ثقافة وفنون

فوز حمزة – ولادة في السماء…

فوز حمزة – ولادة في السماء…

هطلَ المطرُ بغزارةٍ على غير عادته في مثل هذا الوقت، لم أكن أحمل معي المظلة، فدخلت أول مقهى صادفته عند ناصية الشارع إتقاءً للبللِ وللريحِ التي بعثرتْ كل شيء دون رحمة، اخترتُ الجلوس قرب النافذة ليتسنى لي مراقبة حبات المطر وهي تمتزج مع أوراق الشجر، والأغصان المتشابكة لترتمي بعدها في حضن الأرض، فتمضي إلى نهايتها دون ألم، دون عزاء. أغمضتُ عينيّ أصغي لها وهي ترددُ أغنية حب موعودة، شعرتُ بالسلامُ من حولي محاولًا استنشاق رائحة الأرض المنتشية، ما إن فتحتها حتى كانت المفاجأة.
وجدتها تجلسُ قبالتي مبتسمة، امرأة جمالها يجعل الوقت يتأرجح، تذكرتها على الفور. إنها زميلتي في المدرسة الثانوية، قالتْ لي بمرحٍ وهي تمسكُ بيد فنجانَ قهوةِ، وفي الأخرى سيجارة على وشك الانتهاء:
– هل ما زلتَ تعشقُ المطر؟ كيف لم تنتبه لي حينما دخلتَ أيها المجنون؟! ربما العشر سنوات التي مرتْ منذ آخر لقاء بيننا هي التي جعلتك تنسى!
قلتُ لها والدهشة ما زالتْ حاضرة بيني وبينها:
– يا للمفاجأة!
نظرتُ إليها أفتشُ في ملامحها عن أثرِ السنواتِ التي مرتْ، لم أجد سِوى أنها ازدادتْ جمالًا.
– هل ما زلتَ تشاكسُ الفتيات؟
– وأنتِ، هل ما زلتِ شقية؟
رأيتُ في بريقِ عينيها حديثًا يشبه حديث الصمت وقت الغروب، لم تعد تلك المراهقة المشاغبة، بل شابة زادها الحياء ألقًا.
انعكاس لهب الشمعة المضيء على وجهها، أخبرني أنني أمام سيدة من طراز خاص، كأنني أراها للمرة الأولى، لقاء دبره لنا سيد المطر حين كانت حباته تتناسل في السماء.
سألتني عن بعضِ زملاء المدرسة، ذكرتْ بمرح ما كنا نفعله بالمدرسين، أما أنا دفعني فضولي الذي يقفُ على رؤوسِ أصابعهِ أن لا أسأل عن أحد سواها، أردتُ معرفة كل شيء عنها، فحدثتني عن عملها في شركة للتأمين، وعن أخيها المهاجر منذ أعوام، وطلاقها بعد زواج دام سنتين دون أن تنجب.
وهي تتحدثُ، شعرتُ بالأفقِ يرتعشُ فوق حاجبيها، وبنبضاتِ قلبي تسجلُ ذاكرة جديدة.
تطلعتُ للنافذة التي لم تعد الرؤية ممكنة من خلالها بفعل قطرات الماء التي تجمعت عليها، سألتني ضاحكة:
– هل تتذكر اليوم الذي رقصنا فيه مع أصدقائنا تحت المطر في باحة المدرسة؟ منظرنا كان يثيرُ الضحكَ، ليتها تعود تلك الأيام!
تدفقَ مني شلال حنين لذكرياتٍ كنت قد نسيتها منذ زمن، قلتْ لها:
– ربما هي نفسها حبات المطر عادتْ ثانية لأمر ما!
في المساء، شعرتُ بِحاجتي لسماعِ صوتِها المفعمِ بالأنوثة، قلتُ لنفسي: ربما سبب هذا الشعور تلك الذكريات الجميلة التي أججتها رؤيتي لها، اتصلت بها لأجد في نبرة صوتها رنة للحياة تنفذ إلى داخلي بصمتٍ، ومع كل كلمة دخلت أذني، همستْ لقلبي، ثمة حكاية جديدة تغطي على المشهد كله.
تكررت لقاءاتنا التي أخذت ترسم هالات حولنا، تمنحنا تقاطيع وجه جديدة، رغبة في الحديث ولدتْ داخلي حتى لو كان هذا الحديث عن غابات أفريقيا البعيدة، أو بائع متجول قابلناه في الطريق، أو حربًا ستقوم بعد مائة عام، المهم أن يبقى الحبل السري ممتدًا بيننا، ليمنحني شعورًا بالحياة ويربطني بالنهار.
هذه المشاعر لم تمنع القلق ليلعب معي لعبة الأسئلة، لماذا الآن؟ لقد كانت أمامي سنين طويلة ولم ألتفت إليها.
عليّ فهم نفسي قبل أن أخطو لاتخاذ أي قرار، ابتعدتُ شهرًا كاملًا متعللًا بالسفر، رهنتُ الأيام بيننا، فأما عودة للوداع، أو حضور يبين لنا المغزى.
لقائي بها كان صدفة وضعتنا بين أيدينا ومضت.
جاءني صوتها عبر الهاتف فأوحى إليّ بالتوقفِ عن طرحِ الأسئلةِ الغبيةِ، أن أتنبأ بعشقٍ ولدَ تحتَ جناحِ غيمة، فحملته بشائر المطر.
قلت لها:
– أنا وحدي، وأنتِ؟
أجابتْ:
ـ أنا أيضًا وحيدة، لكنّي أمزجُ الألوانَ!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب