
عمود الشّعر الذي لم ينكسر

بروين حبيب
قبل قرابة ستين سنة كتبت الشاعرة والناقدة العراقية نازك الملائكة في مقدمة ديوانها «شجرة القمر»: «وإني لعلى يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية، بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها»، وعدّ كثيرون مقولة نازك نبوءة تحققت في العقدين الأخيرين، وككل رأي جدلي طبّل لهذا الرأي سدنة الشعر العمودي، وسخر منه دعاة التحديث الشعري، سواء من جهة الشعر الحر أو التفعيلي، وهم المعنيون بقول نازك الملائكة، أو من جهة أنصار قصيدة النثر.
وما لا تخطئه العين هو عودة القصيدة الخليلية بقوة إلى المسرح الشعري، بعد أن تراجع حضورها في الستينيات والسبعينيات بفضل تسيّد قصيدة التفعيلة، وتراجُعِ الشكلين العمودي والتفعيلي معا، أو بالحضور الطاغي لقصيدة النثر في الثمانينيات والتسعينيات، بعد أن اكتسبت إضافة إلى شرعيتها الجمالية شرعيةً تاريخية، أسس لها شعراء كبار مثل محمد الماغوط وأنسي الحاج وجماعة مجلة «شعر» على رأسهم أدونيس الذي تقلّب بين أشكال الشعر جميعها. فهل للشكل الشعري نقطة انطلاق يعود إليها كما هو حال الموضة التي تسير في شكل دوريٍّ لا مستقيم، إذ تتم دورتها في كل ثلاثين سنة تقريبا؟ أو أن لعودة الشعر العمودي أسبابا أخرى خارجية غير مرتبطة بالتطور الطبيعي للشكل الشعري المرتبط عضويا بمضمون الشعر؟
وبعيدا عن التفسير المتسرع والمغرض في أحيان كثيرة، الذي يروج له أنصار عمود الشعر من أن قصيدة النثر ظاهرة غربية ذات مرجعيات فكرية أجنبية مخالفة للذائقة الشعرية العربية، التي تربت على الإيقاع سمعيا وتناظر الشطرين بصريا، فكان لا بد لها ككل موجة أو موضة -لا فرق- أن تتراجع وهي في سبيلها إلى التلاشي، ولكن هذا التفسير الذي يقوم على أماني القائلين به ورغباتهم لا على تفسير موضوعي يستقرئ الأسباب، لا يكفي لإعطائنا جوابا مقنعا عن انبعاث الشعر العمودي في بداية هذه الألفية، الذي أرى له أسبابا متعددة أغلبها لا علاقة له بطبيعة شكل الشعر نفسه، فمسابقات الشّعر مثلا التي أصبحت بجوائزها الضخمة تُسيّل لعاب كلّ من يرى في نفسه شاعرا، ساهمت بطريقة غير مباشرة، ولكنها فعالة في تغليب القصيدة العمودية أولا، والشعر التفعيلي باستحياء على قصيدة النثر، فمسابقات الشعر الكبرى ذات القيمة المادية المغرية مثل «أمير الشعراء» الإماراتية أو «كتارا لشاعر الرسول» القطرية، ومؤخّرا «المعلّقة» السعودية، تتحيز بصفة واضحة للشعر العمودي حين تشترط مثلا عدد الأبيات في إشارة لا تقبل اللّبس، إلى أن المراد من ذلك القصيدة ذات الشطرين الموزونة، بل حتى الإلقاء في مسابقة مثل «أمير الشعراء»، هو إقصاء لقصيدة النثر الهامسة الموغلة في هامشيتها، التي تدين الظواهر الصوتية والمنبرية في الشعر، بل ترفض حتى فكرة الأمير والإمارة من أساسها. كما أن هناك جوائز شعرية تضيف بندا صريحا بعدم قبولها قصيدة النثر.
هذا الإغراء بالمال والشهرة ـ حيث القنوات تنقل هذه المسابقات لعدة أشهر ـ جعل صوت القصيدة العمودية عاليا في مواجهة تقوقع قصيدة النثر على نفسها، قانعة باختبائها في كهف الورق بانتظار قارئ يبحث عن المختلف وما أندر هؤلاء القراء، كما جعلها مرتابة دائمة من تهمة التبعية الملصقة بها، وهذا ما لخصته الشاعرة رشا عمران بقولها «تبقى قصيدة النثر بعيدةً عن دائرة الجوائز والمسابقات، ليس تعفّفا من أصحابها، كي نكون منصفين، وإنما لأن قصيدة النثر ما زالت تحال إلى مرجعية غربية».
ويجدر بنا ذكر أن المهرجانات الشعرية والأمسيات لا تزال تحتفي بإيقاع القصيدة الخليلية، التي تستقطب الجماهير وتلهب الأكفّ متكئة على ميراث ألف وخمسمئة عام من الإلقاء المنغّم الذي له نظائر لا تعد ولا تحصى في ذاكرة المتلقي يستحضرها عند سماع أوزانها فالألفة تدعو إلى التقبّل. ومن ثَمّ إن لعبة حضور القصيدة العمودية وغياب قصيدة النثر ترفع كفة وتخفض أخرى في تلقي الشعر وانتشاره.
