
علاقة الفلسطيني بالمكان

سهيل كيوان
علاقة الإنسان بالمكان مُركّبة من عوامل كثيرة، الطفولة والأتراب والجيران، أحياء ونباتات وينابيع وأمكنة.
عندما ترى ردّة فعل شابٍ وصل بيته في رفح بعد وقف إطلاق النار، ورآه كومة من الباطون والحديد، سجد وقبّل الأرض، ثم حمل حفنة تراب وضعها على فمه كأنّه يسفّها، فيعلق منها على شفتيه وأنفه وذقنه، ثم يردّد «الحمد لله، هذا التُّراب يكفيني، الحمد لله على كل شيء»، فأنت أمام علاقة تصل إلى درجة القداسة بين الإنسان والمكان.
آخر يعرب عن دهشته من الدّمار الهائل، ويأخذ شهيقًا عميقًا ويقول مبتسمًا: يكفي هواء رفح، هواؤها هو الحياة، ولا يوجد في الدنيا كلِّها هواءٌ مثل هواء رفح.
هذه العلاقة الحميمة مع الأمكنة تتكرّر، وتنطبق على سكان المخيّمات والمدن والقرى.
-هل عدت إلى رفح؟ سألتُ صديقًا قديمًا مقيمًا كنازحٍ في مواصي خان يونس. فقال: لم أنم ليلة الأحد، انتظرتُ الصّباح لبدء تطبيق وقف إطلاق النار، ولكنّني لم أنتظر الإعلان الرسمي، استعجلتُ العودة إلى بيتي، خرجت من الخيمة باكراً أنا واثنان من أخوتي، وجهتنا حيّ الجنينة في رفح التي غادرناها قبل ثمانية أشهر، مررنا بخمس محطّات إقامة مؤقّتة، عدتُ وأنا شديد الشّوق لمدينتي الحبيبة.
لم أتخيّل حجم الدّمار الذي حلّ بها، كأنّ بركانًا ثار فيها ودمّرها، تُدهشني كميّة الحقد التي أنتجت كلّ هذا الدّمار، ناهيك عن القتل من غير تمييز. دخلتُ حيَّ الجنينة باحثاً عن بيتي، لا طُرقات ولا مدارس ولا مساجد، حتى المستشفى لم ينجُ، لم يبق شيء، إلا الحطام.
ظننت أن أجد جداراً لغرفة واحدة على الأقل، كيفما كان، فكّرت أن أسكن فيها، فهي أفضل من الخيمة، ولكن لم أجد بيتي، وجدتُ حفرةً كبيرةً وشظايا بيوت فيها وحولها، لم أعثر على شيء من البيت، ولا حتى للذكرى. ثم أضاف «طبعاً الله معنا، ويصبّرنا، إنّ الله يضع في قلوبنا الصبر والسّكينة». ويضيف هذا الصديق: كنت عصبياً شديد الغضب قبل الحرب، هذه الحرب علّمتني الهدوء ومواجهة كل مشكلة ببرود وعدم البكاء أو التباكي. الإسرائيلي لا يستطيع أن يدرك سرّ هذا التمسّك الفلسطيني الذي يبلغ الهوس في المكان، رغم كلِّ ما يتعرّض له من قمع وتخريب وتقتيل وتنكيل.
منطق علاقة الإنسان بالأرض بين الطّرفين مختلف من جذوره.
في بحث قيّم، صدر مؤخّراً الجزء الثاني منه بعنوان «لكلّ عين مشهد» للبروفيسور مصطفى كبها رئيس مجمع اللغة العربية في حيفا، يجمع فيه أسماء الأماكن وكل قطعة من الأرض في قضاء حيفا الانتدابي الذي بلغت مساحته 348 كيلومتراً.
ليس أسماء القرى والبلدات فقط، بل كلُّ قطعة أرض في هذا القضاء. سعت الحركة الصهيونية منذ الانتداب البريطاني حتى يومنا مروراً بالنّكبة إلى تغيير أسماء الأماكن، وقد غيّرت أسماء أكثر من خمسين ألف موقع، منحتها أسماءً عبرية جديدة، ولم تتوقف عن هذا. تأتي التسميات العبرية من خلال لجنة تسميات رسمية، تُسقط الاسم على المكان بهدف خدمة الأيديولوجيا الصهيونية، وهي تسميات موجّهة لتأكيد علاقة الشّعب اليهودي في هذه الأرض، إلى اليهود أنفسهم وإلى الخارج وإلى العرب، كي يقرّوا بحقّ الشّعب اليهودي في فلسطين.
بينما جاءت الأسماء العربيّة من خلال العلاقة اليومية مع الأرض، ومصدر التّسميات هم سكّان المكان والفلاحون والصّيادون والرّعاة ومحبّو التّجوال.
