أمن الشرق الأوسط تهدده «إسرائيل»

أمن الشرق الأوسط تهدده «إسرائيل»
د. سعيد الشهابي
ما تزال هتافات الجيل العربي الذي عاش في حقبة الحرب الباردة في الخمسينيات والستينيات تدغدغ عواطف من بقي منه على قيد الحياة. تلك الهتافات كانت تعبّر عن مشاعر عميقة راغبة في التحرر من الاستعمار وتحقيق الوحدة العربية وتقليص النفوذ الغربي في المنطقة.
يومها كان احتلال فلسطين واحدا من أهم الدوافع لانتشار الحس الثوري وتحدّي الاستعمار وبداية استيعاب دور الأمريكي في العالم. أما اليوم فالوضع أصبح مختلفا بشكل جذري، فلم يعد الوعي الشعبي بالمستوى الذي يدفع نحو الحراك ضد الظواهر المرعبة التي انتشرت في المنطقة. فلم يعد الوجود الأمريكي محرّكا للمشاعر أو دافعا للنهوض الشعبي. كان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عنوانا للصحوة السياسية واستيعاب أبعاد الاستعمار الغربي، وأنه تعبير عن استراتيجية الغرب للبقاء في المنطقة بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية. كانت هتافات الجيل الثائر من المحيط إلى الخليج مرورا بفلسطين تعبّر عن وعي جماهيري واسع ساهم في الحدّ من الهيمنة الغربية المطلقة. وكان النفط الذي بدأ يغزو الأسواق الغربية عنصرا حاضرا في الصراع. فلم يكن هناك صوت أعلى من صوت المعركة الهادفة لتحرير فلسطين ووضع حد للهيمنة الغربية.
لقد تغيّرت الأوضاع اليوم، فلم يعد تحرير فلسطين نغمة تجذب اهتمام الشعوب العربية، بل استبدلت بدعوات التطبيع والاعتراف بكيان الاحتلال. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. بل بلغ مستويات هابطة لم تكن تمر بالذهن. فها هو الرئيس الأمريكي نفسه يدعو لإفراغ غزة من الفلسطينيين، ويسعى للضغط على الأنظمة العربية للقبول بذلك. وبدلا من التمتع بهيبة سياسية رادعة لدى الجانب العربي، أصبح السباق للوصول إلى زعماء البيت الأبيض محتدما. فعندما استلم ترامب منصب الرئاسة الأمريكية وأجبر الجانب العربي لدفع أكثر من 450 مليار دولار لدعم الخزينة الأمريكية لم تحدث ردة فعل ضد ذلك، فأصبح اليوم يطالب بـ 600 مليار دولار ويسعى للحصول على تريليون دولار. لماذا؟ وكيف؟ وإلى أين تسير أوضاع أمة العرب والمسلمين؟ الابتزاز الأمريكي لا يتوقف هنا: بل أن الاستراتيجية الأمريكية تهدف لنزع سلاح المنطقة بشكل كامل.
اليوم تتعرض إيران لاستهداف شامل. ولكن قبل إقدام التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي على ضربها عسكريا، استهدفت قوى المقاومة المدعومة من إيران أو المنسجمة معها في مشروعها السياسي خصوصا إزاء قضية فلسطين. فاستهدف حزب الله اللبناني على نطاق غير مسبوق، وذلك باغتيال قياداته وتدمير بناه التحتية وإبعاده عن الحدود بين لبنان وفلسطين. حدث ذلك كله في غياب أي رد فعل عربي فاعل. وبلغ التخاذل العربي مستويات غير مسبوقة، فلم تُعقد قمة عربية طارئة ولم يصدر بيان واحد لاستعراض هذا الاستهداف الأمريكي ـ الإسرائيلي لقوى المقاومة. كان ذلك كله مقدمة لما أقدم عليه الرئيس الأمريكي لاحقا، عندما طلب من الفلسطينيين مغادرة وطنهم في غزة واللجوء إلى الأردن ومصر. وعندما أعلنت حكومتا البلدين عدم استعدادهما لتوفير وطن بديل عن فلسطين، هرع البيت الأبيت الأبيض للتهديد بوقف الدعم الاقتصادي عنهما، ولا يستبعد أن تعمل واشنطن لاستهداف نظامي حكمهما إذا لم ينفّذا أوامره.
ليس من حق أمريكا ممارسة هذه السياسة التي لا يمكن أن تؤهلها لممارسة دور دولي يناسب حجمها وقوتها وموقعها العالمي. ووجود رؤساء مثل ترامب إنما يساهم في عزلة أمريكا وتقليص نفوذها
إيران، من جانبها، تعلم أن هذه السياسة والإجراءات لن تتوقف عند هذا الحد. فبعد ضم الضفة الغربية وقطاع غزة لكيان الاحتلال، ستكون الخريطة الفلسطينية قد محيت تماما، ومعها الشعب الفلسطيني الذي سيصبح موزعا على البلدان التي لجأ افراده إليها منذ العام 1948. ومع إصرار إدارة ترامب على توطين سكان غزة في البلدان الأخرى تتضح الطبيعة الشرّيرة لحكّام البيت الأبيض الذين يقفزون على حقائق التاريخ والجغرافيا. إنها معاناة تتخذ أبعادا عالمية بمرور الوقت. فبالأمس قرّر ترامب نفسه تغيير اسم «خليج المكسيك» إلى «خليج أمريكا». وعندما رفضت وكالة «أسوشيتد برس» استخدام الاسم الجديد، قرّر البيت الأبيض منع مراسليها من حضور مؤتمراته الصحافية. وقالت الوكالة في بيان حول القضية أصدرته الأسبوع الماضي: «إن الحدّ من قدرتنا على دخول البيت الأبيض على أساس ما تقوله الوكالة لا يقلّص من حصول الجمهور على الأخبار المستقلة فحسب، بل يناقض الدستور الأمريكي». فالحرّيّة الإعلامية حسب قناعات البيت الأبيض نسبية ومرتهنة لإرادة السياسيين وليست حقّا مطلقا. فالرئيس الأمريكي لديه عقلية تقيس الأمور بمعاييره الخاصة بعيدا عن الاعتبارات الدولية أو القانونية أو الأخلاقية. فإدارته تستخف بالآخرين وتستصغرهم وتنطلق على أساس العظمة الأمريكية المطلقة، وتنسجم مع التوجهات الإمبريالية التي تقرّ الهيمنة والاحتلال، وتعتقد أن على أمريكا التصدّي للعالم. وهذه عقلية خطيرة على الأمن والسلم الدوليين.
فما الدافع لسياسات العداء لفلسطين وأهلها؟ أليس لأمريكا مصالح تختلف عن المصالح والأولويات الإسرائيلية؟ حتى وقت قريب كانت أمريكا تسعى لشيء من التصالح مع العالم الذي استهدفها مرارا بسبب سياساتها، فإلى متى ستظل داعما جوهريا لكيان يحتل أراضي الغير بالقوة ويرتكب جرائم ضد الإنسانية على نطاق واسع؟ ما الذي ستجنيه كبرى دول العالم من دفاعها المستميت عن هذا الكيان الغاصب؟ لقد أصبح العالم في حالة توتر دائمة خصوصا مع استمرار الرئاسة الثانية للرئيس ترامب الذي يمارس بلطجة غير مسبوقة في علاقاته مع العالم. وبدلا من أن يمارس دور التهدئة في الشرق الأوسط ويضغط على تل أبيب للتخفيف من سياساتها العدائية تجاه العرب خصوصا أهل فلسطين، فإنه يحرّضها على ارتكاب المزيد من الجرائم، متحدّيا بذاك المؤسسات الدولية خصوصا محكمة الجنايات الدولية التي يطالب بإلغائها بعد أن هددت بإحالة رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه إلى القضاء الدولي لأنهما حوّلا غزة إلى أنقاض تحتوي أجساد الآلاف من البشر من الرجال والنساء والأطفال. وبرغم ذلك ما يزالان يهددان المنطقة وأهلها بالمزيد من الحروب والعدوان. ولولا شعورهما بتوفر الحماية الأمريكية لما فعلا ذلك.
العالم اليوم بانتظار عدوان إسرائيلي على إيران، بعد توسع دائرة الاستهداف والتهديدات التي لم تتوقف. وقبل أيام تطرقت وسائل إعلام أمريكية نقلا عن تقارير استخباراتية أن من المرجح قيام «إسرائيل» بعدوان على إيران باستهداف مشروعها النووي، كما حدث مع العراق سابقا. فإذا حدث ذلك فسوف يعطل البرنامج النووي الإيراني ويؤدي إلى تصعيد التوتر الإقليمي، وقد يؤدي ألى صراع أوسع. ويبدو أن هذا الاعتداء يحظى بدعم أمريكي. ونقل عن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، إيان هيوز أن ترامب «لن يسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي». هذه الذريعة أصبحت عنوانا لتبرير أي عدوان إسرائيلي على إيران. فأمريكا لم تتخذ موقفا مضادا للعدوان الإسرائيلي في شهر أكتوبر الماضي الذي عطّل الدفاعات الجوّيّة الإيرانية وتركها مكشوفة أمام أي اعتداء آخر يستهدف مشروعها النووي. والحديث عن العدوان المحتمل يتزامن مع دعوة ترامب لأهل غزة بالنزوح عنها لفتح الطريق لضمها لكيان الاحتلال، وثمة إجماع على أن تلك التصريحات وما قد يترتّب عليها تمثل جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وانتهاكا صريحا للقانون الدولي الذي يجرّم العدوان من جهة ويطالب الدول بعدم طرد المدنيين من ديارهم ولا يقرّ استهداف البشر بالقصف والتدمير. ولكن الواضح أن القانون الدولي لا يحظى بحماية دولية، خصوصا إذا كانت أمريكا هي الجهة التي تنتهكه. فليس من حق أمريكا ممارسة هذه السياسة التي لا يمكن أن تؤهلها لممارسة دور دولي يناسب حجمها وقوتها وموقعها العالمي. ووجود رؤساء مثل ترامب إنما يساهم في عزلة أمريكا وتقليص نفوذها الذي يفتقر للدبلوماسية والعقل والتوازن.
فلسطين بين أن تكون أو لا تكون، وأهلها معلّقون بين الموت والحياة، خصوصا بعد ما تعرّضوا له من عدوان شامل في غزّة وإعلان ترامب وقوفه مع «إسرائيل» بشكل كامل. الأمر المؤكد أن وجود فلسطين حقيقة ثابتة لا تتوقف على السياسة الأمريكية. فأمريكا لم تستطع إخضاع فيتنام لهيمنتها، وفرّ جنودها من أفغانستان، وعجزت عن إخضاع العراق، وفشلت في توفير حماية مطلقة لأمن الاحتلال، ولم تنجح في خلق عالم متوازن ثنائي القطبية، ولم تستطع الفرار من التبعات الطبيعية لسياساتها الموغلة في الاستهلاك والتغطرس، هذه القوة العملاقة نفسها عجزت عن منع كوارث طبيعية على أراضيها. وكان مشهد الحرائق التي اندلعت فيها وعجزت كافة إمكاناتها المادّيّة عن احتوائها عبرة للجميع.
كاتب بحريني