
أحمد أمين في «حياتي»: رحلة كفاح بلا هوامش شخصية

حسن داوود
في سنة 1950 أصدر أحمد أمين كتابه الذي يسرد فيه قصة حياته. كان في الرابعة والستين آنذاك، متقاعدا إلا من أعمال متفرّقة لا تلزمه دواما جبريا قاسيا، ومتابعة لأحوال صحّته وعائلته. وإذ أطلق على الكتاب عنوان «حكايتي» فذاك يعني أنه لا شيء جديد سيطرأ من بعده. فها هو، في الصفحات الأخيرة منه يقف مطوّلاً عند العملية الجراحية القاسية التي أجريت لإحدى عينيه، كما يقف عند الجلطة الدماغية قليلة الأثر التي أعقبت ذلك، بالترافق مع ذكره لما حقّقه في القضاء والتعليم وعمادة كلية الآداب ورئاسته لهيئات أدبية ولغويه عدّة.
حين امتدّت يدي للإمساك بالكتاب الذي لا أعرف، إن كنت قرأت بعضه، وحلّ في مكتبتي من سنين، لا أذكر عددها، كنت أقصد أن أقرأ ما يريح، والسيرة الشخصية أو رواية الحياة غالبا ما تعد بذلك. لم يكن دافعي إلى البدء بالقراءة زيادة التعرف على أحمد أمين، فهو الأقل استدعاء حين نأتي إلى تذكّر كتّأب تركوا أثرا فينا، بل أحسب أن هذا ليس إهمالا من جانبي ما دام أنه بات الآن قليل الحضور في الحياة الأدبية من بين أسماء مجايليه.
في ما يتعلّق بي ارتبط أحمد أمين بفترة كان كل ما أقرأه فيها متعلقا بالأدب والشعر العربيين. وإذ أرغب في قراءة يومياته الآن، بعد ذاك النسيان الطويل، أجد أن ذلك يعود إلى رغبتي في العودة إلى ذلك الزمن، إلى لغته وأفكاره وصلة جيلي به.
أو ربما أحببت أن أقرأ ما يشابه كتاب «الأيام» لطه حسين، ذاك الذي أضفى لمسات ملطّفة على صرامة الكتابة آنذاك. وقد جايل أحمد أمين، طه حسين، بل ترافقا في عملهما بالأدب ومؤسّساته القائمة والفاعلة آنذاك في سنوات النصف الأول من القرن الماضي. لكن الكاتب الحاضر والمؤثر آنذاك، عميد الأدب العربي ووزير المعارف، لم يرد ذكره إلا قليلا في هذا الكتاب، أي أقل بكثير مما كان حضوره مهيمناً على الثقافة في مصر وفي عالم العرب.
أصدر طه حسين «الأيام» في سنة 1927 وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، فيما صدر كتاب أحمد أمين قبل سنتين من رحيله. ولا شك أن كتاب طه حسين ألهم كاتبنا، بل ظل ملهما إياه لأسباب ليس أقلها الشهرة التي حظي الأول بها. لكن الكتابين يختلفان في المسحة الأدبية التي يمكن أن يلمس لطافتها، ابتداء من الصفحة الأولى، قرّاء من صار بعد ذلك عميدا للأدب العربي. أما أحمد أمين فكانت ميوله متوزّعة بين دراسته في الأزهر وتوقه لنوع دراسة مختلف. وهو ظل طيلة حياته متنقلا بين الوجهتين، أو أن تربيته المحافظة ظلّت حاضرة في وعيه وسلوكه حتى آخر أيامه.
ما لا يتوقف أحمد أمين عن ذكره والتوسع فيه هو دراسته على يدي أبيه أولا، ثم في كتّاب القرية الذي يصفه وصفا مفصّلا، وهو يستمر في ذلك في مراحل تنقله من الدراسة في الأزهر إلى انتقاله للدراسة في الجامعة. وكذا يفعل في تنقله بين الوظائف والمهام المختلفة. كأن الحياة لم تنحرف لحظة عن السعي إلى التحصيل العلمي. لا ذكر للرغبات إلا تلك التي تتصل بما يحمله إلى مراتب دراسية وعلمية متتالية. السياسة، وقد رافق تحولاتها، وهو عرف رجالاتها الذين من بينهم سعد زغلول ومصطفى كامل، لم تبعده عن سعيه ذاك. كما أنه لا ذكر للنساء في ما كتب، لا حضورا ولا رغبة، وهو أجهد قارئيه بإعمال الظنّ إن كان يشعر بشيء تجاه النساء البريطانيات اللواتي تطوع بعضهن لتعليمه اللغة الإنكليزية. لم يقع في غرام ولم تؤرّق امرأة لياليه، حتى إنه ترك لغيره أن يختار له زوجة أتى بالكاد على ذكرها في سيرته، مع أنها ظلت ملازمة له طيلة حياته.
كما لو أنه ظل ابناً ملتزما بالوصايا التي أملاها عليه والده، معلّمه الأوّل. كان سلوك ذاك الابن محافظا بكل ما له علاقة بسلوكه الشخصي والفكري، بحاثا ناقبا مجتهدا لم يجد لذة إلا في العمل. لهذا كان يفكّر دائما في ما يحتاجه لبلوغ المرتبة الأعلى. يقول مثلا، هو الذي لم يعرف من اللغات إلا العربية، إن الكاتب بات من الضروري له أن يجيد إحدى اللغتين، الفرنسية أو الإنكليزية. بدأ بالأولى فلم يستطع مجاراة تعقّدها فتحوّل منها إلى الثانية. وهو، بعد أن أجادها، بدأ بترجمة مصنفات منها والسفر إلى البلدان، التي في وصفه لها، لم يكن إلا الرجل العصامي الراغب في المعرفة، أما المتعة فتأتي عرضا. كان في الأربعين حين سافر لأول مرة، إلى تركيا أولا، ثم، في الرحلة ذاتها زار سوريا ولبنان والعراق والحجاز، وهذا ما راح يطلق عليه الرحلة الى الشرق، مقابل رحلته، أو رحلاته، إلى الغرب التي شكلت فرنسا طليعتها، ثم بريطانيا وهولندا وسويسرا إلخ..
هو كتاب عن الحياة في ذلك الزمن، وعن التكوين الشخصي والأخلاقي لرجل كان عليه أن يبذل كل ذاك الجهد ليصل ويتفوّق، لكن لكي يبقى، في الوقت ذاته، على الأصل الذي كان عليه.
*كتاب «حياتي» صدر ضمن سلسلة «روائع السيرة الذاتية» من مشروع «مكتبة الأسرة» بإشراف «الهيئة المصرية العامة للكتاب». لا ذكر لسنة الصدور، أما عدد صفحاته فهو 367 صفحة.
كاتب لبناني