ثقافة وفنون

المكان وهموم الإنسان في الرواية العربية

المكان وهموم الإنسان في الرواية العربية

مصطفى عطية جمعة

يحفل الوطن العربي بفضاءات مكانية مختلفة، ما بين ريف وبادية، وقرية ومدينة، وسواحل وصحراء، وجبال وسهول، وفي كل هذه الفضاءات يوجد الإنسان بسردياته، التي تناقلتها الألسنة شفاهيا، قبل أن يأتي من يدوّنها؛ من فناني الفولكلور وجامعيه، وعلماء الاجتماع وباحثيه، وكتّاب القص ومبدعيه؛ سجلوا التراث الحكائي، مع الهموم المعاصرة وأحداثها وشخصياتها، وقد استطاع الروائيون العرب صياغتها والتعبير عنها في رواياتهم؛ فقد كان الفضاء المكاني بمثابة الحاضنة للبشر: أفرادا وجماعات، عشائر وقبائل، رجالا ونساء وأطفالا، أفراحا وأتراحا، أغاني وحكايات، مرويات ومدونات، فالمكان وعاء لكل هذا، باختلاف الأزمنة، وتعاقب الأجيال.
من الفضاء المكاني؛ يمكن أن تنطلق استراتيجيتنا في قراءة علاقة الرواية العربية بقضايا الإنسان وهمومه بشكل عام، أي أننا سنتخذ من المكان سبيلا لمناقشة مشكلات العربيّ وآماله وأحلامه، كما تبدت في السرديات الروائية العربية. فالمكان سيكون ثابتا في المنطلق والدرس، آخذين في الحسبان تغير الأزمنة، وتعدد الرواة، واختلاف القضايا المتناولة.
ومن المهم الانتباه إلى خصوصية المكان؛ التي تفرض نفسها على الإنسان وعلى قضاياه وهمومه. صحيح أن هناك هموما مشتركة بين أبناء العروبة قاطبة، مثل مشكلات الفقر والتنمية والبطالة وسوء استغلال الموارد، ولكن هناك أيضا هموما خاصة بكل بيئة مكانية، فثمة تفاوتات في معدلات الفقر والخدمات في القطر الواحد، بين سكان الريف وسكان المدن مثلا، وأهل البادية وأهل الحضر. كذلك المشكلات التي يواجهها سكان الساحل العاملين في الصيد والغوص، تختلف عن المشكلات التي يعانيها الفلاحون في الريف، أو سكان المدن والحواضر.
ويفرّق الناقد الفرنسي غاستون باشلار في كتابه «خصوصية المكان» بين نوعين للمكان، فهناك المكان الأليف والمكان الخارجي، فالأول هو الذي يعيشه الإنسان ويتفاعل معه، بوصفه مؤثرا عاطفيا في كينونة الإنسان، وبالتالي يصبح المكان قيمة في صناعة الذات الإنسانية، وفي إضفاء الخصوصية عليها، بل إن المكان الأليف يتمدد وينمو ويكبر في الذات، كلما تعاظم تأثيره فيها، إلى جانب الأشياء الموجودة في المكان، التي يقيم الإنسان علاقات معها، قد تكون حميمية أو عدائية، ولكنها في الحالتين تفرض نفسها على النفس الإنسانية. أما المكان الخارجي، فهو بمثابة الإطار العام للبيئة المكانية، بكل ما فيها من موارد طبيعية، سواء كانت ثرية أو فقيرة، ولكنها حاضرة في الوعي والشعور. فالبيئة المكانية الغنية تمنح أهلها الاستقرار والسعادة والسلام، فلا سبيل للتصارع فيها، ما دام الخير موفورا، والرزق ميسورا، إلى جانب لين الطبع، ورقة الوجدان، وسمو السلوكيات الفردية، ومتانة العلاقات الاجتماعية. أما البيئة الفقيرة فهي تنعكس على النفوس فتزيدها قسوة، وعلى السلوك فيصبح عنيفا، وعلى الطباع فتكون غليظة، وعلى العلاقات الاجتماعية فتكون صراعا، إلى جانب اتصاف الشخصية الفردية بالعناد والتمرد، والتقلب النفسي، وسوء المزاج. وكل هذا تعكسه الرواية في متنها السردي، وينعكس هو على شخصيات الرواية وأحداثها وتقلباتها وصراعاتها، وبذلك يصبح المكان مصدرا للتنوع في خصائصه البيئية المادية، وأيضا عنوانا على الاختلاف في سمات البشر القاطنين فيه، وفي سلوكياتهم وتشكيل شخصياتهم.

ومن هنا، نقترح أن نتناول قضايا الإنسان في الرواية العربية من خلال محورين أساسيين وهما: الريف وقراه، وعشائره، والمدينة وأهلها وتغيراتها. حيث نرى أن دراسة السرديات الروائية التي تناولتها ستعطي صورة متكاملة عن هموم الإنسان وقضاياه في العالم العربي بشكل عام، مع مراعاة ما تضفيه خصوصية المكان من نكهة خاصة في السرد الروائي. أما لماذا اخترنا هذين المحورين (الريف والمدينة) فلأنهما في نظرنا سبيل للرؤية المشتركة، فالعالم العربي الآن، وبعد عقود من التحديث، اختفت منه بشكل كبير الحياة البدوية، التي تعني تنقلا وترحالا، والعيش في خيام، وذلك بعد استقرار البدو في قرى، وهجرة أهل الريف إلى المدن، ما أدى إلى تزايد قاطني المدن، وتزايد أيضا في أعداد المدن، لينتهي المشهد العمراني العربي في مجمله إلى ريف وتمدين، قرى ومدن، وهذا لا يعني أن الإنسان العربي قد غيّر من قناعاته الموروثة عن جذوره في البادية أو الريف، بل إن ابن البادية عاش في الريف بروح العشيرة، وثقافة القبيلة، مثلما عاش ابن الريف في المدينة بقيم الريف، وأخلاق أهله.
صحيح أن هناك تأثيرات وتغيرات، نتجت عن زيادة المتعلمين، وطغيان الحياة المادية العصرية، ولكن التغير الثقافي، بطبيعته، بطيء، ومهما شهد من انحراف، فإن الإنسان الفرد، والجماعة والمجتمع؛ تظل لهم جميعا مرجعية، يعودون إليها، ويسترشدون بها، ويحكمون من خلالها على العلاقات والمواقف الإنسانية.

ذلك لأن هناك قيما إنسانية وعربية وإسلامية لا يمكن الجدال بشأن التغيير الذي يمكن أن يصيبها، لأن الثقافة العربية مرجعيتها إسلامية، وجذورها عربية، تنتصر لما هو إنساني وخيري وفطري. أما التغيرات التي نرصدها على صعيد انتشار بعض السلوكيات الخطأ، والأفكار المنحرفة، فهي من قبيل الانحراف عن الجادة، بحكم التأثر الذي لا بد من حدوثه، ولكن يُحسب الأمر -في النهاية – من جهة مدى تقدم الإنسان العربي، ونهضته، وتطوره، مع الانتباه إلى أن هناك موروثات من تقاليد، وقناعات تحتاج إلى غربلة، وإعادة نظر فيها، فهي معيقة عن التقدم والرقي، تمثّل أسوارا لا بد من هدمها، وأساور لا بد من خلعها، خاصة منها ما يتعلق بالمرأة وتمكينها من التعليم والإرث واختيار شريك الحياة، وما يتعلق بالعداوات التقليدية، التي تنشئ أحقادا، وتسبب قتلا ودماء، لأنها ناتجة عن تعصب لما هو غير إنساني.
ولا يمكن حصر كل الروايات التي عنت بقضايا الريف أو المدينة، واهتمت بقضايا المكان والإنسان، فهذا يتناسب مع العمل الببليوغرافي، وإنما نقترح استراتيجية النماذج الإبداعية، التي تهتم بانتخاب أبرز الروايات التي عبرت عن قضايا الإنسان في البيئة المكانية، على امتداد الوطن العربي، مع إيراد بعض الأمثلة الدالة، مصحوبة بتحليل واستنتاج، وتأمل وربط، في جميع الأحوال والأمكنة والأزمنة، بأن ندرس مثلا الريف في الرواية العربية الممتد من العراق إلى مصر إلى المغرب العربي والسودان، ونرصد مثلا أبرز الهموم والمشكلات في المدن العربية. والهدف من هذا، تكوين رؤية كلية، تجمع المتناثر، وتنظر في المشترك، وتقارن وتوازن، بهدف التعرف على أوجه التمايز، وعلامات الاختلاف، مثلما تتوقف عند نقاط التلاقي، ومحاور التجاذب.
فالإنسان هو الحاضر بقضاياه ومشكلاته، سواء كانت قضايا ذات خصوصية محلية وقطرية وفي أزمنة سابقة، وأمكنة متعددة، أو قضايا تشترك مع الهموم وأزمات الإنسان على وجه الأرض عامة.

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب