
استراتيجية ترامب العالمية ومعضلة الشرق الأوسط
د. رياض العيسمي
ترتكز استراتيجية الرئيس ترامب بشكل أساسي على الشعار الذي رفعه في حملته الانتخابية الأولى عام ٢٠١٦ والثانية ٢٠٢٤. وهو يختصر ب: MAGA
Make America Great Again
أو جعل أمريكا عظيمة ثانية. وهذا معناه، بالنسبة للرئيس ترامب، بأن أمريكا لم تعد عظيمة كما كانت يوما ما. وهو سيعيد لها عظمتها المفقودة. هذا وبالرغم من أنه صرح بشكل عابر ومتواتر مالذي سيفعله لجعل أمريكا عظيمة ثانية، لكنه لم يوضح متى برأيه كانت أمريكا عظيمة، ولماذا. وفيما إذا كان ما سيفعله يحتكم إلى نفس مقياس هذه العظمة، وكيف. وكمرشح للتغيير في الحزب الجمهوري، لم يفعل، كما اعتاد مرشحو التغير في الحزب الجمهوري، ربط مشروعه للتغيير بفلسفة الرئيس رونالد ريغان الذي يعتبر مرجعية التغيير في الحزب. وذلك بفضل سياساته الداخلية المحافضة ماليا والمعتدلة اجتماعياً، والتي تمثل الطيف الأوسع من المجتمع الأمريكي. وكذلك تعتبر سياسة إدارته على الصعيد العالمي هي الأنجح منذ الحرب العالمية الثانية. وذلك لانها قادة إلى إنهاء الحرب الباردة وإسقاط الاتحاد السوفييتي عبر استنزافه الاقتصادي بسباق حرب النجوم، ودون أن تخوض معه أية مواجهة عسكرية مباشرة. وبهذا يطرح الرئيس ترامب نفسه مرجعية حديدة ومختلفة، ليس للحزب الجمهوري فحسب، وإنما للولايات المتحدة بأكملها. وكما هو متوقع مع أي تغيير، سيلاقي توجه الرئيس ترامب هذا، الكثير من العقبات والصعوبات على الصعيدين الداخلي والخارجي. وقد يقود إلى تغيير الولايات المتحدة كما عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. واهم الصعوبات التي سيواجهها الرئيس ترامب على الصعيد الخارجي هي معضلة الشرق الأوسط، وتحديدا التعامل مع إسرائيل، وكما اتضح في تعامله مع مستقبل غزة كمقدمة. ولكي نفهم عمق المشكلة التي سيواجهها الرئيس ترامب في الشرق الأوسط، لا بد من التعرف على أسبابها الحقيقية.
تكمن المشكلة الأساسية لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط في أهميتها. فهي أرض الحضارات ومهبط الوحي ومسقط رأس الأنبياء. ولهذا هي بؤرة للصراع منذ فجر التاريخ. لكن هذا الصراع ازداد احتداما وقسوة ودموية بعد ظهور الأديان فيها قبل ما يقارب الخمسة آلاف عام. ففي الوقت الذي جاءت الأديان لتنظم حياة البشر وخلق حالة من التآخي والمحبة بينهم وادخال الطمئنينه إلى نفوسهم، أساء البشر استخدامها وحولوها إلى وسيلة للصراعات والانقسامات والتسلط والاستبداد ومحاولة إلغاء الآخر. وكذلك للسيطرة والاستئثار بأرض الله دون الآخر بحجة القربى من الله أكثر من الآخرين. فبعد سفر الخروج اليهودي لبني إسرائيل من مصر، دخلت إلى المنطقة حملات مسيحية صليبية أوروبية. وانطلقت منها فتوحات إسلامية إلى أوروبا. وذلك ما حول الصراع من صراع حضاري إلى صراع ديني. فطالت الانقسامات والصراعات الأديان نفسها وحولتها إلى مذاهب وطوائف متناحرة فيما بينها كما حصل مع الطوائف المسيحية في أوروبا. والإسلامية في الشرق الأوسط. وتحول الصراع الديني الإقليمي إلى صراع قاري. وكان اكتشاف القارتين الأمريكيتين، الجنوبية والشمالية، بالصدفة. وذلك عندما حاول القس المسيحي والبحار الإيطالي كريستوفر كولمبس في عام ١٤٩٢ إيجاد طريق من أوروبا إلى الشرق الأقصى، الصين والهند في حينها، لا يمر بأرض المحمدين، كما برر ضرورة الرحلة في الطلب الذي قدمه لملوك أوروبا وقتذاك. كما وكان أحد أهم أسباب الحرب العالمية الأولى،إضافة لدحر الأمبراطورية الألمانية والسيطرة على أوروبا، هو إسقاط الإمبراطورية العثمانية الإسلامية والاستحواذ على مناطق نفوذها في الشرق الأوسط من قبل الإمبراطوريتين البريطانية و الفرنسية. وهذا ما حصل بالفعل. وتتوج اقتسام النفوذ بين بريطانيا وفرنسا في منطقة الشرق الأوسط باتفاقية سايكس-بيكو. وبعد الحرب العالمية الثانية دعمت الولايات المتحدة، المنتصر الأكبر في الحرب، قرار تقسيم فلسطين عام ١٩٤٧. والذي كان الهدف الأساسي منه السيطرة على منطقة الشرق الأوسط وإبعاد البريطانيين والفرنسيين منها. وهذا ما حصل بالفعل. واليوم في معمعة الحرب العالمية الثالثة، يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ربح الحرب دون خوضها، وإعادة تقسيم المقسم في منطقة الشرق الأوسط وفلسطين لفرض واقع جديد على أساس ديني كما حصل في الماضي. وكأن قادة اليوم لم يتعلموا من دروس الماضي لأسلافهم. ولهذا إذا ما نجح الرئيس ترامب في تحقيق ما يقول بأنه يسعى إلى تحقيقه في الشرق الأوسط وأوروبا والعالم، هو برأيي لن يمنع وقوع حرب عالمية ثالثة كما يقول، وإنما سيعيد انتاج وقائع التاريخ ويمهد لقيام حرب عالمية رابعة. والتي كان قد حذر منها ألبيرت أنشتاين في رسالة أرسلها إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان في عام ١٩٤٥ عندما أمر ترومان بإلقاء القنابل النووية على مدينتي هوريشيما ونغازاكي في اليابان بغرض إنهاء الحرب العالمية الثانية، والتي جاء فيها: “لا أعرف بأية أسلحة ستخاض الحرب العالمية الثالثة، لكن الحرب العالمية الرابعة ستخاض بالعصي والحجارة.”*
ولهذا إذا ما أراد الر ئيس ترامب أن يمنع توسع رقعة الحروب القائمة وتطورها إلى حرب عالمية ثالثة، لا بد وأن يلغي مفاعيل الحرب العالمية الثانية والتي كانت تداعياتها هي سبب هذه الحروب والحرب العالمية الثالثة المرتقبة. وعليه ان يبدأ في منطقة الشرق الأوسط، وان يقرر مستقبل إسرائيل التي فرضت على الشرق الأوسط كدولة كنتيجة للحرب العالمية الثانية. وإعادة انتاج الماضي بالقوة لا يغير من الحاضر ولا يضمن مستقبلا أفضلا من غير حروب، كما يعتقد الرئيس ترامب. ولهذا، إذا ما أراد الرئيس ترامب أن يحقق حلا ناجزا للمنطقة وقابلا للاستمرار، يتوجب عليه أن يعمل بمدأ التجميع، وليس التقسيم. واعادة المنطقة إلى حالة الانسجام الحضارية التي كانت عليها ما قبل الأديان ومع الحفاظ على خصوصية كل الأديان ومقدساتها في المنطفة، وليس تفضيل دين على دين. وشعب على آخر. وذلك لأنه بات من مصلحة الولايات المتحدة الجيواستراتيجية ان تخلق منطقة جغرافية متداخلة ومتكاملة وقوية تكون شريك استراتيجي لها في مواجهة المنافس الأول لها، الصين. كما كانت أوروبا في مواجهة الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة. ولهذا الحل لم يعد يكمن ببقاء إسرائيل كدولة مميزة في المنطقة، وإنما اعادة دمج سكانها بسكان المنطقة. واعادة المنطقة جغرافيا كما كانت عليه في حقبة مهمة من التاريخ، تقتصر على ثلاثة مناطق أساسية. هي اليمن والجزيرة العربية، وبلاد ما بين النهرين التي تشمل اليوم العراق وسورية الكبرى. والسيطرة على هذه المنطقة بأكملها وامتلاك مفاتيح البوابات القارية في المنطقة، مصر وتركيا وإيران يسهل على الولايات المتحدة عملية السيطرة ليس على قارة آسيا التي تحتضن منافسها الصين وحسب، وإنما على قارتي أوروبا وأفريقيا. خاصة وأن ثلثي سكان العالم يعيش في قارتي آسيا وأفريقيا. وبالرغم بأن من أن أوروبا لم تعد جبهة الولايات المتحدة المتقدمة كما كانت في الصراع مع الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، لكنها تبقى الضفة الشرقية للمحيط الأطلسي وصمام الأمان مع روسيا التي تحتكر بجغرافيّتها الجزء الأكبر من قارة آسيا، والتي يمكن أن تستخدمه الصين بالوصول إلى أوروبا. كما ويلقى المحيط الأطلسي بوسطيته في الجغرافية العالمية موقعا مهما للولايات المتحدة بالرغم من تحويل استراتيجيتها الجديدة باتجاه محاصرة الصين في المحيطين الهندي والهادي. لا اعتقد بأن مثل هذه الرؤية الاستراتيجية طويلة الأمد تدخل في سياق مشروع الرئيس ترامب لأمريكا العظيمة. بل على العكس استراتيجيته قصيرة الأجل لأربع سنوات، فترة رئاسته. تعتمد بشكل أساسي على عزل الولايات المتحدة عن المشاكل والالتزامات العالمية، بما فيها منطقة الشرق الأوسط.
* الفقرة الثانية في هذه المقالة مأخوذة من مقدمة كتابي: الولايات المتحدة ومآلات الصراع على الشرق الأوسط: التنافس الجيوستراتيجي والنظام العالمي الجديد. الصادر في نيويورك، عام ٢٠٢٢.