اعتمد الباحث على الرّواية الشّفوية التي جمعها من كلّ بلدة، بما في ذلك أهالي القرى التي هُجّرت منذ عام النكبة، أو تلك الأراضي التي باعها إقطاعيون للحركة الصهيونية، نقلها بتسميتها الشّعبية وطريقة لفظها من غير تعديل فيها.
للتّسميات العربية مصادرُ عدّة، موقعها وشكلها، ونوع التُّربة، ومصادر المياه فيها، ونباتاتها، كذلك من أسماء الناس الذين عاشوا فيها، أو أحداث وقعت عليها، فالأراضي التي تستصلح تُسمى عَمارة أو تَجديدِة، أو المنشيّة، التي تعني المُنشَأة، ونجد منشيات في معظم الأقطار العربية.
كذلك تسمى عيون ومجاري الماء باسم موقعها، مثل عين الطّيرة، أو بحسب لون تربتها وصخورها، العين السّودا، العين البيضا، أو اسم صاحب الأرض مثل عين إبراهيم، وطبيعة الأرض مثل عين السّهلة. وممكن أن تكون التّسمية نسبة إلى حادث وقع في المكان مثل «مقتل ابن حمدان» في وادي عارة.
وتسميات تجسّد المُلك العام، مثل عين البلد، بيادر البلد، بستان البلد. تسميات مستقة من شكل قطعة الأرض، القاعد أو المقعدة وهي قمة التل المستوية. والمنطقة البارزة منها سمّيت رأس. الرّوس، والرّويس، والرّويسات. والمستوية منها سُمّيت فَرش، وجمعها فروش، مثل فروش رمّانة، والمِحْدَر للأرض المنحدرة.
الأرض التي لا تنفد المياه فيها فتبقى على سطحها اسمها البصّ، نجد في قضاء حيفا وحده خمسة عشر موقعاً يحمل اسم البصّ أو البصّة والبصّات.
أما الخلّة، فهي من الفعل تخلّل الشيْء، لأنها بين مرتفعين، فنجد عشرات أسماء تبدأ باسم خلّة كذا، وتنسب عادة لصاحبها، مثل خلة عبد الله وخلة عبد الخالق وخلة عبيد. أو لنبتة فيها مثل خلّة العبهر وخلّة أبو رمّان. خلّة العظام مثلاً، لوجود كهفٍ فيه قبور قديمة.
أما الأرض التي تنضح منها المياه بتؤدة فهي نزّازة. والتي تبتلع المياه فهي شلاّفة.
هنالك تسميات مصدرها نبتة، مثل قرية خبيزة وكفر قرع والزّعفرانة ورمّانة وأرض الطّيون والزّعتر الشّهير.
تسميات مصدرها شخصيات لها هالة وقداسة عاشت في تلك الأرض، مثل أرض الصّندحاوي، وبلد الشيخ وغيرها. وإذا كانت العين في كنف شجرة سُميت باسمها مثل، عين التينة وعين الخروبة وعين الزيتونة.
إذا خرجت من صخرة، عين الشّقيف وعين العراق، وعين البلاطة. وقد تُعرف باسم صاحب الأرض، عين حمد، عين بهاء الدين، عين حمدان. هنالك تسميات إضافة إلى العربية أطلقتها شعوب وحضارات مرّت في المنطقة عبر آلاف السنين، منها تسميات فرعونية وآشورية ورومانية ويونانية.
نجد تسمية القسطل (كاستل) للقلاع، ونجد من اللغات السامية القديمة مِجْدل شمس، ومِجدل عسقلان، ومِجدل طبرية، ومجيدل النّاصرة. والمِجدل تعني البُرج في اللغات السامية، وفي معجم المعاني العربي نجد أن المِجْدل هو القَصر العالي.
تطوّرت هذه التسميات على الفترات التاريخية والحقب المختلفة، فجاءت التّسميات متشابكة، تجمع بين اللغة والتاريخ والثقافة البيئية والجغرافيا.
في الواقع أنّ من يملك القوّة والسّيطرة يقرّر الأسماء ويثبتها في الخرائط واللافتات وكُتب الجغرافيا والتاريخ، ويستعملها إعلامياً، ومع مرور الزمن تصبح سائدة.
لهذا تأتي أهمية هذه السّلسلة من التّسميات في ظلِّ محاولات المحو وعَبْرنة أسماء الأماكن، فهي توثيقية تاريخية، وهي دعوة للأجيال المعاصرة والقادمة للتمسّك بالتّسميات الأصلية، وتناقلها.
صدر الكتاب الأول من هذه السِّلسلة المهمة عام 2017 «تسميات الأماكن في القطاع الغربي لقضاء طولكرم الانتدابي»، ثم «تسميات الأماكن في قضاء حيفا الانتدابي» 2024، ونحو آلاف التّسميات في كلّ بلدة وبلدة، ويعمل الباحث في جمع تسميات الأقضية الأخرى من فلسطين. النّاشر: مجمع اللغة العربية في حيفا.