ثقافة وفنون

بؤس الوجوه وبؤس الكتابة

بؤس الوجوه وبؤس الكتابة

توفيق قريرة

من الصعب ألاّ تقرأ في الوجوه التي تعترضك في كل مكان أحوال أصحابها الباطنة، ومن الصعب أن تتعامل مع الوجوه التي تلقاها كلّ يوم بحياد. أن تقرأ الوجوه لا يعني أن تظلّ متفرّسا فيها طويلا؛ فهناك في الوجوه اللّمحة، وهي الرؤية المختصرة التي تعلق بها قراءة عميقة واستنطاق للباطن. اللمحة أشبه ما تكون مع الوجوه التي تعبر سريعا الأنوف ؛ فيكفي أن يمرّ بك عطر رفيع فينعشك؛ أو أن تمزّق أنفك رائحة كريهة فتتعب لها حواسك. نحن نضع العطور الرائعة مثلما نضع على وجوهنا العلامات التي تريد بها أن نتجمل؛ وقد تعلق بوجوهنا علامات تقول إنّا لسنا على ما يرام مثلما تتلبس بنا العطور المزعجة من تفاعلات أجسادنا مع الحرارة العالية. حين نستعرق، يمكن أن تصدر من أجسامنا روائح نزيلها بالتعطر أو بالغسل ولكن لا يمكن أن تزيل من وجهك ما علق به من أثر التعب المنهك، أو القلق القائم، أو البؤس الجاثم، فهي علامات ستصحبه دهرا وكأنّها جزء من الجسد لا يزول عنه.
أصحاب الوجوه التي تحمل حملا أبديّا علامات عن الحزن، أو الكآبة أو القلق بشتى أنواعه، هم من البشر الذين تركوا علامات البؤس عالقة على وجوههم، فلم يسعوا إلى تطهيرها.
يمكن أن ترى البؤس في الأماكن العامة أو في الشارع بسمات تكون العيون فيها مرهقة، كأنّما قتلها الكرى، أو أدماها البكاء، قد تكون غائرة، أو محاطة بسواد كأغربة سود مقيمة، تظلّ شاردة لا ترى الناس بل ترى من خلال الناس هموما؛ ليس في المآقي دموع، لأنّ الدموع هجرتها من زمان الإمطار والإرعاد قبل أن تحلّ مواسم الجفاف. الخد ذابل أصفر لا لون فيه للحياة، ولا صبغة تخفي الجفاف وتظهر التطرية؛ ما عاد يفيد فيه صبغ ولا تلوين. والشفة أرض بلقع تعودت أن تنطبق على اختها كأنما هجرها الابتسام وغادرها الكلام. أما الوجه فسرعان ما يترهل ويرسل إنذارات لا يطير فيها غير غراب شؤم، أو زاجل يحمل فاجعة. يعشش البؤس في الوجوه بين أشخاص أضناهم الفقد، ورحل عنهم الحبيب تلو الحبيب والشقيق بعد الشقيق؛ والبؤس طائر يعشش في الوجوه التي خذلها من خذلها، ونهشها التعب وأكلها السفر الذي لا راحة بعده، وسكنها بلا إذن كالمعمر خوف جاثم ورعب مقيم.
الفيلسوف الدنماركي صورين كيركيغاد (1813- 1855) Sören Kierkegaard يرى أنّ الرعب قدر محتوم، وأنه لا مهرب للإنسان من الخوف الجاثم. وفي رأيه أنّه ليس للإنسان أي ضمانة بأن خياراته هي الخيارات الصحيحة. فهو يدين اختياراته إدانة تكون مصدرا للقلق والضجر الذي لا يزول. والبؤس البشري مصدره أن الإنسان على قلق أبدي، من أنّه لا ضمانة لديه بأنّ اختياراته هي الاختيارات الصحيحة؛ وهذه الإدانة الذاتية العالقة بالنفس هي التي تجعل قلقه أبديا، وبؤسه جاثما على صدره. الطريف فيما كتبه كيركيغاد ما سمّاه «البؤس الجمالي»، الذي يعني بشيء من التبسيط، أنّ الإنسان يفشل في العثور على ذاته وهو يخوض تجربته مع الزمان؛ بمعنى أنّه لا يقدر على أن يجد موضعه المناسب في الوقت المناسب، ولذلك تجد وجوده مضطربا يقيم قليلا في الحاضر ليغادره ويقيم أكثر في الماضي وبعض الهنيهات في المستقبل، فتختلط عليه وضعياته وأزمنته وتضيع دروبه فلا يدري ما يريد ومتى يريد.
