الاقتباس في السينما المصرية: مثاقفة أم تدمير للهوية المحلية؟
الاقتباس في السينما المصرية: مثاقفة أم تدمير للهوية المحلية؟
مروان ياسين الدليمي
السينما في مقدمة الميادين الإبداعية التي يمكنها أن تعبر عن ثقافة الشعوب وشخصيتها وهويتها الإنسانية وما تشهده من تحولات في وعيها وواقعها الاجتماعي، إلى جانب كونها وسيلة للترفيه بما توفره من متعة آنية في جانب معين من خطابها. والفيلم بطبيعته مثل أي حقل إبداعي قد يحمل في صياغته مستويات من الرسائل، كل واحدة منها قد تتوجه إلى مستوى معين من الجمهور، ومنها ما قد تحمل بعدا معرفيا ومنها ماهو ترفيهي ومنها ما يدفع المتلقي إلى التفكير والتساؤل.
والإنتاج السينمائي المصري الذي كان سباقا في حضوره واستمراره مقارنة ببقية الدول العربية، يلاحظ عليه أن أغلبية العاملين فيه وفي مقدمتهم المخرجين لم ينشغلوا في البحث عن هويتهم الفنية التي تميزهم عن غيرهم، كما هو الحال على سبيل المثال في الإنتاج الأمريكي أو الفرنسي أو الألماني أو الهندي أو المكسيكي أو البرازيلي، بل على العكس نجد الإنتاج المصري منذ بداياته وحتى الآن كان متأثرا بموجات السينما العالمية وخاصة الأمريكية، مع قناعتنا أن التأثر لا يعدُّ أمرًا سلبيًا دائمًا، بل يمثل في كثير من الأحيان فرصة لتبادل الأساليب وإعادة إنتاجها بما يتوافق وينسجم مع طبيعة الموضوعات التي يتم تناولها، وهذا أمر طبيعي وشائع بين الشعوب في مجمل حقول الثقافة والفنون بشرط أن لا تتحول عملية الاقتباس إلى نمط سائد ومهيمن في التفكير الإنتاجي إلى الحد الذي تنعدم فيه أية محاولات لتقديم نتاج سينمائي خالص لا صلة له بأية مرجعية أجنبية.
وظاهرة الاقتباس في السينما المصرية كانت تعتمد في بدايتها على النصوص المسرحية الأجنبية بالدرجة الأولى وعلى الروايات بالدرجة الثانية، وفيلم «أولاد الذوات» عام 1932 اخراج محمد كريم يعد أول نموذج للاقتباس، واستمر الاعتماد على النصوص المسرحية والروايات حتى العام 1939 عندما تم تقديم فيلم «العودة إلى الريف» إخراج أحمد كامل مرسي، والمقتبس عن الفيلم النمساوي «مصدر للإلهام». لتتوالى بعدئذ عملية الاقتباس من الأفلام الأمريكية منذ منتصف القرن العشرين، عندما كانت هوليوود في أوج ازدهارها ونموذجا مثاليا لصناعة الأفلام. وفي هذا السياق لجأ بعض صُنّاع الأفلام المصريين إلى إعادة تقديم قصص أفلام أمريكية شهيرة بأسلوب يتماشى مع ذوق الجمهور المصري. مثال على ذلك فيلم «الورشة» إنتاج عام 1940 إخراج ستيفان روستي وهو مقتبس عن فيلم «Female» إخراج مايكل كيرتز 1933. فيلم «فتاة متمردة» إنتاج 1940 إخراج أحمد جلال عن فيلم «جنون الموسيقى» إنتاج 1938. فيلم «سي عمر» إنتاج 1941 إخراج نيازي مصطفى عن الفيلم الأمريكي «رغبة – Desire «إخراج Frank borzage إنتاج 1936. ولم يكن الأمر مقتصرا على الأفلام الأمريكية بل هناك قائمة للأفلام الفرنسية أيضا، وقد تصاعدت عملية الاقتباس مع استمرار عجلة الإنتاج إلى اليوم، ولمزيد من المعلومات الدقيقة يمكن العودة إلى كتاب صدر عام 2017 عن مؤسسة هنداوي للمؤلف محمود قاسم بعنوان «السرقات والاقتباس في السينما» أورد فيه قاسم معلومات وافية حول هذا الموضوع، وفي آخر الكتاب أدرج قائمة طويلة بالافلام المقتبسة في السينما المصرية منذ العام 1933 وحتى العام 2020.
صراحة حسين فهمي
لابد من الإشارة هنا إلى حديث جرى على لسان الممثل المصري حسين فهمي مدير مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الأخيرة التي عقدت في منتصف شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، ففي سياق أجابته على سؤال من قبل أحد الصحافيين حول أسباب غياب أفلام مصرية عن قائمة الأفلام المتنافسة على جوائز المهرجان، فكانت إجابته بغاية الصراحة عندما قال إن معظم ما يتم إنتاجه مقتبس من أفلام أجنبية، ولتأكيد ما قاله استذكر حادثة كان شاهدا عليها في دورة سابقة لمهرجان القاهرة، عندما استدعاه مخرج أجنبي كان يرأس لجنة التحكيم وأخبره بأن الفيلم المصري المشارك في المسابقة مسروق ومنسوخ من أحد أفلامه، فما كان من فهمي إلاّ أن يهمس بإذن المخرج راجيا منه أن يتغاضى عن الأمر ويتجاوزه، وتلافيا للفضحية تم سحب الفيلم من المسابقة وكأنَّ شيئا لم يكن.
والأفلام الأمريكية كانت وما زالت تتمتع بشعبية عالمية ما يجعل أفكارها وقصصها مصدر إلهام لصنّاع الأفلام حول العالم، من هنا تأتي الرغبة لدى مخرجين في أماكن مختلفة من العالم ومنها مصر، في استثمار قصص تعود لأفلام أمريكية ناجحة، وذلك بإعادة تقديمها ضمن سياق محلي يضمن فرصة أكبر لجذب الجمهور وتحقيق أرباح، إلى جانب سعي العاملين في الإنتاج المصري إلى تقليد أساليب وتقنيات متطورة، فمما لا يمكن تجاهله أن هوليوود ساهمت بشكل كبير في تقديم معايير جديدة للإنتاج السينمائي، وهذا ما يدفع المصريين وغيرهم للاستفادة منها سواء في طريقة السرد أو الإخراج.
أشكال الاقتباس
هناك أشكال من الاقتباس منها ما يتم فيه إعادة تقديم القصة بشكل مشابه تمامًا للأصل، مع تغييرات طفيفة تتعلق بالبيئة أو الشخصيات لتتناسب مع البيئة المحلية، والأمثلة على ذلك في الإنتاج المصري كثيرة، على سبيل المثال فيلم «ليل ورغبة» إنتاج 1977 إخراج يحيى العلمي عن الفيلم الأمريكي «شرق عدن «للمخرج إيليا كازان إنتاج 1954 وفيلم «غريب في بيتي» إنتاج 1982 إخراج سمير سيف عن الفيلم الأمريكي «فتاة الوداع» للمخرج هربرت روس إنتاج 1977. فيلم «سبوبة» إنتاج 2012 إخراج بيتر ميمي عن الفيلم الأمريكي «كلاب المستودع «إخراج كوينتن تارانتينو. فيلم «الثأر» إنتاج 1982 إخراج محمد خان عن الفيلم الأمريكي «برافادوس» للمخرج هنري كينغ إنتاج 1958 والقائمة تطول بهذا السياق. وهناك شكل آخر من الاقتباس غير المباشر، حيث يتم اقتباس الفكرة الأساسية أو الحبكة وتطويرها لتتناسب مع الثقافة المحلية، ولعل أبرز مثال على ذلك عدد من أفلام يوسف شاهين (1926 ـ 2008) التي تناول فيها سيرته الذاتية والتي يمكن لأي ناقد محترف أن يلتقط بكل سهولة إلى أي مدى استلهم واستنسخ شاهين أفكارا ومشاهد من أفلام المخرج الإيطالي فيدريكو فيللني (1920 ـ 1993) بدءا بفيلمه «اسكندريه ليه» عام 1979 و«حدوته مصرية» عام 1982 و«اسكندريه كمان وكمان»1989 و«القاهرة منورة بأهلها»1991. لكن شاهين كان ذكيا في عملية تمويه ما أقدم عليه من اقتباس، وهذا يعود إلى أنه كان مخرجا، فقد تمتع بموهبة وخيال وثقافة واسعة، وهذا ما تؤكده معظم أفلامه التي قدمها خلال مسيرته الطويلة منذ مطلع خمسينات القرن الماضي,
عملية الاقتباس تسجل عليها ملاحظات ليس في صالحها، وتعد من المآخذ التي يؤدي تكرارها المفرط إلى طمس الهوية السينمائية والانزلاق في مسار التقليد غير المبرر لتجارب الآخرين، كما أن من مساوئها أنها تؤدي في محصلتها النهائية إلى إحداث ضررفي مسار التفكير الإبداعي الذي ينبغي إشاعته في الوسط الفني بين الكتاب والمخرجين المشتغلين في السينما، فالاعتماد على الأفكار المستوردة يقلل من فرص الابتكار في الصناعة المحلية، هذا إلى جانب ما تتعرض له الأفلام المقتبسة من نقد جماهيري ليس في صالحها إذا ما شعر الجمهور بأنها نسخة ضعيفة ومشوهة مقارنة بالأصلية، بالتالي ستنعدم الثقة بالإنتاج المحلي ولا يلقى التشجيع والدعم من قبل النقاد والجمهور على حد سواء.
ويُمكن أن يُمثل الاقتباس أحيانا فرصة لإعادة تقديم بعض الأعمال الأجنبية بأسلوب جديد، قد يحمل طابع الثقافة المحلية، إلى جانب إضفاء لمسة شخصية من قبل المخرج المحلي، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الدافع الرئيسي لاقتباس أي عمل أجنبي، وإلاّ فإن الاقتباس سيكون عملية سرقة لجهد الآخرين.
إجمالا يبقى اقتباس الأفلام الأجنبية سواء في السينما المصرية أو غيرها سلاحًا ذو حدين؛ فهو من جهة يُثري الصناعة بفكر جديد وتقنيات متطورة، عبر تحقيق توازن ما بين استلهام الأفكار من الخارج والاشتغال عليها سعيا للحفاظ على الهوية المحلية وتأكيدها، ما يُتيح لها أن تستمر كقوة ثقافية وفنية تمثل هوية المجتمع وتبرزها في السياق عالمي، ومن جهة أخرى قد يُهدد الاقتباس الهوية السينمائية إذا لم يتم توظيفه بأساليب وطرق مبتكرة.