عامل آخر في الترويج للشعر الموزون المقفى ساهمت به وسائل التواصل الاجتماعي ففي ظاهرة جديرة بالدرس تنتشر في الفيسبوك والأنستغرام آلاف الاقتباسات الشعرية المنسوبة صدقا أو كذبا إلى المتنبي وشوقي والشافعي وأبي نواس، واللافت أن فئة شبابية عريضة تتناقلها بعفوية، ودون تثبت فتترسخ في عقلها الباطني أنه ينبغي أن يكون الشعر هكذا، وهي الفئة التي أُلصقت بها شتى تهم السطحية والتغرب واحتقار الشعر، بل هناك كثير من المؤثرين قد ركبوا موجة الشعر فتخصص بعضهم وبعضهن أيضا في قراءة الشعر فقط وأغلب ما يقرؤونه من الشعر العمودي، يُلقى بصوت جهوري إذاعي من الرجال، أو متغنج هامس من النساء، ولا تهم بعد ذلك الأخطاء النحوية ولا الكسور العروضية فالمتابعون في أغلبهم لا إلمام لهم بأدوات الشعر، وبهذا يصبح الشعر العمودي بإيقاعه المموسق رافعة «للفانز» المتابعين والمتفاعلين، وأنا لست ضد هذه الظاهرة، بل أراها صحية في إرجاع الشعر إلى دائرة الاهتمام مهما كان شكله، وبأي وسيلة في زمن أصبحت التكنولوجيا إلها معبودا.
يمكن أن يضاف إلى الأسباب السابقة خاصية تفرد بها الشعر العمودي، لطالما عُدّت مأخذا رفعه أنصار الحداثة في وجهه وهي، مناسباتيّته، حيث يتّكأ الشعر الخليلي على المناسبة ويتخذها منطلقا لقصيدته، وهذا ما كثف حضوره في العقدين الأخيرين وأرجعه إلى الواجهة بقوة، وعالمنا العربي لا يخلو من مآسٍ يتداعى الشعراء للكتابة عنها، في ظاهرة جديدة أفرزها الفيسبوك تحديدا، حيث يتسابق الشعراء للكتابة جماعيا حول حدث ما، كما لاحظنا مع كمِّ القصائد التي كُتبت عن استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة أو الرسوم المسيئة للرسول، أو ما حصل ويحصل الآن في غزة، وقد صدرت عدة مجاميع شعرية لهذه المناسبة، أو تلك، وغالبية القصائد التي تضمنتها تلك المجاميع موزونة مقفّاة.
وحتى لا نظلم الشعر العمودي ونُرجع عودته القوية في الأعوام الماضية إلى عوامل خارجة عن شعريّته، لا يمكننا إنكار ظهور جيل من الذين يكتبون القصيدة العمودية استفادوا من منجزات الحداثة لتطوير تقنياتهم في الكتابة الشعرية، فأعادوا الروح إلى جسد القصيدة العربية الكلاسيكية التي أصابها النظامون في مقتل، كما صرّح أالشاعر العراقي أجود مجبل أحد النيوكلاسيكيين الجدد، والمطّلع على قصائد هذا الشاعر، أو الشاعر السوداني محمد عبد الباري، أو الشاعر اليمني يحيى حمادي، أو قصائد عديدة لجاسم الصحيّح الشاعر السعودي، يجد خصائص مشتركة تجمع بينهم أهمها التخلي عن النبرة الخطابية التي صبغت القصيدة الخليلية طويلا، والتخفف من اللغة المعجمية والصورة البلاغية القديمة، واجتراح لغة لها مجازاتها الخاصة نمثّل لذلك بقصيدة بدرية البدري الفائزة بجائزة كتارا لشاعر الرسول، فهي وإن كانت على وزن بحر البسيط الخليلي، إلا أن صورها من مطلعها «أتيتُ من هامشِ المعنى أحثُّ فَمي / علّي أراني، أنا من كُلَّهُ جَهِلا» تدل على أنها استفادت من التراكيب الحداثية وإن ألبستها إيقاعا خليليا. وقد استطاع كثير من الشعراء الشباب الذين يكتبون القصيدة العمودية أن يطعّموها باليومي والعادي واللغة المهموسة والغموض الفني والتقطيع، حسب المعنى ضمن البيت نفسه، لا حسبما تفرضه التفاعيل. فحين نقرأ من قصيدة «ما لم تقله زرقاء اليمامة» لمحمد عبد الباري: شَيءٌ يُطلُّ الآنَ مِنْ هذي الذُّرى.. أَحتاجُ دَمعَ الأنبِياءِ لِكَيْ أَرَى/ النصُّ للعرَّافِ والتّأويلُ لِيْ.. يَتَشَاكَسَانِ هُنَاكَ قَالَ، وفَسّرَا/ شَجَرٌ من الحدسِ القَدِيْمِ هَزَزتُهُ.. حَتّى قَبضتُ المَاءَ حينَ تبخّرَا. نجد أنفسنا أمام قصيدة حديثة بانزياحاتها وصورها، يسرقنا فيها المعنى من الإيقاع ونجدها أقرب إلى حداثة درويش وأدونيس من جزالة شوقي والجواهري.
لم تستطع قصيدة النثر للأسف أن تكمل مسيرتها بالزخم نفسه الذي انطلقت به، فقد تسوّر عليها كل متطفل ومبتدئ بدعوى غياب الضوابط، وتشبعت بها الساحة الأدبية كما يرى الناقد صبحي الحديدي، مع عدم تمكنها من تطوير قواعد معيارية لها. لذلك ترك تراجعها مجالا ساهم ضمن الأسباب التي ذكرناها في عودة الشعر العمودي إلى قلب المشهد الشعري لأن الطبيعة كما تعلّمنا تأبى الفراغ.
شاعرة وإعلامية من البحرين