ثقافة وفنون

محنة تولستوي في مواجهة إغراء الجمال الأنثوي

محنة تولستوي في مواجهة إغراء الجمال الأنثوي

جودت هوشيار

قبل وفاته بفترة وجيزة، قال تولستوي لكاتب سيرته بافل بيريوكوف: «أنت تكتب كل الأشياء الجيدة عني. هذا غير صحيح وغير كامل. عليك أن تكتب الأشياء السيئة أيضاً. في شبابي، عشت حياة سيئة للغاية، ولا يزال حدثان في هذه الحياة على وجه الخصوص يعذبانني. وأنا أقول لك هذا بصفتك كاتب سيرة، وأطلب منك أن تكتب عنه في سيرتي. هذان الحدثان هما: علاقة مع امرأة فلاحة من قريتنا، قبل زواجي – هناك تلميح إلى هذا في قصتي «الشيطان». الحدث الثاني «الجريمة التي ارتكبتها مع الخادمة غلاشا التي كانت تسكن في بيت عمتي، كانت بريئة، أغويتها، ثّم طُرِدَتْ وماتتْ». ولا أعتقد أن تولستوي يقصد أن غلاشا ماتت فعلا، بل طردتها سيدة المنزل. ورفضت أسرتها قبول الفتاة الخاطئة. كانت الفتاة على وشك الموت عندما احتضنتها أخت تولستوي.
أما «الشيطان» فهي رواية قصيرة مثيرة وغير عادية للغاية عن السيرة الذاتية لصاحب «الحرب والسلام»، و»آنّا كارنينا»، لأنها تتناول أموراً شخصية حميمة، يمتنع الروائيون عادة عن التطرق إليها، وتُظهر لنا جانباً مختلفاً للمؤلف، غير مألوف لنا. لأن مشاعر وسلوك الشخصية الرئيسية، مالك الأرض يفغيني إرتينيف، هي مشاعر وسلوك تولستوي نفسه تجاه امرأة فلاحة من مزرعته، حتى تأليف تولستوي للرواية وإخفاؤها عن زوجته، هي بالفعل ذات أهمية كبيرة.

اللقاء الأول بين ليف واكسينيا

كتب تولستوي هذه الرواية القصيرة في عشرة أيام، أرخها بتاريخ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1889، لكنه عاد إليها في أبريل/نيسان من العام التالي، وهو التاريخ الذي كتب فيه النهاية الثانية للرواية. وكان يشعر بالحرج من كتابتها، وخائفاً من أن يؤدي نشرها إلى إعادة إشعال مشاعر الغيرة لدى زوجته صوفيا أندريفنا. لذا أعطى ما كتبه أولاً لسكرتيره فلاديمير تشيرتكوف، وهو بدوره لم يحتفظ بها في منزله في موسكو، ولكن في سانت بطرسبرغ لدى والدته. وبعد وقت قصير، أعاد تشيرتكوف كتابة الرواية بعدة نسخ، وتلقى تولستوي نسخة وأخفاها تحت تنجيد أريكة قديمة. في ربيع عام 1909، عثرت صوفيا أندريفنا على المخطوطة المنكوبة، ما أدى إلى شجار خطير بين الزوجين.
من هو «الشيطان»؟
نُشرت رواية «الشيطان» لأول مرة في عام 1911، بعد عام من وفاة تولستوي، كجزء من أعماله الأدبية، التي أعدها فلاديمير تشيرتكوف، اليد اليمنى لتولستوي، وكابوس صوفيا أندرييفنا، التي رأت فيه الشخص المسؤول «عن كل جنون زوجها».
تدور أحداث هذه الرواية الساحرة في الريف الروسي في القرن التاسع عشر، وتحكي قصة يفغيني إرتينيف، «شاب يبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً، متوسط الطول، شخص قوي البنيان، ولكنه حساس، ذو وجه أحمر، وبأسنان وشفتين لامعتين، وشعر رقيق، ناعم ومجعد. وكان عيبه الجسدي الوحيد هو قصر النظر. وكان زملاؤه في الجامعة يكنون له دائما عاطفة واحتراماً خاصين. وقد ترك الانطباع نفسه لدى الجميع. كان من المستحيل عدم تصديق ما يقوله، أو تخيل الخداع والكذب في ذلك الوجه المفتوح والصادق، خاصة في تلك العينين».
كان في انتظار إرتينيف مستقبل باهر، بعد أن أنهى دراسته للقانون بتفوق في جامعة سانت بطرسبرغ المرموقة: علاقات في المجتمع الراقي؛ بداية الخدمة في إحدى الوزارات تحت حماية الوزير نفسه، ولكنه اضطر بعد وفاة والده، إلى الاستقرار في مزرعة العائلة لإنقاذ ثروته. هناك، في الريف، عاش مع والدته، وشرع في مهمة إدارة المزرعة، بكل تفانٍ، ونجاح، لأنه، كما يقول الراوي، «ساعدته شخصيته كثيراً في العمل».

ليف وصوفيا – في الأيام الأولى لرواجهما عام 1862

كان كل شيء يسير على ما يرام، باستثناء أمر واحد: أثناء إقامته في المدينة، «كانت له علاقات مع نساء مختلفات. لم يكن فاجراً، لكنه لم يكن أيضاً، كما كان يسمي نفسه راهباً. ولم يمارس الجنس إلا بالقدر الذي كان ضرورياً لصحته الجسدية والعقلية، ولكن بعد أكثر من شهر قضاه في الحقول بدأ الامتناع القسري عن الجنس يؤثر فيه بشكل سلبي. قال لنفسه: هل يجب عليّ الذهاب إلى المدينة من أجل هذا؟ وإلى أين؟ وكيف؟ كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يقلق يفغيني إرتينيف، وبما أنه كان متأكداً من أن هذا ضروري بالنسبة إليه، فقد أصبح ضرورياً حقاً بالنسبة إليه، وشعر بأنه لا يستطيع الفرار منه، وأن عينيه، رغماً عنه، كانت تتجه نحو أي امرأة شابة». وانتهى به الأمر إلى إخبار ما يحتاج إليه لدانيلا، الموظف السابق الموثوق به لدى والده؛ «كان بإمكانك أن تخبرني في وقت سابق، يمكن إصلاح ذلك». ويقول له يفغيني إرتينيف: «الشيء الوحيد الذي أحتاجه هو ألا تعاني من الأمراض؛ لا أريد أي مشكلة: زوجة جندي أو شيء من هذا القبيل. وهذا ما حصل عليه دانيلا من أجل ارتينيف. لقد انتهى كل شيء على ما يرام. وفوق كل ذلك، فقد شعر الآن بالهدوء والمرح. ولم يتوقف حتى لينظر إليها بشكل صحيح. تذكر ان اسمها ستيبانيدا وأنها كانت نظيفة، غَضَّة، جميلة وبسيطة، دون أي تكلف. وأخذ يلتقي بها من وقت لآخر، في البداية لم تترك علاقته مع ستيبانيدا أي أثر عليه. صحيح أنه في بعض الأحيان كان يشعر برغبة شديدة في رؤيتها لدرجة أنه لم يستطع التفكير في أي شيء آخر، لكن هذا لم يدم طويلاً؛ كان يحدد موعداً ثم ينساه مرة أخرى، ولا يفكر فيها لأسابيع، وأحيانا لأشهر».
لقد حان الوقت الذي وقع فيه يفغيني إرتينيف في حب فتاة ارستقراطية من مكانته الاجتماعية نفسها تدعى ليزا أنينسكايا. كانت ليزا امرأة طويلة، نحيفة، كان كل شيء فيها طويلاً: وجهها، أنفها، أصابعها، قدميها. كانت بشرتها ناعمة، رقيقة وردية؛ بيضاء، صفراء قليلاً. كان شعرها طويلاً، أشقر، ناعمأً ومجعداً؛ كانت عيناها جميلتين، واضحتين، خجولتين، واثقتين. تزوج إرتينيف ليزا ولم