
الحب.. سر البقاء على قيد الحياة

شهباء شهاب
كم منا قد تساءل بينه وبين نفسه لماذا نحب، أو لماذا نحن بحاجة للحب، أو هل يمكننا العيش دون حب. ومما لا يلاحظه الكثير منا أننا لا نسعى لأن نحظى بالحب فحسب، وإنما نحن بحاجة أيضا لأن نمنح الحب ونعطيه للآخرين. وهذه الحاجة يمكننا ملاحظتها عندما نقابل أطفالا صغارا، أو عندما نشاهد صغار القطط، أو صغار الحيوانات الأخرى. فالكثير منا يعبر عن مشاعر الحب تجاههم، إما بقرصة، أو تربيتة، أو قبلة على الخد، أو رغبة بالضم والاحتضان. فهذا المنح للعاطفة يجلب لنا مشاعر النشوة والفرح.
يتشارك الإنسان مع بقية المخلوقات كل النوازع البيولوجية، مثل الجوع، والتكاثر، وتصريف الفضلات، ويبقى نازعٌ واحدٌ يفترق به الإنسان عن بقية المخلوقات الأخرى ويجعله يتميز عليها، ألا وهو نزعة الإنسان، لأن يكون في تواصل مع بني جنسه. هذه النزعة نحو السلوك التواصلي هي التي تفسر حاجة الناس للانخراط في دردشات تدور في أحيان كثيرة حول تفاصيل تافهة، أو ليس لها فحوى محددة. وهذه النزعة نحو التواصل والمشاركة هي نفسها التي تجعل ربة البيت تترك جهاز التلفزيون أو المذياع يواصل البث، بينما تنهمك هي في أعمال المنزل، دون أن تبدي معظم الوقت اهتماما كبيرا بما يبث من برامج.
ومن ضمن محاولات الإنسان لفهم نفسه وماهيته هي التجربة الشريرة، التي قام بها الإمبراطور الروماني فردريك الثاني في القرن الثالث عشر، والتي كان الهدف منها اكتشاف اللغة التي يولد بها بنو البشر. فقد كان هذا الإمبراطور يظن أنه إذا تم حرمان المواليد الجدد من التعرض لأي تواصل لغوي حرمانا كاملا، فإنهم لن يتحدثوا بأي لغة عندما يكبرون، إلا بواحدة من أربع لغات هي العبرية، أو الإغريقية، أو اللاتينية، أو العربية. ولكي يثبت وجهة نظره تلك، ما كان منه إلا أن انتزع عدة أطفال رضع من حضن أمهاتهم عند الولادة، وعمد إلى وضعهم تحت رعاية مربيات منعهم منعا صارما وباتا من التحدث مع هؤلاء الأطفال الرضع، أو القيام بأي نوع من أنواع التواصل العاطفي معهم. وكذلك كان من المحظور على هؤلاء الممرضات لمس هؤلاء الأطفال الرضع، باستثناء اللمس العرضي أثناء عمليتي الإطعام والتنظيف. وهكذا فإنه فرض على أولئك المواليد الجدد العيش في عالم يخلو من أي شكل من أشكال اللغة، أو العاطفة، أو الحنان. إلا أن هذه التجربة الفظيعة لم يكتب لها أن تكتمل وترى نتائجها، لأن ما حصل هو أن جميع هؤلاء الأطفال الرضع قضوا نحبهم، بعد مضي ثلاثة أعوام على بدئها.
بعد هذه التجربة وفي عام 1248، جاء مؤرخٌ إيطالي اسمه سالمبين دي آدم، وتفحص هذه التجربة ونتائجها، وخلص إلى أن هؤلاء الرضع لم يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة لخلو حياتهم من أي شكل من أشكال المداعبة والملاطفة عن طريق اللمس. وبعد ذلك أثبتت التجارب العلمية التي تواصلت في ما بعد أن المواليد الجدد الذين حرموا من الأحضان والقبلات، ومن أي شكل من أشكال المداعبة باللمس، قد كبروا ليصبحوا أفرادا يعانون من أضرار أو تشوهات نفسية عميقة. ويسمي الطب الحديث هذه الظاهرة بعجز النماء، أو الفشل في الازدهار. وهكذا يبدو أن الإنسان ليس مخلوقا بيولوجيا فحسب، وإنما هو مخلوقٌ اجتماعي كذلك، وأنه مجبولٌ بالفطرة على أن يزدهر في ظل العاطفة والحب، وأنه يموت تدريجيا إذا خلت حياته منهما خلوا تاما. فللحب آثارٌ كبيرةٌ ومؤثرةٌ على الصحة العقلية والنفسية والجسدية للإنسان. وعلى الرغم من أن العلم ما زال غير قادر على أن يفسر ماهية هذا التأثير بشكل دقيق، إلا أننا جميعا نؤمن بأن الحب يعتبر ركنا أساسيا من أركان السعادة والتوازن النفسي. فكلنا نشعر بالسعادة والرضا عندما ننعم بالمحبة والعناية والاهتمام. فالإنسان كمخلوقٌ من المخلوقات، صمم بطريقة تجعله بحاجة لأن يترابط ويتواصل مع البشر الآخرين، لكي يكون قادرا على النمو والازدهار، فهو بحاجة لمثل هذه الروابط تماما كحاجته للغذاء والماء. فترانا ودون أن نعي ذلك، ننشد محبة العائلة والأصدقاء والجيران، ودعمهم ومساندتهم لنا، كما ينشدها الطفل الرضيع من والديه.
