«شخص آخر» معرض الرسامة العراقية وجدان الماجد: تجليات الحقيقة خلف الأقنعة

«شخص آخر» معرض الرسامة العراقية وجدان الماجد: تجليات الحقيقة خلف الأقنعة
مروان ياسين الدليمي
تمثِّل الأقنعة رمزًا معقدًا في العديد من الثقافات والفنون عبر التاريخ. وقد ارتبطت بالعديد من المعاني والدلالات النفسية والاجتماعية، ما جعلها جزءًا لا يتجزأ من الأعمال الفنية في مختلف الحقب الزمنية. وفي فن الرسم، ظهرت الأقنعة كأداة رمزية تعكس التعددية الشخصية، وتلعب دورًا في كشف أو إخفاء الهويات المختلفة. ويمكن فهم العلاقة بين الأقنعة وفن الرسم عبر السياقات الثقافية والدينية والتاريخية التي لعبت فيها هذه الرموز دورًا بارزًا. ودلالات الأقنعة في الفن التشكيلي تتنوع حسب السياق الذي يتم استخدامها فيه. فيمكن أن يكون القناع رمزًا للتحول أو الازدواجية في الشخصية، حيث يصبح الأفراد قادرين على ارتداء قناع لتغيير هويتهم أو إخفاء مشاعرهم الحقيقية. وقد تعكس الأقنعة أحيانًا رغبة الفنان في إخفاء أو حماية الذات. ولربما يرتدي الشخص القناع للحفاظ على خصوصيته أو للتحكم في كيفية رؤيته من الآخرين. كما أن الأقنعة في العديد من الثقافات، كانت تستخدم في الطقوس الدينية والاحتفالات الاجتماعية كأداة لتمثيل قوى خارقة أو شخصيات أسطورية. وفي بعض الأحيان كانت تمثل الاتصال بالعالم الآخر أو محاولة للتحكم في الطبيعة. أيضا في الأعمال الفنية الحديثة، استحالت الأقنعة إلى حالات مختلفة من الغموض والغرابة والسخرية والنقد، ما يمنح العمل الفني أبعادا فلسفيًة تثير تساؤلات حول الواقع والخيال والظاهر والمخفي.
تحوّلات القناع
المعرض الأخير للرسامة العراقية وجدان الماجد الذي حمل عنوان «شخص آخر» والذي أقيم في صالة «ذا غاليري» في العاصمة العراقية بغداد منتصف شهر شباط/فبراير الماضي يكرِّس شكل القناع في 22 لوحة، ليكون مفردة مركزية وثابتة في جميع اللوحات، لكن في كل لوحة يأخذ القناع مدلولا جديدا له صلة بموضوعة اللوحة، ولا علاقة له باللوحات الأخرى. فكانت هذه المراوغة التقنية في استثمار القناع من قبل الماجد تندرج في إطار سعيها للخروج بالمشهد التشكيلي في العراق إلى منطقة فنية تعيد تنظيم الصلة ما بين اللوحة والمتلقي، بشكل أكثر تماسا مع وجوده اليومي، ومن خلال تأثيث هذه الصلة تبدو رغبة الماجد في أن تُسقِط الحدود بين ما هو واقعي وما يندرج في شطحات الخيال. بذلك هي تشتغل على أن تكون اللوحة من الناحية الشكلانية فيها قوة المغامرة للخروج بها من التكنيك التقليدي في تعاملها وتفاعلها مع موضوعات لها صلة بالحياة والواقع الإنساني. واعتمادها القناع يعني أنها إضافة إلى ما تريد إيصاله من أفكار تحمل نبرة نقدية حادة وواضحة إزاء ممارسات ومواقف ومشاهد يعج بها الواقع الحياتي، فإنها تسعى أن يكتسب الشكل الذي تتأطر به الفكرة أولية قصدياتها، فما يبقى من أثر لأي عمل فني في ذاكرة المتلقي وخصوصا الرسم لا يخرج عن الشكل ومدى قوة حضوره الجمالية والتكنيك الذي يلجأ إليه الرسام لتجسيد الفكرة بشكل غير مباشر، وهذا ما جسدته لوحات الماجد باعتمادها القناع باعتباره القيمة التقنية الرمزية التي تكتسب فاعليتها الشكلية المتجددة من خلال مدلولاتها المتغيرة.
لمحة تاريخية
رغم أن الأقنعة كانت جزءًا من الطقوس الدينية والاجتماعية منذ العصور القديمة، فإن استخدامها في الرسم بدأ بشكل أكثر وعيًا مع ظهور الفن الحديث. ولكن إذا أردنا تتبع أولى البدايات التي تم فيها استخدام الأقنعة بشكل متقن في فن الرسم، فيجب الإشارة إلى القرن العشرين، خاصة مع الفنانين الذين تبنوا مفاهيم الحداثة والسريالية. ويعتبر الرسام الإسباني بابلو بيكاسو من أبرز الفنانين الذين استخدموا الأقنعة في أعماله بشكل متكرر، حيث كانت جزءًا من استكشافاته الفنية في إطار الحركة التكعيبية والفن الحديث. وقد استخدم بيكاسو الأقنعة – التي استوحاها من الفن الفطري الأفريقي – بشكل رمزي، تعبيرا عن التنوع الشخصي والتغيير المستمر في الهوية البشرية. وغالبًا ما ظهرت الأقنعة في لوحاته لتعكس طبائع الشخصيات المختلفة، كما كان يدمج الأشكال المجسمة والخطوط الهندسية بطريقة تكسر المألوف، ما منح أعماله طابعًا معقدًا وذو دلالات متعددة. واحدة من أشهر أعماله التي تحتوي على أقنعة سلسلة «رؤوس النساء» التي نفذها خلال فترة تجريبية مع فنانين آخرين. وتظهر هذه الأعمال وجوهًا محاطة أو متكيفة مع الأقنعة، ما يعكس العلاقة المتشابكة بين الداخل والخارج في الشخصية الإنسانية. وفي تجربة الماجد نجد لديها إصرارا على أن تأخذ بالقناع إلى حيث تريد أن يكون، لتمنحه انتقالة دلالية تتحرك في مسارات متغيرة المعاني، بين ما له صلة بالترميز السياسي أو الاجتماعي أو ما يقع ضمن التساؤلات الشخصية إزاء الحياة والوجود.
إشارة تمرد وخضوع
تجربة الماجد من الناحية الأسلوبية فيها نزعة واضحة وقوية لتأكيد حساسيتها الذاتية إزاء العلاقة التي تجمع الرسم مع الزمن بحالاته الإنسانية الملموسة والمحسوسة، فهي لا تريد أن تغادر اللوحة صلتها بالزمن بالمعنى الواقعي والتاريخي، وهذا الإصرار يبدو واضحا في سياق مسيرتها التي أرخت علاماتها على جدران وأعمدة وجسور وواجهة بنايات في العاصمة بغداد، وكان القناع حاضرا فيها أيضا عبر مجموعة من الشخصيات والإيقونات العامة، فكرية وفنية وسياسية وأدبية، أرادت من خلال استدعائها، الإشارة إلى التاريخ المديني بانجازاته وفاعليته والتي ما زالت متعالقة مع الزمن واللحظة التاريخية. فهي لا تكف عن تأمل الأقنعة باعتبارها قيما، ومفاهيم، وقناعات، ومواقف، دائما ما ينتجها الزمن بدلالاته الواقعية والظاهرة في مسارات الحياة العامة والشخصية. فالقناع إشارة تمرد وخضوع في آن، غالبا ما يلجأ إليه الفرد مثلما تلجأ إليه الجموع أيضا، تعبيرا عن دوافع قاهرة أو تطلعا إلى تغيير في أنماط ثابتة ضمن سياقات جمالية وثقافية واجتماعية.
البحث عن الخصوصية
ليست الأقنعة في تجربة الماجد مجرد عناصر تجميلية، أو صياغة جمالية للخروج من التقاليد القائمة في المشغل التقني لفن الرسم العراقي، بل هي رموز وإشارات وأفكار، تعكس معان ثقافية وإنسانية ونفسية واحتجاجية. من خلالها، تحاول أن تستكشف العلاقات القائمة بين الهوية الحقيقية والتوقعات الاجتماعية، إضافة إلى تأثير التحولات الشخصية والمجتمعية على الإنسان. وفي أعمال فنانين عالميين مثل بيكاسو، نجد كيف يمكن أن يكون للقناع الدور الأساسي في البحث عن الخصوصية والتفرد في الفن المعاصر، ما يفتح الباب أمام فهم أعمق للذات والمجتمع من خلال حركية التفكير والإنتاج الفني.الاشتغال على لوحات هذا المعرض استمر لمدة ثلاث سنوات مثلما أشارت الماجد إلى ذلك في حديثها للصحافة، وخلال هذه الفترة لم تكن تتوقف عن إقامة معارض أخرى ومشاركات هنا وهناك، ما يعني أن تجربة التفكير والعمل على مفردة القناع كانت تخضع لقدر كبير من المعاينة الجمالية قبل أن تقرر الانتهاء منها وإعلانها، وهي بلا شك كانت طيلة الثلاث سنوات تراقب وترصد بعين الفنان المستكشف أشكالا مختلفة ومتنوعة من المظاهر والتصرفات التي تستجد وتتجدد في المشهد العام، في سعي منها لوضعها في مشغل الرسم ومساءلتها في إطار قراءة جمالية تضع في الاعتبار تعرية ما تخفيه الأقنعة لدى البشر من قيم ومشاعر وحالات ضعف وقوة وخوف وفرح وكبت.
الماجد من مواليد بغداد سنة 1973 خريجة كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد 1995، نالت شهادة الماجستير عن رسالتها الموسومة «جدلية الصورة التخيلية والفوتوغراف في الرسم العراقي».