يعتقد كيركيغارد أن حياة الفرد الجمالية تكون عندما يرتبط الفرد بنفسه؛ بمعنى أن الإنسان لنفسه ويسعى إلى تجاربَ جديدة في الجمال والمتعة. ولكنّ المرء البائس لا يعيش لنفسه، وحتى تعيش لنفسك يمكن مثلا أن تكتب، لأنّ الكتابة هي حسب هذا الفيلسوف استجابة لحاجة داخلية ملحّة. ربّما كان في النشأة الصعبة التي عاشها هذا الفيلسوف ما جعله يعتقد أن البؤس جاثم؛ حتى إنّه كتب بعد وفاة والده: «لقد مات من أجلي حتى يخرج مني شيء إن أمكن أن يخرج». موت الأب الحقيقي أو الرمزي قد يكون بداية حياة ونهاية بؤس، وقد يكون عند البشر البسطاء بداية تعاسة. في التعاسة لا يمكن أن تفرّق وأنت تقرأ الوجوه بين من أتعسته الكتابة الذاتية الغائبة، ومن أتعسته أميّة الكتابة عن النفس، وقهرته قلة الاختلاء بالذات. الوجوه البائسة وعلاماتها التي ذكرنا شيئا قليلا منها هي ضرب من الكتابة الذاتية المنفلتة من التكتم والتستر؛ والتي لم تجد دواة وقلما، بل وجدت علامات ووجها ترتسم عليها.
لا تعني الكتابة البائسة أن تحبّر كتابا مزعجا إلى حد النخاع، من نوع كتاب «البؤساء» لفيكتور هوغو، أو من نوع أسطورة سيزيف لألبير كامو؛ ولا تعني الكتابة البائسة أنك لا تعرف كيف تكتب فتفشل في أن تنتج أدبا يلفت إليه الانتباه. الكتابة البائسة أن تكتب في الحياة شيئا من قصتك ومن حديتك مع الآخرين، كتابة فاشلة أو مريرة أو قاتمة. أفعال الوجود أو التواجد هي أفعال كتابة من نوع خاصّ هي التي تجعل الأشخاص سعداء، أو تجعلهم بؤساء؛ وليس في المسألة قدرية بالمعنى الجبريّ؛ بل فيها كثير من الرؤى والتفاعلات والتأثيرات والمثيرات والاستجابات. من الممكن أن يدخل المرء في كتابة عشق ثنائية مع امرأة تلهج بذكره وتهواه ويهواها؛ ولكنّ الانسجام الحدثي الذي كان يصنع كتابة ملهمة وحارّة، يمكن أن ينقطع فجأة بأن يقرّر طرف من الطرفين الذهاب إلى اتجاه آخر أو أن يظلّ حيث هو، بينما يرحل القطار بلا كلمة وبلا لفتة من الطرف الثاني. ما يسمّى هجرا أو رحيلا أو قطيعة أو انفصالا أو طلاقا، هو توقف للكتابة الحدثية الجمالية المزدوجة، في وضعية لا يمكن أن تنكتب بفعل فرديّ؛ لذلك يمكن أن يكون سيناريو البؤس بأن يضع أحد الطرفين نفسه، أو يضع الطرفان نفسيهما على قارعة الزمان في حالة من التيه والضياع لا يَعرف المرء فيه لموضعه السابق طريقا للرجوع ولا آثارا للأوبة. فيظلّ المرء وقرينه الذي كان في حالة هجوع، يبحث عن كتابة أخرى بأسلوب آخر غير الأسلوب الذي كتب به سابقا، فيقع هو الطامع في الكتابة الأولى أسيرا في نوع من الكتابة الحدثية الثانية التي تريد عبثا أن تستعيد حروف التجربة الأولى، فتفشل الكتابة لأنّ الكاتب كان وهو في وضعيته الحاضرة يكتب مع الوضع الجديد كتابة قديمة، ويرى نفسه أسيرا لوضعية سابقة، فيعيش على هامش لحظته الأولى ولحظته التالية.
وحده المرح في الكتابة يعطي الحياة جمالياتها النضرة، فيبني المرح أكوانا يكون فيها الكاتب منشئا للمرح إنشاء جماليا. المرح قد يجعلك في حلّ من أيّ تملّك للآخر، وللمح فعل إنشائي في الكتابة الحدثية جميل. المرح يشعرك وأنت تنشئ الكون الجميل، وكأنك في رحلة عابرة ترى نفسك وكأنك فراشة خفيفة، فعلها أن تمتص رحيق الحياة مع كيان خفيف يطير معها في كل سماء، لا تبعد ليقع على رحيق جديد لا يستنشقه لوحده، بل مع الكيانات الجميلة الأخرى. إنّ المرح هو وحده ما يجعل الكون الجديد ذاتيا وموضوعيا في آن: ذاتيّته في أنه يتفرج لنطل من كوّته على وضعيته الجديدة، وبعد ذلك يرى الواقع الكوني وكأنه مساوق لتلك الوضعية، أو مخالف لها؛ ويا حبذا أن يرى الكون مخالفا؛ فالمخالفة مرح وسعادة إن كانت لا تؤدي بالذات المطلة على جوهرها وعلى روح الوجود إلى فقدان الوضعيات وإلى البؤس الماثل في الإنسان ليلا ونهارا.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب