ندوة عن «السلطة والدين والعنف»… قراءة في زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي

ندوة عن «السلطة والدين والعنف»… قراءة في زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي
محمد عبد الرحيم
كاتب مصري
القاهرة ـ
«بناء الدولة الحديثة كان في أصله لا يختلف كثيراً عن الجريمة المنظمة… ومؤسسو الدول بمثابة بلطجية كُتب لهم النجاح». لماذا نعاود قراءة نصوص تاريخية من العصور الوسطى ـ كما اتفق على تسميتها ـ ولماذا عصر الحاكم بأمر الله؟ هل لتشابه تلك الفترة وما نعيشه الآن؟ وهل لاختلاق إسقاطات وتفسيرات تتوافق ووقتنا الحالي؟ كلها أسئلة تدور حول كتاب «السلطة والدين والعنف.. قراءة في تاريخ يوحنا بن سعيد الأنطاكي» للباحث والأكاديمي الاقتصادي عمرو إسماعيل عادلي، الصادر مؤخراً عن دار صفصافة للنشر، وقد أقيمت ندوة في مقر الدار لمناقشة الكتاب وصاحبه، شارك فيها الباحث التاريخي حسن حافظ. وسنستعرض بعض ما جاء في الندوة، وكذا بعض النقاط المهمة التي ناقشها الكتاب.
كيف كان يعيش هؤلاء
بدأ المؤلف حديثه بالتحذير من محاولة قراءة متحيزة، سواء بالإسقاط المباشر على العصر الحاضر، أو المقارنة بين ما كان وما هو كائن، كما يفعل الأصوليون أو القوميون، فالأمر لا يتعدى محاولة فهم تلك العصور من خلال النصوص التي وصلتنا عنها، لعلنا نفهم شيئاً عن تلك الفترات. فهو محاولة للتواصل والفهم مع عالم لا نعرف عنه الكثير. فالبحث عن مساحات التشابه والاختلاف هو جوهر محاولة تطبيق أدوات التحليل السوسيولوجي والسياسي لتحليل العلاقات الاجتماعية بين الحكام مع بعضهم بعضا، وبين الحكام والمحكومين، وكذلك بين المحكومين أنفسهم، أي إعادة بناء العالم الاجتماعي لهؤلاء الذين عاشوا في شرق المتوسط قبل ألف سنة، كالتي عايشها وانتمى إليها يحيى بن سعيد الأنطاكي.
ويوضح الكاتب أهمية النص محل البحث بأنه النص الوحيد الذي وصل إلينا من عصر الحاكم بأمر الله الفاطمي، فذلك العصر الذي دوّن له الأنطاكي كان شديد الاضطراب في شرق المتوسط وازدحم بحركات دينية وتقلبات عسكرية، كما كان ذروة قوة الخلافة الفاطمية سياسياً وعسكرياً ودعوياً. فالأمر باختصار محاولة لمعرفة كيف كان يعيش هؤلاء.
الأنطاكي
هو يوحنا (يحيى) بن سعيد الأنطاكي، عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر، وتوفى 1066 ميلادية عن 91 سنة. ولد في مصر وينتمي إلى طائفة الملكانيين المعروفين اليوم بالروم الأرثوذكس، وهي طائفة صغيرة بين المصريين اليوم، عما كانت عليه قبل ألف عام. وقد أصبح بطريرك الإسكندرية. كان الرجل أحد مثقفي عصره وأحد أعضاء النخبة المثقفة بمفهوم اليوم. وعلى هذا حسبما يقول الكاتب، فالأنطاكي وأشباهه كانوا يكتبون لجمهور محدود، أو بمعنى أدق في حيز ضيق مغلق على أصحابه من النخبة، فلم تكن هناك بعد طباعة كتب.
أولياء ونخبة
«على غرار ألف ليلة وليلة، فإن المشاهد والفصول التي يوردها الأنطاكي إلينا تجمع العوام جنباً إلى جنب، مع من يحكمونهم. وكما هو متوقع فإن العامة بلا أسماء، بل مجرد أعداد أو مجموعات يُشار إليهم تارة بالأهالي، أو الرعاع والدهماء والغوغاء في أحداث الحرب والجوع والأوبئة، وقد يأتي ذكرهم ضمن كيانات تجمعهم على أساس قبلي أو طائفي أو حرفي، لكنهم حاضرون بشدة في الخلفية». ورغم ذلك فالأنطاكي «لم يكتب تاريخاً اجتماعياً وثقافياً لعصره، فهذه المفاهيم لم تكن موجودة في إدراك نخبة ذلك العصر لما هو التاريخ، الذي كان بالنسبة لهم تدوين وتسجيل الأحداث المهمة، التي كانت تمس عادة إما الملوك والأمراء والأباطرة أو رؤساء الطوائف الدينية، باعتبارهم امتداداً لسلسلة الأنبياء والأولياء والقديسين والآباء الكهنة».
الدولة
لم تكن فكرة الدولة هي نفسها في ذلك العصر، لم يكن مفهوم الدولة الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية هو نفسه في تلك العصور.. فالمشترك بين التنظيمات السياسية قديمها وحديثها أنها تقوم جميعا على مبدأ السلطة التي تعطي لمجموعة أو لشخص أو لمؤسسة سلطة على الباقين. فالسلطة التي يتحدث عنها الأنطاكي هي لدولة بمعنى السلطة ما قبل الحديثة، الممتدة جغرفياً بشكل إمبراطوري.
السلطة
ومن الدولة إلى السلطة، حيث تظل شرعية (الفتح) والتغلب قائمة مع الفاطميين وغيرهم، في مصر وحوض المتوسط وأوروبا والهند وغيرها، لأن النمط كان قدرة مجموعات محدودة عددياً في التنظيم عسكرياً، وإخضاع عدد أكبر من السكان غير المنظمين عسكرياً.. «ورغم أن العنف يظل في الخلفية دائماً، إلا أن التأسيس له يقتضي درجات من القبول والتعاون بين المغلوبين والغالبين، يزداد ترسخاً و(تطبيعا) مع مرور الأجيال ليتحول ببساطة شديدة اعتياد وجود هؤلاء في السلطة». فالسلطة في تلك العصور لم تكن غالباً مباشرة، وكلما زاد عدد مَن يخضعون لها، زادت الحاجة إلى الوسطاء، وهو ما يفسر قيام بعض القادة والأمراء بلعب دور الوسطاء بين الأسرة الحاكمة، ومجموعات أساسها العصبيات قبيلة أو جهوية أو عرقية، هؤلاء الوسطاء بدورهم كان يتم التنافس بينهم في استخراج الموارد والسيطرة على السكان بين المركز وقادة الأطرف، وهي علاقة متوترة فالكثير من قادة الأطراف سعى للاستقلال أو على الأقل التمرد على المركز.
الدين
من ناحية أخرى نجد أن الدين ـ سواء المسيحي أو الإسلامي ـ قد أسس داخل كل كيان سياسي أساساً لادعاء الشرعية للحكام، لذلك نجد مدى تقاطع نشأة الدينين العظيمين، وانتشارهما مع مشروعات السلطة السياسية بأشكال مختلفة ومتحولة من زمن لآخر على مدى قرون طويلة.. ولكن بقدر ما أسس الدين لشرعية الحكام فإنها كانت في الوقت نفسه أرضية للمعارضة والتمرد والصدام، مع ملاحظة أن قبول التعدد الديني بصورة مؤسسية كان أسهل من قبول التعدد المذهبي داخل الدين الواحد، خاصة إذا كان أصحاب ذلك الدين هم أصحاب السلطة الحاكمة… وسيكون هذا أشد وطأة في حضور مشروعات مذهبية متنافسة كتلك التي كانت قائمة بين العباسيين والفاطميين في فترة حياة الأنطاكي، التي أنتجت حركات دينية عدة لها مشروعات سياسية متصارعة 37.
الهويات الدينية
يُشير المؤلف إلى أن فكرة الهويات الدينية لم تكن كما نعرفها اليوم، بل كانت هويات «مائعة حتى التداخل والتمازج»، فالمسلمون يتشاركون احتفالات الأقباط في الشوارع، وصدور مرسوم من الحاكم بأمر الله بمنع هذه الاحتفالات كان موجهاً إلى النصارى والمسلمين معاً. ويرجع ذلك إلى أن «المعرفة الدينية كانت في حوزة نخب محدودة العدد نسبياً، يعملون بالقضاء والكتابة والفقه، ويعيشون في الأديرة ويعمرون الكنائس، ما وضع قيوداً على مشاركة تلك المعارف الخاصة بالعقائد والعبادات بين أعداد كبيرة من الناس، خاصة ممن يعيشون في الأرياف والبوادي.. وحتى في المدن هناك اختلاط في الأعياد والمواكب، وتداخل في العبادات والممارسات الدينية، إلى حد الخلط بين الأولياء الصوفيين والقديسين المحليين. فالمسلمون على سبيل المثال كانوا يُشاركون النصارى الاحتفال بعيد الغطاس، ويقومون معهم بالغطس في مياه النيل… وإلى حين اختراع وانتشار الطباعة لا يبدو أن عامة الناس كانت لهم هويات دينية متماسكة ومتسقة».
المواطنة
لم تكن تصورات (المواطنة) موجودة قبل ألف سنة للتأسيس للجماعة السياسية فإن وجود وسطاء على خطوط طائفية أو عشائرية أو جهوية كان أمراً معتادا، ولكن المثير للانتباه أن يستمر هذا الدور الوسيط لبعض رؤساء الطوائف الدينية في سياقات تدّعي الحداثة، وتقول إنها تعلي من قيم المواطنة، كما هو الحال في بعض البلدان العربية… والعجيب أن تقوية نفوذ الوسطاء من رؤساء الطوائف الدينية يتم الترويج له على أنه من باب الاعتراف بالأقليات الدينية، وهو ما يعيد إنتاج الترتيب الموروث من العصور الوسطى. يعني هذا أن هويات ما قبل الحداثة كانت تتمتع بدرجة كبيرة من السيولة، فلم يكن هناك شيء داخلي يجعل من أحدهم عربياً أو أرمينياً، سواء بالنظر إلى تكوينه الجيني أو لانتمائه الجغرافي، فهذه كلها تصورات وافتراضات حداثية، ويكشف نص الأنطاكي أن القومية واللغة والعرق كانت مسائل ثانوية مقارنة بالدين أو المذهب، الذي كان بدوره يُنتج هويات شديدة التعدد والتفتت، وفيها قدر كبير من السيولة. مع ملاحظة أن الانتقال بين الأديان كان كثير الحدوث، ولم يكن يُطبق حد الردّة في حالة مغادرة الإسلام.
العنف
كان العنف سبيلاً أساسياً لإعادة توزيع الدخول والثروات، وأنه كان تارة غير منظم كما نراه في قطع الطرق والإغارات من مجموعات من المجرمين، وتارة أخرى منظم في صورة جيوش وأساطيل وإدارات وأبنية سلطة هرمية تبلغ ذروتها في تنظيمات ممتدى جغرافياً كالتي نطلق عليها إمبراطوريات، هي بصورة ما نُظم للجباية والاستخراج… لكن في الوقت نفسه فإن خطوط ممارسة ذلك العنف ودرجاته وضوابطه كانت محددة بعوامل أخرى ليست بالضرورة اقتصادية، على رأسها الهويات المحلية، أو هويات تسعى لكي تكون عالمية كالدينين الكبيرين المسيحية والإسلام.
أما العنف الطائفي فكان إما بتحريض من السلطة السياسية في بعض الأحيان لتحقيق مصالحها، أو مع انهيارها تماماً. ومن العجائب التي يذكرها الأنطاكي، الذي يوضح أن هذا العنف لم يكن بالضرورة موجهاً لطائفة مختلفة الديانة، ما حدث في حالة رجل من طرطوس فرّ من هجمات الروم إلى مصر، ثم عاد وكوّن ما يُشبه ميليشيا محلية من المسلمين، تحت زعم الإغارة على أطراف بلاد الروم، ولكنه قام بقتل حاكم أنطاكية الكردي المسلم والاستيلاء عليها، وكان الرد هو زحف الروم على المدينة واستيلاءهم عليها!
ونتجاوز العجب إلى العُجاب وقد سلحت السلطة السياسية عامة الناس في بغداد بقصد السير للقاء الروم، وأخرج الحاجب لهم الأسلحة والحراب، إلا أن ذلك عاد بالفساد، وجرّأ العامة على إظهار السلاح، فتحزبوا، وصار أهل السُنة طائفة والشيعة طائفة أخرى، ولعن بعضهم بعضا، وتركوا ذكر الروم وأعرضوا عنه جانباً، وصارت بينهم حروب عظيمة، ووقع القتل في الفريقين، ولكن ماذا فعل حاكم بغداد لمواجهة الأمر؟ ببساطة قام بإحراق المدينة بمن وما فيها، بمعنى.. جاب عاليها واطيها!
الحاكم بأمره
ونأتي إلى ذكر الأنطاكي لأحوال الحاكم بأمر الله، وهو الخليفة الأكثر غرابة في سلوكه، حتى إن المصريين يذكرونه حتى الآن مقروناً بالغريب والشاذ من التصرفات، وأشهرها منع أكل الملوخية، والعمل ليلاً بديلاً عن النهار. ولكن الأنطاكي في كتابه يسرد غرائب الرجل كونها تصرفات خارجة عن المألوف، كارتداء الصوف وركوبه الحمير بدلاً من الخيل، والسير بين العامة دون حُجّاب، وتلبية مطالب وشكاوى الناس مباشرة. كان هذا في نظر الأنطاكي يصل حد الاختلال، فهو ليس من باب التواضع، بل الخروج عن المألوف. فهو على سبيل المثال منع شرب الخمر وتصنيعه، ومنع الراقصات ومظاهر الخلاعة والمجون، حتى إن معظمهم أتى إليه فاستتابهم وأعطاهم الأمان. كل هذه المظاهر تدل على سلوك حاكم زاهد في بداية حُكمه، ومتنصلاً من كل مظاهر الحكم الموروثة عن الأمويين والعباسيين. ولكن لكل هذه المظاهر جانب آخر يتناقض معها، كالهوس بالسلطة وقتل المقربين إليه من رجال الدولة والجيش، وإلزام النصارى واليهود بلبس العمائم السود، كتشبيه لهم بالعباسيين ألد الأعداء للفاطميين، دون نسيانه اضطهاد المسلمين السُنة، فهم لم يكونوا أغلبية، بل طائفة ضمن طوائف أخرى كثيرة، إضافة إلى إجبار بعض النصارى بالدخول في الإسلام، ثم قبول طلبهم بالعودة إلى المسيحية، مع تعليق حد الردّة، وصولاً في النهاية إلى ادعاء الرجل الألوهية. ما دعى الأنطاكي لوصفه بأنه كان مصاباً بالمالنخوليا.
«القدس العربي» :