يفكر في حبيبته الفلاحة مرة أخرى لعدة أشهر. ولم يرها. يصف تولستوي مشاكله الصغيرة اليومية – صعوبات الزراعة، ومشاحنات حماته، وكذلك أفراح الحياة الزوجية: يبدو الحب بينه وبين ليزا نقياً وحقيقياً. ومع ذلك، بعد عام واحد من الزواج، أُرسلت هذه المرأة، برفقة امرأة فلاحية أخرى، إلى منزلهما لغسل الأرضيات. وأحدثت إحساساً جديداً في داخله: «لا يمكن أن يكون الأمر كذلك»، قال يفغيني لنفسه عابساً، كما لو كان يحاول إبعاد ذبابة، منزعجاً من حقيقة أنه رآها. شعر بالاشمئزاز، وفي الوقت نفسه، لم يستطع أن يرفع عينيه عن جسدها، الذي كان يتمايل بتلك المشية الحيوية الناعمة، وذراعيها، وكتفيها، وطيات سترتها الجميلة، وتنورتها الحمراء، المتجمعة فوق ساقيها البيضاوين. وأصبح مهووساً بها.. ومضطرباً. في مرحلة ما، يتحدث إلى عمه: «اعتقدت أنه شيء غير مهم، وأنني سأقطعه وسيكون هذا هو نهاية الأمر. لقد قطعته قبل الزفاف ولم أرها أو أفكر فيها لمدة عام تقريباً – وجد يفغيني أنه من الغريب أن يسمع نفسه، وأن يسمع وصف الحالة التي كان فيها- ثم فجأة، لا أعلم لماذا رأيتها مرة أخرى، ودخلت دودة في قلبي لن تتوقف عن قضمي. أوبخ نفسي، مدركا كل هول فعلتي، أي ما يمكن أن أفعله في أي لحظة، وأذهب بنفسي للبحث عنها، وإذا لم أفعل ذلك فذلك لأن الله أنقذني».
في نهاية القصة، يرى يفغيني إرتينيف ثلاث طرق للخروج من وضعه: قتل زوجته، أو قتل ستيبانيدا، أو قتل نفسه. لم يجسد تولستوي سوى طريقتين من هذه الطرق: في إحدى النهايتين، ينتحر البطل، وفي النهاية الأخرى يقتل ستيبانيدا ويشرب حتى الموت. يؤكد الاحتمال الثاني بوضوح أن الشيطان هو ستيبانيدا، لأنها مغرية. إنها تجسد قوة لا يستطيع البطل السيطرة عليها «هي شيطان حقيقي ـ فقد استحوذت عليّ رغماً عني». في هذه النهاية، يظهر لنا يفغيني إرتينيف كرجل وقع في أيدي امرأة شيطانية. يحاول بكل الطرق محاربتها، لكن قوتها أقوى. أفكاره الخاطئة، وأفعاله القذرة، وموقفه تجاه زوجته – تأتي إليه كما لو كانت من الخارج، تأتي من ستيبانيدا، ولا تنبع من داخله. والأهم من ذلك! إنه لا يستبعد الله من صورته للعالم، على الرغم من أنه ارتكب خطيئة فظيعة.

عناصر السيرة الذاتية
من الواضح أن «الشيطان» رواية سيرة ذاتية ولا يمكن عدها خيالاً. وهذا ما يؤكده حتى لقب إرتينيف، فهو يذكرنا كثيراً بلقب إرتينيف في ثلاثية السيرة الذاتية: «الطفولة.. المراهقة.. الشباب». يقول تولستوي في اعترافه: «لقد رغبت بكل قوتي في أن أكون صالحاً؛ ولكنني كنت شاباً، وكانت لديّ أهواء، وكنت وحيداً، وحيداً تماماً، عندما كنت أبحث عن الخير… وعندما استسلمت لهذه الأهواء، أصبحت مثل شخص مريض، وشعرت بأنهم كانوا راضين عني.. كانت عمتي الطيبة، أطهر مخلوق، عشت معها، تخبرني دائما أنها لم تكن تتمنى لي شيئا أكثر من أن أرتبط بامرأة متزوجة». ظهرت هذه المرأة المتزوجة في حياة تولستوي، وكانت فلاحة تبلغ من العمر 23 عاماً تدعى أكسينيا بازيكينا من ضيعته المسماة ياسنايا بوليانا، زوجة الفلاح إرميل بازيكين الذي ذهب إلى المدينة لكسب المال، ونادراً ما كان موجودا في المنزل، وكان يأتي لزيارتها فقط. لم يكن هناك أي عائق أمام لقاءات تولستوي وأكسينيا… في 13 مايو/أيار عام 1858 كتب تولستوي في يومياته: «يوم الثالوث الأقدس الرائع. لمحت أكسينيا اليوم، في الغابة الكبيرة القديمة. إنها جميلة للغاية. كنت أنتظرها بلا جدوى طوال هذه الأيام.. أنا أحمق، ووحش.. أنا في حالة حب، كما لم يحدث من قبل في حياتي. ليس لدّ أفكار أخرى.. أنا أتعذب». قبل زواجه، لم يهمل تولستوي النساء الفلاحات أو الخادمات الجميلات، لكن أكسينيا، التي أحبها لمدة ثلاث سنوات، تركت ذكرى خاصة لا تُنسى في روحه. كان تولستوي يشعر مع أكسينيا بذلك الشعور الذي سيتذكره دائما عندما يحتاج إلى وصف ولعن القوة المدمرة للجسد الأنثوي، فقد تمكنت أكسينيا من السيطرة عليه تماماً وبأسلوب بدائي للغاية. ذات مرة قال تولستوي لمكسيم غوركي حكمة عن القوة التي تمتلكها هذه المرأة عليه «ليست المرأة التي تمسك بك من أجل الجنس هي الخطرة، بل المرأة التي تمسك بروحك».
لم يتمكن تولستوي من قطع علاقته بأكسينيا إلا في سبتمبر/أيلول 1862 مع ظهور امرأة أرستقراطية نبيلة في حياته، أصبحت زوجته الأولى والوحيدة صوفيا أندرييفنا بيرس. وكان حينها قد أصبح كاتباً معروفاً، بعد نشر ثلاثيته الشهيرة: «الطفولة، والمراهقة، والشباب» والأهم من ذلك، قصص سيفاستوبول، التي أشاد بها  القيصر ألكسندر الثاني نفسه.
وقت الزفاف، كان عمر صوفيا أندرييفنا 18 عاما فقط، وكان عريسها يبلغ من العمر 34 عاما. ورغبة منه في أن يكون صادقاً مع زوجته المستقبلية، أعطاها الكاتب يومياته قبل الزفاف بفترة وجيزة – وهكذا علمت بكل علاقاته الغرامية وشعرت بغيرة شديدة وكتبت في يومياتها في 16 ديسمبر/كانون الأول 1862، «قرأت بدايات أعماله، وأينما يوجد الحب، وأينما توجد النساء، أشعر بالاشمئزاز، والألم، كنت سأحرق كل ما كتبه لكيلا يذكرني بماضيه. ولن أشعر بالأسف على جهوده، لأن الغيرة تجعلني أنانية رهيبة.. لو كان بإمكاني قتله ثم خلق آخر جديد مثله تماماً، لفعلت ذلك بكل سرور». كانت علاقة تولستوي مع أكسينيا، التي أنجب منها طفلاً غير شرعي، بمثابة مفاجأة بالنسبة إلى صوفيا أندرييفنا، التي لم تتمكن من نسيان ما حدث طوال حياتهما معاً. وكتبت في يومياتها:» لقد شعرت بالرعب لأنني اضطررت للعيش حيث كانت هذه المرأة «لقد بكيت بشدة، وكانت قذارة حياة العزوبية التي يعيشها الرجل، والتي اطلعت عليها لأول مرة، قد تركت انطباعاً كبيراً لديّ لدرجة أنني لن أنساه ما حييت».
كان تولستوي زوجا مخلصا ووفيا لصوفيا أندرييفنا وقد عاش معها لمدة 48 عاما وأنجب منها 13 ابنا وابنة، وكانت هي أيضاً زوجة مثالية، ولكن اختلاف طبائع الزوجين أثر في حياتهما الزوجية، وكانت تشعر بالإهانة بسبب موقف زوجها «غير المبالي» تجاه حياتها الروحية وصحتها. لا يسع المرء إلا أن يخمن مدى المعاناة التي تحملتها صوفيا أندرييفنا وليف تولستوي. كان ليف يحب زوجته، لكنه شعر بخيبة أمل بسبب فتورها. وهي صدمت بتجاربه. ومع ذلك، فقد نسخت أعماله بما في ذلك رواية «الحرب والسلام» بخط اليد عدة مرات بعد التصحيحات التي أجراها الكاتب، وأشرفت على إدارة القصر وضيعة «ياسنايا بوليانا» الشاسعة. كانت تحب زوجها وتغار عليه. ولكن العائلة كانت «غير سعيدة بطريقتها الخاصة.
كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب