الأشياء التي لا ولم نعرفها من قبل في حياة أزنافور. يتغير الفيلم قليلاً مع أول نجاح كبير للمغني، وتوصّله أخيراً إلى «صيغة أزنافور»، وهذا يعني ترك كل شيء وراءه لتكريس حياته بالكامل لإتقان قوافيه المعقدة. وبعدما حقّق كل هذا، ينتهي الفيلم!
يحاول شريط مهدي إيدير وغران كور مالاد، الاختباء وراء القوة الهائلة التي تتمتع بها أغنيات أزنافور في الوجدان. أدرجا أعظم أغانيه في الصورة لجعل الجمهور يشير ويصفّق على الشاشة عندما يتعرف إلى أغنيته المفضلة. لم يحاول المخرجان ابتكار شيء، فالفيلم دائماً في المكان الآمن. الخطر الوحيد الذي يخوضانه، يكمن في بث أغنية للرابر دكتور دري (إشارة إلى حب أزنافور للراب) في الفصل الخاص بالستينيات، التي تُظهر النجاح المادي الذي حقّقه أزنافور. إن حقيقة بث أغنيات أزنافور بكاملها تُغرق الفيلم في تأثير مقتطف، كأن المسؤولية الوحيدة للأغنيات وصوت المغني المتألم هي إضفاء حزن (ثقيل) على هذا الشريط. لا يستثمر الفيلم في فكرة أنّ هذه الأغنيات الفرنسية تتردد في سياق اجتماعي معين، فأزنافور عاش في باريس الحرب العالمية الثانية، وكان موجوداً عند كل المنعطفات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها فرنسا، وأغنياته وكلماتها لها ثقل ثقافي واجتماعي، قرّر المخرجان التغاضي عنها كأنّ السياق ليس مهمّاً! الأغنية الوحيدة، التي قدمت في سياق اجتماعي وتعامل معها الفيلم بجدية وتأثر هي أغنية «كما يقولون» التي صدرت في السبعينيات، وشكّلت استفزازاً حقيقياً في تلك الحقبة التي كانت المثلية الجنسية فيها لا تزال من المحرمات، رغم أنها قانونية في فرنسا منذ عام 1791.
طاهر رحيم، ممثل موهوب بلا شك، تلقّى دروساً في الغناء والعزف على البيانو على مدى أشهر عدة استعداداً لأداء دور أزنافور. درس بعناية الإيماءات وتعبيرات الوجه. لكنّ هناك نقصاً واضحاً في العاطفة والأصالة في أدائه. اللافت في فيلم «السيد أزنافور»، هو أولاً وقبل أيّ شيء التركيز على الأداء وأهمية التشابه بين الأشخاص الحقيقيين والممثلين. وهذا واضح في أداء طاهر رحيم الذي وجب عليه ــــ على مدار الفيلم ــــــ وضع ماكياج وأطراف صناعية، كانت للأسف واضحة تماماً على الشاشة من أجل التشبّه بأزنافور. إن هذا التحنيط، يجعل الممثل المسكين يبدو كأنّه مسجون إلى حد ما في نطاق تعبيرات وجهه. ينطبق هذا الأمر أيضاً على الممثلين الباقين، ما يحوّل الفيلم إلى حفلة تنكرية، ويجعله غير مريح وغير مقبول ومؤلماً للمشاهدة، وخصوصاً في المشاهد التي تجمع أزنافور وبياف وشارل تروني، حيث يتملّكنا انطباع مستمرّ بأننا في متحف شمع.
ركّز «السيد أزنافور» على الأيقونة، وانحصر في استكشاف صعود أزنافور وهبوطه بطريقة كلاسيكية. جال حول الفكرة نفسها المتمثلة في أنّ رحلة المغني الكبير ما كانت لتكون أولاً، من دون العناد والمثابرة والصمود. وهذا يشير على الفور إلى صفات وحدود الفيلم، من ناحية الإخلاص التام والحب الحقيقي للموضوع، ومن ناحية أخرى، رواية الجانب المقدّس منها، الذي سيمحو كل الجوانب الإشكالية والمحرجة في مسيرة العملاق الفرنسي.
* Monsieur Aznavour في الصالات اللبنانية و«متروبوليس» (مار مخايل)