وللحب خمس لغات، أو أنه يمكن التعبير عن الحب بخمس طرق مختلفة. وهذه الطرق هي الحب بالكلمات، والحب بالتفرغ ومنح الوقت، والحب بتقديم الهدايا والعطايا، والحب بتقديم خدمات مختلفة، والحب باللمس. فالبشر يسلكون مسالك مختلفة للتعبير عن الحب، وكذلك هم ينقسمون إلى مذاهب شتى في الطريقة التي يفضلونها لاستقبال الحب. فالحب بين شريكين مثلا سينمو ويزدهر إذا اكتشف كلا الشريكين لغة الحب التي يفضلها كل واحد منهما. ومما لا يعرفه الكثيرون هو أن للمس أهمية أساسية في التواصل الإنساني، لأنه يعتبر أداة بارعة ودقيقة لتوصيل المشاعر للآخرين، ولكن بطريقة غير لغوية. فسواء جاء هذا التواصل على شكل مسك اليد، أو الأحضان والقبلات، أو التربيت على الكتف، أو الظهر فإنه لا يعكس إلا مشاعر إيجابية كالمحبة، أو العرفان، أو التعاطف والتعاضد، أو التقدير والاحترام. وقد يكون هذا الشكل من التعبير عن المحبة أكثر تأثيرا من الكلمات، أو من إغداق الهدايا الغالية، أو من الجنس الميكانيكي السريع. فحضنٌ دافئٌ قد يكون أكثر أثرا من ألف كلمة تعاطف تقال في هذا الموضع.
فالإنسان قد برمجه الخالق العظيم سبحانه على أن يكون تواقا للمس لأن اللمس يزيل مشاعر الألم والحزن. فمنذ الدقائق الأولى لولادة الإنسان يحرص فريق التوليد وكذلك الوالدان على احتضان المولود الجديد والمسح على جسده وتمسيده، وهذا يأتي لما للمس من أهمية للصحة الجسدية والعقلية للإنسان. فاللمس يعتبر وسيلة مهدئة ومطمئنة، وكذلك يعمل على أن يعزز التواصل الفعال، ويديم العلاقات، ويخفف من مشاعر التوتر والضغط النفسي والحزن والتعاسة. فمثلما لا يمكن للإنسان العيش بلا طعام، أو ماء، فلا يمكنه أيضا العيش بلا عاطفة، ولكن كيف يمكن خلق هذه العاطفة. هذه العاطفة تنشأ نتيجة خلق علاقة، أو رابطة قوية. فهذه العاطفة ستمنح الإنسان الثقة بأنه ليس وحيدا في هذه الدنيا، فأي طفل لن يكون نموه نموا طبيعيا لولا العاطفة التي يحصل عليها من والديه، أو من المسؤول عن تنشئته وتربيته. هذه العاطفة هي التي تمنحنا الدافع الذي نحن بحاجة له لنشق دروب الحياة، ونحقق أهدافنا. فقد أثبتت البحوث والتجارب العلمية أن الإنسان لا يمكنه أن يحيا حياة طبيعية إذا توافرت له العوامل الضرورية لنموه البايولوجي فحسب، من هواء وماء وطعام وأمن وحماية. فبالإضافة لهذه العوامل، فإن الإنسان بحاجة للعاطفة وللشعور بالانتماء لكي ينمو نموا طبيعيا.
ولكن باستعراض للتاريخ الإنساني سندرك كم تغيرت ماهية الإنسان ومنها، مكانة العاطفة والرومانسية في حياته. فبمقارنة بسيطة بين الإنسان اليوم والإنسان الذي عاش مثلا في حقبة الخمسينيات أو الستينيات أو السبعينيات من القرن العشرين، وعندما نشاهد الأفلام السينمائية، أو نستمع للأغاني، أو نقرأ الأعمال الأدبية من شعر ونثر، أو نطالع الصور الفوتغرافية لتلك الحقبة الزمنية، سنرى الفرق الهائل بين الناس في تلك الحقبة، والناس في عالم اليوم في ما يتعلق بمكانة العاطفة والرومانسية في حياتهم. فعالمنا اليوم غدا عالما ماديا إلى حد أن أصبح البحث عن الحب والرومانسية مادة للتندر وللسخرية، أو الاستخفاف، لأن الأغلبية العظمى من الناس أصبح همهم الوحيد هو تدبير البقاء على قيد الحياة، والسعي وراء لقمة العيش، وتحسين الوضع المعاشي بالانخراط في أكثر من عمل ووظيفة في الوقت نفسه، مما يستهلك طاقة الإنسان ويستنزفها حتى لا يظل عنده إلا أقل القليل من الطاقة ليعيش آدميته ويتلذذ بها.
اليوم بدأ الكثير من الناس لا يشعر إلا أنه قد تحول في غفلة من نفسه من بشر من لحم ودم وحاجات بشرية، إلى مجرد آلة صلدة باردة مجردة من العواطف والمشاعر، لا تحسن سوى العمل المضني الشاق، بل أصبح يبخل على نفسه حتى بعطلة نهاية الأسبوع، أو أي عطلة أخرى ينزع خلالها ملابس العمل الخشنة القاسية، ليستبدلها بملابس بشرية مصنوعة من المشاعر الناعمة والأحاسيس الرقيقة والعواطف الدافئة. هذا الواقع المؤلم والمخيف هو الذي أنتج بشرا لا يفكرون إلا بعقولهم، تعبث بهم شتى الأمراض والأسقام العقلية والنفسية. وقد حصل هذا لأنهم فشلوا في إدراك أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، وأن هذا هو الذي يجعله بشرا ويميزه عن سائر المخلوقات الأخرى، رغم أن الحاجات البيولوجية التي يتشارك بها معها تكاد تكون متشابهة.
كاتبة عراقية