فيلم «الغرفة المجاورة» لـ المودفار … صداقة بانتظار الموت
عبدالله الحيمر
« إن توديع هذا العالم بكرامة هو حق أساسي لكل إنسان» المخرج المودفار
الموضوع الأساسي الذي اشتغل عليه المخرج الإسباني المودفار في فيلم «الغرفة المجاورة». قضية الموت الرحيم والصداقة كقضية أنطولوجية، حيث المجتمعات المعاصرة تعالج فكرة إشكالية الموت بكرامة، كفعل اختياري لمواجهة صمت الفناء الذي يحتله الموت خارج الإرادة البشرية. فلا أحد يجادل في أن الموت انفصال طبيعي عن عالم حاضر ومعيش إلى عالم مخيف وغامض، وأن الحياة حبل من حبال الانفصال المؤلم الذي يعيشه أي فرد في محيطه الاجتماعي، بين الولادة والموت. هنا افتكرت قولة محمود درويش: «الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء»، بمعنى آخر أن روح الصداقة في الفيلم أقوى من روح الفقد الجسدي بفعل جرثومة السرطان، تمدنا بلحظات الزمن التي تُذكِّرنا أننا لا نملك سوى لحظات الزمن العابر من شريط الذاكرة الخصبة من حياتنا، لنكف عن التفكير المؤجل أمام جبروت الموت في استلاب حاضرنا المؤقت في ملاقاته الضبابية. لقد وضعنا المودفار أمام فكرة واضحة مواجهة الاقتراب من الموت. بمعنى الغياب والتواري عن صداقة من نحب في لحظة انتشاء الوداع.
حينما اكتشفت بطلة الفيلم أنها على وشك الموت، وأنها من مسافة صفر معه. وترى بعدسة الغياب الاستلاب اليقيني لهشاشة الغد، وتضعنا أمام زمنية اللحظة الحالية في خضم انشغالنا باليومي. أمام عبور الموت بدراما مؤثرة حملتها ممثلتان رئيسيتان هما جوليان مور وتيلدا سوينتون، عن طريق استكشاف الروابط المعقدة بين امرأتين، صديقتين منذ فترة طويلة، تجتمعان بعد سنوات من الانفصال. مع طاقم عمل مثير للإعجاب يضم أيضا جون تورتورو وأليساندرو نيفولا، يعد فيلم «الغرفة المجاورة» بتقديم انعكاس مكثف على العلاقات الإنسانية، مع الحفاظ على اللمسة المرئية الفريدة للمخرج المودفار.
تناول الفيلم فكرة الموت الرحيم، الذي قد يلجأ إليه البعض عندما تصبح الحياة مستحيلة. قصة كيف تعيد امرأتان من الطبقة الوسطى الثقافية، لم تلتقيا منذ فترة طويلة، الاتصال في اللحظة الأكثر أهمية عندما تكون إحداهما، مارثا (تيلدا سوينتون) وهي مراسلة حربية لصحيفة «نيويورك تايمز»، تعاني من سرطان عنق الرحم المتقدم، زارتها إنغريد (جوليان مور) في المستشفى، وإنغريد كاتبة وصديقة قديمة علمت بمرضها بالصدفة.. تقرر مارثا إنهاء حياتها بطريقة هادئة تكشف تصالحاً مع الذات، وتخطط لذلك برفقة صديقتها التي تريدها إلى جانبها في لحظاتها الأخيرة، قبل الانتقال إلى العالم الآخر. مارثا فقدت الرغبة في الحياة بعدما أدركت أن لا أمل من شفائها وهي لا تريد أن تعاني أوجاع الجسد. وبعدما عانت من البرودة العاطفية التي بينها وبين ابنتها الوحيدة، تصبح الصداقة علاجا للشفقة على الذات. ينتهي الأمر بالمرأتين إلى عقد اتفاق عن طريق جلسات نسوية تستكشف مدى تعقيد الصداقات الأنثوية وأسرارها.
المودوفار المعروف بتعامله الحساس مع الممثلات يبرز هذه العلاقة على نحو يعكس عمق تفكيره تجاه النساء ودورهن في تولي السرد وفك شيفرة الأنوثة للموت. وهذا الاهتمام الواضح تجلى في أعماله السابقة، لكنه يحمله هنا إلى مرتبة أخرى من خلال تعامله مع موضوع الموت والغياب، بأقل مقدار من الميلودراما والعواطف، تلك العواطف التي يبدو أنها أصبحت من ماضيه.
والجدير بالذكر، إن الأفلام التي ينجزها المخرجون في شبابهم تختلف حتماً عن أفلامهم وهم في منتصف الـسبعينات من العمر. يقول عن ذلك المودفار: «لقد ولدت في منطقة لا مانشا، حيث توجد ثقافة عميقة حول الموت، أشعر بأنني قريب جدًا من شخصية أنغريد، لا يمكنني الاعتراف بأن شيئا ما على قيد الحياة يجب أن يموت. الموت في كل مكان لكنه شيء لم أفهمه أبدا. أنا الآن في عمر 74 سنة. كل يوم أقضيه هو يوم أقل مما تبقى لي». وتابع المخرج: «هذا الفيلم لصالح القتل الرحيم، هذا شيء نعجب به في شخصية مارثا، لأنها قررت أن التخلص من السرطان لا يمكن أن يتم إلا من خلال القرار الذي ستتخذه. تجد طريقة لتحقيق هدفها بمساعدة صديقتها، لكن عليهما أن تتصرفا مثل المجرمين».
تتبع حبكة الفيلم شخصيتين رئيسيتين تختبر صداقتهما من خلال المواجهة الوشيكة مع الموت الرحيم، في عالم يحتضر أيضا على الأرجح، يشبه نهاية الحياة وكارثة المناخ، تقول الممثلة تيلدا سوينتون، عندما قبلت مشروع «الغرفة المجاورة»: «يحتوي هذا الفيلم على العناصر الثلاثة التي تعتبر بالنسبة لي أساسية للوجود: الصداقة والفن والطبيعة. هذه هي الأشياء الثلاثة التي يمكننا الاعتماد عليها في الحياة، والتي تسمح لنا بإجراء اتصالات، وبالتالي فهي الأشياء التي يجب أن نحافظ عليها. هذا الفيلم ليس عن الموت، ولكن عن الموت، ويحدث الموت بينما نعيش: أن نعيش هو أيضا أن نموت. لذا فهو في الحقيقة فيلم عن الحياة». بينما تقول الممثلة مور إن «المشاركة في هذا الفيلم كانت تجربة مثيرة للغاية». وأفلام المودفار مليئة بالحياة والإنسانية، والمشاركة في هذا الفيلم كانت تجربة مثيرة للغاية». تقول تيلدا سوينتون، إنها شعرت بأن شخصية مارثا أقرب إلى شخصيتها: «أنا شخصياً لست خائفة من الموت. قد يكون الطريق إلى القبول طويلاً بالنسبة لبعض الناس، لكن لسبب أو لآخر أدركت ذلك مبكرا جدا. أعلم أنه مقبل.. أرى أنه مقبل. أشعر بأنه مقبل، لكن في هذا الفيلم، نحن لا نتحدث حقا عن الموت. يتعلق الأمر أكثر بالحياة، صورة لتقرير المصير، شخص يقرر الانتحار وحياته وموته بيديه».
يشكل القلب العاطفي للفيلم، مسارات الصداقة بينهما. متتبعا شريط الذكريات امرأتان في مواجهة الفقد والوداع الأخير، عن طريق ذاكرة الذكرى والتأملات في الحياة، والموت والندم والتضحية. فأصبحت أنغريد مستشارة ما بقي من الحياة لمارثا، سائقة رحلتها الأخيرة: من المدينة إلى الريف، من الضوضاء إلى الهدوء، من الشتاء إلى الربيع، من الحياة إلى الموت، وتقضيان وقتهما من الزمن المتبقي على عتبات الموت، في التحدث عن الكتب والعلاقات، أو مشاهدة الأفلام، أو الاسترخاء تحت أشعة الشمس. بالضبط، تستكشف أنغريد ومارثا موضوعات عميقة وعالمية معا. تتأرجح محادثاتهما بين الرقة والفكاهة والحزن، ما يسمح للمشاهد بالتفكير في أهمية الروابط الإنسانية وقبول الوفيات بحياتنا. تكشف هذه المحاورات التبادلية الحميمة عن ضعفهما وقوتهما. يستخدم ألمودفار هذه اللحظات لرسم صورة متحركة ودقيقة لهشاشة إنسانيتنا، معززة بالعروض المؤثرة لجوليان مور وتيلدا سوينتون. يدعونا الفيلم إلى تقدير كل لحظة في الحياة وإيجاد الراحة في العلاقات التي نحافظ عليها. غالبا ما تتحدث أنغريد عن قيمة الصداقة والدعم المتبادل، حتى في أحلك اللحظات. إنها تعبر عن مدى ما قصدته مارثا لها طوال حياتها وكيف ساعدتها روابطهما في التغلب على العديد من التجارب، ومنها تجربة أن لا تموت وحيدة. تناقش المرأتان أيضا كيف يمكن أن تكون الذكريات مصدرا للراحة والألم، وكيف تشكل فهمنا لأنفسنا ومكاننا في العالم.. صورة «الغرفة المجاورة»، التي تخيلتها مارثا قبل رحيلها هي رمز لها. لذا قررت أنغريد أخيرا شغل الغرفة أدناه – ما أعطى صديقتها بالفعل فرصة النهوض – فإنها لا تفشل أبدا في وعدها بالدعم، وهو ما يقترحه «الوجود في الجوار». هذه اللحظات من الاستبطان والاتصال بين الصديقتين هي في قلب الفيلم وتوضح عمق العلاقات الإنسانية في اعترافاتها الأخيرة، حينما تعلمها مارثا برغبتها في أن تكون صديقتها الأخيرة في «الغرفة المجاورة» عند تناولها حبة الخلاص، قائلة لها: «بمجرد إغلاق الباب، سينتهي الأمر».
الفيلم لا يروج لوجهة نظر رواقية للموت. يدعو ألمودفار المشاهد ليس فقط لمشاهدة الجدل الفلسفي حول الانتحار المساعد، ولكن ليشعر بالطيف الكامل من المشاعر الحميمة والمربكة الناشئة عن مواجهة نهاية الحياة: الخوف والقلق والندم والحزن. موضحا «ليس فيلما عن الموت – إنه عن الحياة، وعن حرية تحديد نوع الحياة التي نريدها، حتى النهاية». توافق تيلدا سوينتون وجهة نظر الفيلم بأنه «احتفال بالسيطرة والاستقلالية». وأضافت جوليان مور: «الأمر يتعلق بدعم شخص ما في أضعف حالاته».
على المستوى البصري، يقدم المودفار عملا فنيا غنيا للغاية. تم تزيين شقة مارثا، المغمورة بالضوء، بلوحات ملونة، تتناقض هذه اللمسات النابضة بالحياة مع شقة أنغريد، المزينة بأثاث عتيق موجود في متاجر السلع المستعملة، ما يشهد على ذوقها للأشياء التي تحمل رائحة القصص والحكايات الإنسانية. أخيرا، تدور ذروة الفيلم في منزل منعزل رائع محاط بالطبيعة، حيث تختار مارثا إنهاء حياتها. هذا المنزل، المجهز بأرضية واسعة وكراسٍ للاستلقاء توفر إطلالة خالية من العوائق على غابة مهدئة للأعصاب والعواطف، تصبح مكانا للهدوء والاستبطان للموضوعات الوجودية والتفكير الحميم في الصداقة والموت، حيث تولد العاطفة من الصمت والنظرات. أما اللون المرتبط بالموت، فهو بامتياز الأبيض (استعارة للبياض الرمزي اللامتناهي) بشكل أساسي. على عكس الصور التقليدية التي غالبا ما تستخدم الألوان الداكنة لترمز إلى الموت، يستخدم المودفار اللون الأبيض لتمثيل النقاء والسلام والقبول. غالبا ما تسبح المشاهد التي تواجه فيها مارثا مرضها وموتها في ضوء أبيض ناعم ومريح، ما يخلق جوا من الصفاء والمصالحة. إنه نهج بصري مثير للاهتمام يؤكد موضوع القبول والسلام الداخلي في مواجهة نهاية الحياة. وحتى رمزية عنوان الفيلم «الغرفة المجاورة « إلى القرب الجسدي والعاطفي بين الشخصيات، وفكرة الموت كحضور وثيق، ولكن مفصولة بحاجز رفيع. في الفيلم، غرفة مارثا في المستشفى قريبة جسديا من الغرفة التي تقضي فيها أنغريد الوقت، ما يعكس علاقتهما الوثيقة ومرافقة أنغريد مارثا في أيامها الأخيرة، بالإضافة إلى ذلك، يستحضر العنوان فكرة أن الموت موجود دائما، فقط على الجانب الآخر، ينتظر بصبر. تساعد هذه الاستعارة في التعامل مع موضوع الموت بحساسية خاصة، ما يجعل الموضوع أقل رعبا ويشبه جزءا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية. هذه هي طريقة المودفار لإظهار أن الحياة والموت مرتبطان ارتباطا وثيقا، وأن قبول الموت يمكن أن يجلب شكلا من أشكال السلام والطمأنينة والتفاهم في حياتنا.
كما قال المودفار في العرض الأول لفيلمه في البندقية، «لدينا جميعا غرفة مجاورة، مكان سننتهي فيه بمواجهة أنفسنا وحياتنا»، مضيفا: «آمل أن يمنح هذا الفيلم الناس الإذن بالتحدث عن تلك الغرفة، حتى لو كانت غير مريحة بعض الشيء». إنه في النهاية يطارد الموت، سواء كتهديد، أو تأمل غريزي في نهاية الحياة، أو كحتمية وجودية للحياة، أو كتفكير في كرم الصداقة والحق في تقرير حياة المرء. ليعبر عن قدرته على استكشاف أعماق المشاعر الإنسانية، عبر ثيمة صداقة اختبرها الموت، فالصداقة في هذا الفيلم ليست مثالية؛ إنها واقعية، مع تقلباتها. ومع ذلك، فإن هذه الأصالة بالتحديد هي التي تجعل علاقتهما مؤثرة وذات مصداقية. تجد الشخصيات الراحة والدعم في بعضها بعضا، ما يحول الخوف من الموت إلى فرصة للتواصل على مستوى أعمق.. فالموت في الفيلم ليس مجرد نهاية مأساوية، ولكنه محفز يدفع الشخصيات للتعبير عن المشاعر التي ربما قمعها. إن وجود الموت يجعل كل تفاعل، كل لحظة صداقة، أكثر قيمة. يستخدم هذا الجانب للتأكيد على هشاشة وجمال الحياة البشرية.
يقدم المودفار الصداقة كقوة جبارة، قادرة على تحويل لحظات اليأس إلى أعمال شجاعة ورحمة. هذا النهج يجعل الفيلم ليس مؤثرا فحسب، بل ملهما أيضا. فيلم «الغرفة المجاورة» يقدم معنى عميقا وقوة عاطفية وشهادة على مرونة الإنسان وقدرة العلاقات على تقديم الضوء حتى في أحلك اللحظات في حياتنا. لقد تمكن من التقاط تعقيد هذه الموضوعات بحساسية وأصالة تترك انطباعا دائما على المشاهد أن الموت جارنا الغريب دائما.
كاتب ومترجم مغربي