ثقافة وفنون

«ذاكرة بيضاء» مجموعة الشاعر المصري مؤمن سمير: قصائد تسعى وراء الظلال واللامحسوس في تجرده الأبدي

«ذاكرة بيضاء» مجموعة الشاعر المصري مؤمن سمير: قصائد تسعى وراء الظلال واللامحسوس في تجرده الأبدي

صابر رشدي

في كثير من قصائد ديوان «ذاكرة بيضاء»، نلحظ اهتمام الشاعر المصري مؤمن سمير بنمط الكتلة السردية، كنموذج مفضل لقصيدته، فهو يقوم بتوظيفه لخدمة خطابه الشعري، القائم على البوح، والسعي وراء العالم الداخلي للذات الشاعرة واللامحسوس في تجرده الأبدي. إنه يحكي حكاية صغيرة، يقترب بها من شكل القصة، مستفيداً من الإمكانات اللامحدودة لقصيدة النثر، لاهثاً وراء الخفاء، يطارد غموضه. يحاول العثور على شيء ما، ربما أضاء له جوانب معتمة، ساعياً وراء رغبة جارفة لاكتشاف حقول جديدة لقصيدته، والحرث في أرض لم يطأها أحد، منتحياً عن الواقع من خلال هذه الوقفات المتأملة، المتأنية، جمع المبعثر من عالم الظلال. فهناك وميض ضوء باهت كما يقول القديس أوغسطين في اعترافاته، وميض لم ينطفئ بعد من الناس، فدعهم يمشون، ويهتدون به كي لا يدركهم الظلام.
في هذا الديوان لا نطالع عملاً متكرراً، قوامه التفاصيل العادية والحياة اليومية والمشهدية، عناصر قصيدة النثر المفضلة، والأكثر استخداماً، وسر استمراريتها، التي جذبت كثيرين إلى كتابتها، كل حسب موهبته، وجموحه الإبداعي. بل نجد هنا، تجربة مختلفة، محاورات ذات شق فلسفي، ميتافيزيقي، سعياً وراء المجهول، تشكيل كائنات بصرية متخيلة، ومحاولة جعلها صالحة للدمج في نص شعري، كي نحظى بالاقتراب منها، عبر تساؤلات تسعى إلى التحرر من الأوهام، ومن غموض العالم حولنا، وربما للتغلب على مخاوف كامنة في اللاوعي، وعلاقة باطنة بعوالم أخرى، تكشف عنها هذه التجربة، شديدة الخصوصية. تزداد هذه المشاعر، وتغدو أكثر حضوراً، كلما اقتربنا من رحاب الغرائبي، الذي يقتحمه الشاعر بحذر، محتفظاً للقصيدة بطاقتها الشعرية، دون لجوء استعراضي إلى ألعاب اللغة، التي تضيع معها دلالة بعض نصوص الحداثة، وتجعل السعي وراء المعنى ضرباً من العبث.
يقتحم مؤمن سمير العالم، باللغة الفاعلة، المتوترة، المعبرة عن التمزق الروحي، والتيه الإنساني، يقول في قصيدة «أزمة منتصف العمر» بنبرة قلقة:

«قصائد كثيرة بدأتُها بـ«أُحِسُّ..» و«رأيتُ..» أو «أنا الذي..». لكنني حقيقة سَئِمْتُ من مرآتي وأشباحها وبتُّ لا أتحمَّسُ كثيراً لكَفِّي وهي تكبرُ وتتشعب ثم تهوي على الزجاج المراوغ وتنثر الدم والكوابيس وتملأ بهم كيسي المهترئ..»
إنسان لم يعُد يحتمل الموتى ولا الأحياء، وكل الكائنات التي خانته وسكنت صفحاته، أو تلك التي طارت في الهواء. إنسان يتوق إلى «قصيدة تهرب من السماء والأرض التي تبتعد كلما خطونا عليها».
هذا هو الشاعر، وتلك رؤيته، واقتراحه المغاير لقصيدته، ليست أزمة منتصف العمر في رحلة الحياة إذن، قدر ما هي وقفة مع الشعر: هل ما زال يحتمل موضوعات مستهلكة؟ وهل في استطاعته احتضان رؤى إنسانية أخرى، تنضح بها نفس مؤرقة؟ لعل الإجابة تكمن في عديد من القصائد، التي تدور حول هذه التساؤلات الوجودية في معظمها، الباحثة عن مكان لها في الشعرية العربية. مكان بعيد كل البعد عن المألوف والمتوقع، الذي تُدرك مراميه منذ الجملة الأولى، التي تُنبئ عن الموضوعات المرفوضة لديه، مستعيناً بطقوس وهذيانات، ومخلوقات لا نعرفها، مقتحماً بها الغامض والمجهول. كائنات لا يراها أحد غيره، وهو يقبض على الهواجس أثناء نموها، مدركاً بحواسه متى يتم تشكيل لوحات بصرية، في لحظات معينة بواسطة الكلمات، دون الوقوع في هوة عميقة تفسد التجربة. يقول في قصيدة «قُبَيْل الفضيحة»:

«بجوار ظلالنا، كانت تتمشى شحاذةٌ عجوزْ، يسحبها عُكَّازها الذي هو في المساء حبيبها وفي الصباح عيونها المتقدة.. صحوتُ اليوم مستثاراً بعد أن حلمتُ أني أطير معها من النافذة.. انتظرتها وقلت لها إني حزين يا أمنا وخائف من أطفالي وبلاط الغرفة ونظارتي.. أخبرتها كيف سافرت فجأة ونسيتُ جسدي جوار النافذة التي في حافلةِ العودة وكيف تغيم عيوني كلما فكرت في شهقة أبي رغم أن الذي قتله ربه بينما كنا غائبين.. قلت كثيراً وحكيت وغنيت والشحاذة تسمع وتضحك وتبكي وتحلق.. قالت أنت جميل لأنك كاذب مثل هذه الدنيا.. أنت قريب أيضاً، لأنك شبحٌ ولأنك في هذه الليلة هواء دافئٌ..»
دائمًا، هناك أشباح، وأرواح، وجنيات. دائماً، يرصد المجهول، الذي يترصده، يعيش على التخوم، على الحدود الفاصلة بين النور والظلام، بين عالمين متضادين، يفصل بينهما حد رهيف لا يُرى. حيث يجد المرء نفسه، حائراً، معرضاً لتجارب عجيبة، أبطالها من الملائكة الطيبين، والشياطين البائسة. يموت العالم الحقيقي، شديد القُرب، منسحباً، ومتلاشياً للحظات، لترك مسافة للشاعر، كي يعاين هذه التحولات الهذيانية، المشوبة بالخطر. فهي عوالم تدرك بالروح، في لحظات معينة، أثناء الانعزال الجسدي، والسير في دروب برزخية. تعبير عن مواقف يعجز كثير من الناس التعبير عنها، منطلقاً في رسم غوامضها، وتشكيل لوحات درامية لذات متوحدة في عزلتها، تسعى إلى الهروب من واقعها، إنها «حياة خاوية» كما أطلقها على إحدى قصائده:

«كنت ذئباً وقزماً وصورةً
كنت وردة عمرها ضيقٌ
ونهراً ونبياً وشجرةً
لكني لم أعد أذكر شيئاً
عن روحي الأصلية..
الأرباب قساة فعلاً
يأخذون أرواحنا قرب الفجر
ويحطونها في أجساد أخرى
إلى أن تصير الروح قديمة وباهتة
تنسى شبابها وطفولتها».

إنها فقرة قصيرة، تكشف لنا تحولات، لا ندري ماهيتها، ربما كانت صنيعة الأحلام، أو نتاج ذهن مرهق تراوده الأوهام، أو تلك رؤى من نسج خيال جامح، مفرط في حزنه. سنواصل معه هذه الثيمات، والموضوعات التي يزخر بها الديوان، وتتماهى معها الذات الشاعرة بصيغ متعددة، في كل مرة، جاعلة من هذا الغموض مادة ثرية، تنتج صوراً لا حصر لها، بعدد ما أوتيت من توهمات، وأحلام، وخيالات لا تبارحها.
يلجأ مؤمن سمير، في بعض القصائد، إلى معالجة المسائل التجريدية، باحثاً عن حلول وتفسيرات لما يدور في عالم الخفاء، الذي لا يطلع عليه سوى نفر قليلين، مزودين بأرواح من طراز خاص، مختلفة عن بقية البشر. لا يستعرض حيوات شخصيات أخرى، قليلاً ما يفعل، إنه شاعر يعرب عن نفسه، يعود دائماً إلى الوراء، ويكتب ما عاينه، وما يعانيه، عبر قصائد ستواجَه، غالباً، بسوء الفهم، وصعوبة الوصول إلى معنى كامل الوضوح. فكثير منها شخصي وغائم، بعيداً عن الشعرية المتعارف عليها لدى القارئ العادي، أو على أقل تقدير قارئ الشعر. ربما يستسيغ قارئ الرواية هذه العوالم، فقد طالعها من قبل بثيمات عدة، وهي تدور في فلك الآخرين: هو، هي، هم، هن، كأفضل اقتراح سردي لإسناد هذه الحالات إلى عناصر فنية صلبة، يستطيع الكاتب من خلالها الخروج من عالمه الخاص، ليصير كاتباً ينسج عملاً إبداعياً عن الآخر، أو الآخرين. حكايات لا تخصه، لا يتحدث بضمير المتكلم: فعلت هذا، ورأيت كذا، لينطلق، بلا قيود، عبر الاتساع والعمومية، يحكي حكاية الآخرين للآخرين، على نحو محايد، يفتقر إلى الآلام، والبوح الكاشف عن جزء من نفسه، سعياً إلى التخلص من هذه العوالم المرهقة، التي ينغمر فيها كلياً، مستسلماً لها. إنه يكتبها بلمسة خفيفة من التحوير، حتى يحتفظ بتأثير هذه الأشياء، أثناء فك ألغازها المستعصية على العقل الذي لا يعثر، بسهولة، على تفسيرات لها في جنباته، حتى يستطيع التعامل معها بالمنطق التقليدي، الذي يضع الأشياء في إطارها الصحيح، دون تشتيت للانتباه.
في قصيدة «أنشودةُ المَخْفِر» ثمة خوف من الواقعي يظهر للمرة الأولى، خوف من الممثل الحقيقي للسلطة في أشد صورها جلباً للرهبة في النفوس، المخفر هو قسم الشرطة، الموقع الوحيد الذي يطلق عليه المصريون صفة «الحكومة». لا مكان آخر، أو وزارة أخرى تطلق عليها هذه الصفة، أو على العاملين بها هذا المسمى الدال والموحي. إنه العقل الجمعي الذي يختصر المعنى بدقة فطرية تفوق التنظير. يقول مؤمن سمير:

«لن أجرجر قدمي إلى المَخْفِرِ..

فلتقتلني أولاً، وعَلِّق جثتي على الحائط الخلفيِّ، وادعُ البومَ والريحَ والديدانَ إلى وليمةِ تَليقُ بصَخَبِ المنزلِ المجاورِ..
لن أذهب إلى المَخْفِر..
لم تتبقَّ لي سيقانٌ كَي أطير أو أحجِلَ إليهِ.. في المرة الماضيةِ، أخذتَ العظامَ كلها.. تذكر؟ وكسوتَهَا بالصلصالِ فأينَعَت بيتاً بعيداً.. بعيداً عن الليلِ والعُواءِ ورعشتكِ الأخيرةِ..

لن أذهبَ
لن أَحْلُمَ حتى بالمَخْفِرِ..».

دمج المخاوف والرموز بعضها في بعض، إدخال المخفر وما يخلفه من انطباعات، في لوحة سوريالية، تتغذى على المجاز الماكر، تفادياً للوقوع في المباشرة، وامتثالاً لوساوس القلق الإنساني، التي تفرض ظلالها على معظم قصائد هذه المجموعة الشعرية.

كما في قصيدة «تجريفُ روحي وظِلِّي» التي يصرح فيها بصوت جريح، كاشفاً عن ألمه الداخلي:

«يا أصدقائي، أعترفُ بأنني جبانٌ..
فشلتُ في إنقاذ أي روحٍ منكم
لما سقطت من جيوبي ومن عَيْنىَّ في البحيرة..
ومن يومها وأنا عريانٌ
وقلبي زائغٌ..
لكن الطائر أسَرَّ لي مؤخراً
بأنني ريشةٌ حرة..
بلا بصمات على روحي
ولا شهقاتٍ في حنجرتي
ولا ذكرى تثقل ظِلِّي
كلما عَدَوْتُ..
أو طرتُ في الجحيم..».

لو افترضنا أن هذه الذات، تستلهم من بعيد، خطى شخصية قادمة من الأساطير الإغريقية، لكان «سيزيف» هو بطل هذا المخيال الشعري، المحكوم عليه بدحرجة صخرة عذاباته إلى الأبد، فأحياناً ما يتصالح المرء مع قدره، يبرم سلاماً منفصلاً مع هذا القدر، بالرغم من شروطه القاسية. يمضي في الحياة مقيداً إلى أفكار تجبر المرء على تفجير طاقته الإبداعية، وتشييد قصائد تحاول المزاوجة بين الجمالي، وبين رغبة الذات الشاعرة في أن تحيا في عالم أقل قسوة، عالم لا يعيش تحت وطأة الآلام وقسوتها، وينأى بالمسرات الإنسانية عن الحياة، عالم لا يخاطبه الشاعر بمرارة ينفطر لها القلب، كما في قصيدة «رسائلُ الضفةِ الأخرى»:

«بالأمس كنتُ وحدي
وكنتُ خائفاً..
بحثتُ عن صورة أمي لأصير جريئاً»

أو وهو يتوجه إلى أمه، مجدداً، في قصيدة «فخُ العائلةِ»:

«يا أمي أنا مُتعَبٌ حقاً..
شالوني كثيراً في جيوبهم
ثم أراحوني على السجادة الكبيرة
تحت أقدامهم الطيبةِ الواثقةِ
لكنني ظللت متعباً..».

مؤمن سمير: «ذاكرة بيضاء»
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2023
137 صفحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب