عاصفة بوهلر: معادلة السيد والوكيل

عاصفة بوهلر: معادلة السيد والوكيل
صبحي حديدي
غير مستبعد أن السبب الأكبر وراء محاق آدم بوهلر السريع لم يكن عقد جلسة مفاوضات واحدة، يتيمة، مع “حماس” حول إطلاق سراح الرهينة الإسرائيلي ــ الأمريكي عيدان ألكسندر؛ رغم منطق بسيط يخوّله إجراء تلك المباحثات من واقع وظيفته كمندوب من الرئيس دونالد ترامب شخصياً، ومن مبعوثه الخاصّ إلى الشرق الأوسط ستيف وتكوف. خطأ بوهلر الأشنع في ناظر الحكومة الإسرائيلية أوّلاً، ثمّ خطيئته العظمى لدى غلاة مناصري دولة الاحتلال في الكونغرس الأمريكي تالياً، كان تصريحاً لا يتجاوز 12 كلمة في الأصل الإنكليزي: “نحن الولايات المتحدة، ونحن لسنا وكيلاً عند إسرائيل”.
وليس الأمر أنّ موظفاً ثانوياً، تنفيذياً وليس صاحب قرار في نهاية المطاف، منح لسانه جسارة قصوى في أن يقلب، رأساً على عقب، 77 سنة من الوكالة والتوكيل والتوكّل بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، فحسب؛ بل ذهب أبعد، في سلسلة تصريحات للصحافة الأمريكية والإسرائيلية، حين اختار إطلاق صفة “الرهينة” على السجناء الفلسطينيين لدى الاحتلال، وصفة “السجين” على الرهائن الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية. الأدهى، في معمعة اللفظ والتلّفظ هذه، أنه انتهج مقاربة “إنسانية” تجاه الصفتَيْن معاً؛ فتحدث هكذا: “الأكثر نفعاً هو الإدراك بأنّ كلّ فرد إنسان، والتماهي مع العناصر الإنسانية لهؤلاء الناس، والبناء انطلاقاً من هذا”.
التطورات التي أعقبت “خطيئة” بوهلر جديرة بتسجيل حكاية أخرى تجمع المهزلة بالمأساة في طرائق تسيير العلاقات الأمريكية ــ الإسرائيلية، وما تتخذه من أنماط وسياقات وتجليات، حتى حين يكون سيد البيت الأبيض أحد الرؤساء الأمريكيين الأقرب إلى دولة الاحتلال. وهكذا تلعثم ترامب حين سعى إلى تبرير سلوك بوهلر، بالقول إنه إنما يفاوض من أجل رهائن إسرائيليين في نهاية المطاف. وزير الخارجية ماركو روبيو اختار صيغة دفاعية لا تقلّ ركاكة، فذكّر بأنّ بوهلر عقد جلسة مفاوضات واحدة فقط مع “حماس”. وتكوف، المقرّب من ترامب وشريكه في لعبة الغولف، اكتفى بالتشديد على أنّ عمل بوهلر لن يتجاوز تقديم المشورة. الأطرف، في هذا المزاد العلني، ما فعله “الخاطئ” نفسه: سحب ترشيحه من المنصب، بما يكفي الجميع شرّ الاقتتال!
الصحافة الأمريكية من جانبها لم تقصّر في الإدلاء بدلوها، على غرار ما فعلت “وول ستريت جورنال” مثلاً، حين فسّرت لجوء بوهلر إلى سحب ترشيحه من باب حرصه على عدم الإضرار باستثماراته وأمواله لدى شركات يشغل فيها مناصب تنفيذية؛ أو “واشنطن بوست”، التي فضّلت ترحيل مزايا بوهلر التفاوضية إلى منطقة أخرى بعيدة عن الأنواء الإسرائيلية، فاستعرضت مهاراته في إطلاق سراح سجين أمريكي في روسيا وآخر في روسيا البيضاء.
وآخر مستجدات الحكاية اتخذ هيئة التفريق بين وظيفة بالانتداب سوف يشغلها بوهلر الآن، ولا تتجاوز رفع التقارير إلى الرئيس شخصياً من موقع موظف عادي في البيت الأبيض؛ وبين وظيفة سابقة (باتت الآن رجيمة ومرفوضة إسرائيلياً) هي “المبعوث الرئاسي الخاصّ حول شؤون الرهائن”، أو الـSPEHA، التي تحتاج إلى إقرار من لجان الكونغرس المختصة.
المعلّق الإسرائيلي تسفي برعيل شاء، في صحيفة “هآرتز”، اختيار فصل آخر من الحكاية، فتخيّل أيّ “بركان نتن كان سينفجر من أنبوب المجاري” لو جرت واقعة التفاوض بين بوهلر وخليل الحيّة في عهد الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن؛ متغافلاً، عن سابق قصد أغلب الظنّ، عن وقائع أنابيب شتى واصلت الانفجار في وجه بايدن، مع فارق أنّ الكثير منها كان من صنع يديه، بمطارق وأزاميل حملها كبار الموظفين أمثال أنتوني بلينكن وجيك سوليفان، وليس صغارهم.
وفي السجلّ الحافل لمعادلة السيد والوكيل في العلاقات الأمريكية ــ الإسرائيلية، ليست العاصفة ضدّ بوهلر أكثر من غبار تصاعد، ثمّ آل إلى استكانة وركود.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس