ثقافة وفنون

سوريا وغزة: جدل الوعي والمقاومة

سوريا وغزة: جدل الوعي والمقاومة

عبدالحفيظ بن جلولي

واجه الغرب الشعبي وحتى الرسمي منه مرغما حدثان مهمان ذكراه بما كان قد نسيه أو تناساه كحكاية قديمة تخلى عنها لتبنيه قيم الحداثة التي جعلت الإنسان مركز الكون والعقل، معيار الحكم على الأشياء في معزل عن الروح والمشاعر.
المبادرة السورية: من الكابس إلى وعي المرحلة
يتمثل الحدث الأول في تحرير سوريا من الاستبداد، قادة التحرير حاولوا منذ اللحظة الأولى الإفصاح عن نية الانخراط في المنتظم الدولي، وأن ما تكرس في وعي الغرب من أن أيديولوجية بعينها، لا يمكن أن تتجاوب مع ما يحدث في العالم كان وهما، ويبقى مع ذلك التحدي الأكبر في كيفيات حل الأزمات الداخلية التي يعاني منها المواطن السوري، الأهم في هذه الحالة تخييب أفق تلقي الوعي الغربي للتجربة الإنسانية في تحولاتها عبر الزمن.
لا يمكن أن نقول إن كل شيء على ما يرام لأن تحديات عدة تواجه سوريا والنظام الجديد، ليس أقلها موضوع الطائفية، إعادة الإعمار، طبيعة النظام السياسي، وغيرها من الموضوعات التي تنتظر الحسم. الحالة السورية جعلت النظام الدولي يقف متخوفا من نموذجها الذي ربما يكون القادة فيه يخفون غير ما يظهرون، أي يمارسون التقية السياسية بالتعبير الشيعي، وأحمد الشرع في حواره مع «بي بي سي» كان قد أشار إلى هذه الإشكالية، وكانت إجابته أننا إذا استطعنا خداع النظام الدولي إلى هذه الدرجة، فإما نحن أذكياء جدا، أو النظام الدولي على درجة من الغباء لم تمكنه من كشفنا.
الحالة السورية بعد تجاوزها مرحلة الاستبداد، وضعت نموذج الإنسان الذي يتعامل مع الواقع وفق تاريخية ذات خصوصية عميقة الجذور في الممارسة الوجودية الثقافية والفنية والسياسية والاقتصادية، وهي تعي ذلك بعد استعادتها لمبادرتها، فما كان يعيق السير نحو المهام الأساسية في اليومي هَدَمَهُ رمزيا وواقعيا ما تجلى في اليوم الأول من تحرير السجين، الذي لم يكن يعرف لماذا صودرت حريته، وأصبح أداة للتعذيب والتنكيل وإرضاء رغبات سادية، هذا النموذج للنظام المتوحش الآكل للإنسان والمعيق لمبادراته الخلاقة، جعل من «الوطن» مجموعة من المجالات الوظيفية التي لا تحقق سوى أغراضه وأهدافه، والكارثة الكبرى أن السوري أصبح أيضا وظيفة لا يمكن أن تُعَرف خارج الرعب من السلطة، وبالتالي يصبح «الكائن الخائف» وسيلة من وسائل المتحكمين في الوضع المجتمعي بشكليه السياسي والاقتصادي لرسم «وطن» خارج معايير الوطن بالمفهوم المنتج لـ»المواطن»، لأن المواطنة علاقة قائمة على الحق والواجب، أو التبادلية السياسية في إطار احترام الحق في العيش والكينونة الحرة، هذا البعد كان غائبا للأسف في هرمية النظام السوري.


تنتج الصيغة الاستبدادية فردا لا مواطنا، مكبلا بكل ما يمكن للخوف إنتاجه في عمق النفس الإنسانية، لكن السوري كان يحمل خلفه تاريخا حافلا، سندا وجوديا يدعم ضعفه ويرفد كيانه المتحرك، في بؤرة أمنية بامتياز تخضع للحكم الهمجي الذي يلغي ما هو إنساني لينتج معاييره الخاصة بإنسان مَقُود مطيع يؤدي دلالة «القطيع»، وليس «الجماعة الوطنية» بالمفهوم السياسي والاجتماعي، ولهذا كان الغرب ينتظر انغلاقا تاما للسياسي السوري، خصوصا أن المخيال الغربي كرس صورة نمطية للأيديولوجيا الدينية، خصوصا إذا تسلمت دواليب الحكم، لكن ما حدث على المستوى الرمزي هو استفاقة العمق الإنساني، النفسي والثقافي للسوري الذي أماتته رحى الاستبداد الدموي المُحْتمي بـ»الكابس» الذي يضغط على الجسم فيهشم العظم ويعصر الدم حتى لا تتبقى سوى كتلة أو «مضغة» استنفدت حيويتها. كبس الجسد تعبير ملموس عن إعدام مفهوم «المبادرة» لدى السوري بإزاحة وجوده من الحضور الموضوعي الفاعل، الذي يمثل انبثقاته «الجسد» باعتباره الجمالية المترجِمة للمبادرة الإنسانية في الكشف عن تفاعلاتها مع الواقع والعالم، فَفَرح العمق يبدو جليا على تقاسيم الوجه. هذه العودة المميزة بالرغبة في الانفتاح على العالم والآخر، مع الاعتراف بكل أعطابها ومطباتها التاريخية، تضع وعي السوري ضامنا لمواجهة أي انحراف عن مسار ما اصطلح عليه بـ»سوريا الجديدة» أو على الأقل ذلك المأمول.
المقاوم الغزاوي بين استراتيجية التسليم ومفاعيل الإرادة:
الحدث الثاني هو الانتصار التاريخي لغزة ووقف إطلاق النار، رغم أنف نتنياهو، دون تحقيق أي من أهدافه المعلنة من العدوان على غزة ومبانيها وجمالها، لكن ما تلا وقف إطلاق النار كان استراتيجية تنظيمية، حركية وأخلاقية أغاضت الغرب وجعلته يستفيق على فقدانه إنسانيته بكل بساطة. إن المشاهد الحركية والتنظيمية التي واكبت تسليم الأسرى، ربما كانت مقصودة ومخططا لها، إذ الانتصار ليس لحظة اعتراف العدو بهزيمته، بل باستعراض الخصم المقومات الأساس التي حققت النصر ومنها، استراتيجيات التنظيم والحركة والأخلاق الكاشفة لعنصر الإرادة، ولعل الأخلاق كانت أهمها في مشهدية التسليم، إذ حافظ المقاتلون والمقاومون على الأسرى، ليس لأن هؤلاء طيبين، ولكن لأن القيم الدينية تمنعهم من المساس بالمأسور. فإصرار المقاومة على تسليم الأسرى ضمن خريطة الهدم والخرائب وبتلك المشهدية الحركية، التي تنم عن تنظيم صارم، كل هذا يحيل إلى أن الغزاوي والفلسطيني على العموم يمتلك سلاح «الإرادة»، التي بها استمر في المقاومة، رغم شدائد مسار الدفاع عن النفس وعن الأرض، وأن مظاهر الهدم سوف تنتفض من بين رمادها، كما «الفينيق» لأنها بُنيت بإرادة وسيعاد بناؤها بالإرادة ذاتها، فالمقاوم بدا في مشهدية التسليم غير عابئ بالهدم، وفي كثير من تسجيلات المقاومة، كان التركيز على عناصر القسام والخلفية كانت صوتية نابعة من حناجر الغزاويين، أي الظهير المقاوم المساند للمقاتل، ومن أهم أدوات المساندة الصبر على شدائد تلك المرحلة.
تتالت لحظات تسليم الأسرى وتشابهت، وفي كل مرة كان يبدو المقاتل هو «البطل الأخلاقي» الذي يدافع عن أرضه، والذي سيحل في المخيال الغربي المدجن محل «الإرهابي»، بل الأكثر من ذلك أنه سيكون موضوع مقارنة مع نموذج الجندي الغربي، أو «البطل اللاأخلاقي»، ذلك الذي يدخل معارك لإزاحة الشرعيات الجغرافية والبشرية واللغوية والتاريخية والدينية، لصالح شرعيات بديلة وغريبة تستنزف مقدرات الشعوب وتلغي كياناتها وتصادر حاضرها ومستقبلها. صورة المقاوم الغزاوي على تلك الشاكلة هي المصداق الأقوى الذي راهن عليه كي يهزم فعلا صورة الإسرائيلي المجند، أو «البطل الوهمي» بكل ما أوتي من قوة ليقهر إرادة شعب لا يقهر، شعب أعزل كل ما لديه هو الإرادة في الحياة وإيمانه بأن «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» بتعبير درويش.
مفهوم الهدية يختلف حسب المجتمعات وقيمها، فهو في المنظور الإسلامي عربون محبة «تهادوا تحابوا»، كما ورد في حديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، والمقاتل الذي يحمل المحبة، ليس كما ذلك الذي يحمل الكره الناتج عن «جهل مركب»، لأنه فقط تلقى أن هناك أمما متوحشة خارج إطار التاريخ، وعلى الغربي المتحضر إعادتها إلى نصاب التاريخ والحضارة، هذا الجندي هو فعلا آلة كسولة عاجزة عن فك شيفرات التاريخ والتجربة الإنسانية والاستفادة منهما، وهو ما برع فيه المقاوم الغزاوي والفلسطيني على العموم وكل مقاوم عبر التاريخ لعنجهية الغرب والقوى الاستعمارية الغاشمة.
إن الخرائب أو مفهوم الطلل في الوعي العربي هو العودة النفسية الجمالية إلى مراتع الكينونة الأولى، هي الحنين إلى الماضي والتعبير عنه بالبكائية، ليس ذما للمشهد، أو الحالة، وإنما تزكية للموقف الذي سوف يغادر فيه الإنسان المكان حاملا إياه معه مخيالا وواقعا عاشه، وهذه المقاربة قد تفسر حركة الناس وعودتهم إلى هدم بيوتهم التي هجروا منها قسرا، فما الذي يعودون إليه، التراب أم بقايا هياكل بيوت؟ كل فلسطيني يحمل معه «مفتاح» بيته الذي هُجر منه، «المفتاح التاريخي» العابر للأجيال إبداع فلسطيني، ذاكرة المكان الذي يعود إلى وحدته الأولى المتمثلة في البناء، والبيت من البناء، والبناء دون مفتاح كيان طارد، والمفتاح بصورته المادية التي تقابل الباب، أي المدخل الذي لن يتوه عنه صاحب البيت لأنه عارف به، والمفتاح عنوان المدخل، أما على المستوى الرمزي فالمفتاح يشكل أفق العودة لأن «الغريب» لا مفاتيح له، والهدم معيارية أنطولوجية تحدد المعرفة بالمكان، ولو فقد ملامحة لأن الرابط الوجداني أو «الحنين التاريخي» لا يمتلكه سوى من عاد ليقف على الطلل الذي يعني له الكثير.

كاتب جزائري

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب