
فيلم «كونكليف»… الكرادلة في صراعاتهم

سليم البيك
يحصل أن تدخل السينما في سياقات واقعية، فيكون الفيلم بعناصر تصفّ جنباً إلى جنب لتوحي بأنها حاصلة فعلاً، أي أن الفيلم مأخوذ عن أحداث حقيقية، أو كتاب تاريخ أو سيرة ذاتية، أنه ليس خيالاً أو ببساطة، ليس فيلماً روائياً بقصة أصليّة مكتوبة خصوصاً للفيلم. أما العناصر فهي ما يمكن أن توحي بصعوبة اللعب فيها خيالاً، كانتخاب بابا جديد في الفاتيكان. شخصيات واقعية، لها تاريخها، تُستحضَر إلى الخيالي السينمائي، فتجلب معها واقعية الأحداث واحتمالية حدوث ما لم يحدث منها. يقول أحدنا: هذا البابا وهذه الفاتيكان والقصة محاطة بعملية واقعية هي انتخاب بابا جديد، لمَ لا تكون الأحداث إذن ضمن الإطار والإمكانات الواقعية وحسب، وبالتالي لمَ لا تكون قد حصلت، أي تاريخية، أو في طور الحصول؟
فيلم «كونكليف» (Conclave) لإدوارد برجر، انطلق من عناصر واقعية بُنيت عليها قصته، إلى الخيال، مستفيداً من حصر المشاهد بهذه العناصر الواقعية، بإحاطته بها، في عالم تحمله واقعيته ليكون حدثاً تاريخياً ما، لينطلق، ضمن هذه الواقعية، إلى قصة مفبركة، بالمعنى الإيجابي للفبركة، إي قصة مغزولة، أو محبوكة، أو مختلقَة، أو مؤلَّفة، مكتملة العناصر الواقعية، بشخصيات وأمكنة وظروف موجودة أصلاً، ليخرج الفيلم، من بعد التمكن من واقعية ما يحصل على الشاشة، بأمان إلى اللعب الحكائي، في ما يمكن أن يحصل في سياق انتخاب البابا. وهو سياق شديد الدقة والإحكام في أشكاله وأحاديثه تبعاً لشخصياته، وهم رجال دين، كرادلة، أحكموا الإغلاق على أنفسهم لعملية الانتخاب، تماماً كما أحكم الفيلم الإغلاق على مشاهديه، لخلق واقعية الأحداث، كأنها حصلت في زمان ما، لم يخرج كثيراً عن ديكورات الفيلم وأزيائه.
الفيلم الذي يصوّر ما يقال إنها العملية الأكثر سرية في العالم، وكما أحكم في عناصره الواقعية على مشاهديه، أحكم الإغلاق على قصته لحصرها ضمن جدران الفاتيكان، وضمن أيام محدودة هي لانتخاب الكرادلة للبابا الجديد. يبدأ الفيلم بموت البابا وينتهي باختيار خلف له. النوافذ أغلقت، الإنارة خافتة على طول الفيلم، التصوير المستعيد للانطباعية الألمانية، بما فيها من ظلال وعتمة وتلاشٍ للنور هنا وهناك، في نوع من التشويق، من خلال استخدامات الإضاءة، ملائم لتشويق القصة، في أن أحداثاً تحصل وأخرى مرتقبة قد لا تلائم توقعاتنا، في غموض تكبر نسبته في القصة، تماماً كغموض الصورة وقد تفشت عليها الظلال. هذا الإغلاق التصويري والسردي داخل القاعات، تحديداً، حيث التصويت السري، لازمَ إغلاقاً في العملية برمّتها. كأن الكرادلة الملتزمين بلباسهم، المعزولين للضرورة عن كل ما هو خارجهم، حتى عمليات تفجيرية في الجوار تم الحرص على ألا تصلهم أخبارها كي لا يتأثروا بالتصويت، بانوا كأنّهم، بكل ذلك، خارجين من عصور وسطى يعمّها التعصّب والانغلاق، وعزل الكنيسة عن العالم.
للفيلم رسائل واضحة، لا يخفيها، في ضرورة انفتاح الكنيسة على ما هو خارجها. في الفيلم تباين بين الخير والشر، ولا يكترث في أنسنة هذا أو ذاك. في الفيلم، الأقرب لحكاية أخلاقية، صراع كنسيّ بين قطبين، ليبرالي متحرر ينادي بحقوق الأقليات والنساء والمثليين، وبالتسامح مع باقي الأديان، وهو الخيّر كما يظهر الفيلم من دون مواربة، والآخر يمثله كاردينال لا يخفي حمقه، أقرب ليكون مهرجاً في كلامه وسلوكه، لكن أكثر من حمقه، لا يخفي عنصريته تجاه كاردينال افريقي نال العدد الأكثر من الأصوات، ولا تجاه الإسلام ونبيّه، وينادي بحروب الأديان. ليصرخ به الكاردينال «الليبرالي»: عليك أن تخجل من نفسك.
ولأن الفيلم يغوص في عوالم الكنيسة، وكما كان مبالغاً، للضرورة، في إظهار حمق أحدهم وتهريجه، كان لا بد من تقديم النقيض منه في الدرجة ذاتها من الشدة، هو هنا الكاردينال المسؤول عن إتمام عملية التصويت، مثالي وعادل كما يمكن لشخصية جيدة في حكاية دينية أن تكون. معه الليبرالي، وكاردينال آخر، مكسيكي خدم في بغداد ويخدم في كابول، وفيه كل ما هو نقيض ما مثّله المهرّج، من انغلاق وعنصرية ورجعية جعلت آخرين يكرّرون بأنه سيعيد الكنيسة قروناً إلى الوراء.
كرادلة آخرون مرشحون لمنصب البابا، أحدهم فاسد واستخدم الابتزاز، ينكشف، وآخر عصبيّ وأقام علاقة مع امرأة، ينكشف كذلك. التشويق غير العنفي الذي نقلنا عبره الفيلم، بأمان، من موت البابا إلى اختيار خليفته، كان من خلال تمرير عملية التصويت، القصة، بعقدٍ صغيرة متتالية، كانت بانكشاف كاردينال تلو الآخر، مع تصاعد التعقيد كلّما تقدّم الفيلم وتنحّى كاردينال. هي عقدٌ صغيرة متتالية تبني معاً القصة الكبرى بعقدتها العامة، وهي اختيار آمن للبابا. أتت القصة محبوكة جيداً، متلاصقة، تودي واحدتها إلى الأخرى، في مستوى تشويق عالٍ على طول الفيلم. فكان «كونكليف» ماكناً متمكناً، قصةً وصورةً وأداءً.
أخيراً، ستتكسّر الجدران التي تعزل الكرادلة عن العالم خارجهم، سيدخل النور، الشمس تسطع في الداخل، بدل إنارات الشموع التي بالكاد تكشف مساوئ هذا أو ذاك. ودخلت الريح من أعلى الجدار المتكسّر، هزّت بطاقات التصويت لتغيّر قروناً من الانعزال والإغلاق، لتهزّ الكنيسة ومبادئها من خلال البابا الجديد. بالقدر الذي كان الفيلم فيه واقعياً بعناصره، هو، بالنظر إلى واقع الكنيسة، خيالي، جداً، في نتيجته.
كاتب فلسطيني/ سوري