ثقافة وفنون

ان تكون في بغداد في يوم الشعر

ان تكون في بغداد في يوم الشعر

حاتم الصكَر

بغداد والشعراء والصورُ..

لطالما ردد العراقيون بفخر وإعجاب، في أزمنة عُسرهم الكثيرة، ويُسرهم النادر، شطرَ البيت الذي يتصدر قصيدة الرحباني، وبصوت فيروز الملائكي الذي لا يخلو منه بيت بغدادي كل صباح، مرافقا الطلبة للمدارس، والساعات الأولى من يوم جديد، كلما دارت بالزمن دورته.
هذه المرة سأردد مع نفسي شطر ذلك البيت، وأنا ببغداد.
وعلى مقربة زمنية من يوم الشعر العالمي المحتفي بكيان الشعر الذي لا يستوعبه عام، ولا يحدُّه زمن. متزامناً في اليوم نفسه مع عيد نوروز، عيد الربيع، حيث يحتفل العراقيون من الشمال إلى الجنوب بظهور الورد الجديد، علامة على بدء فصل قصير في التقويم، لكنه عميق الدلالة في الذاكرة منذ قرابة ثلاثة آلاف عام… نيران وشموع وآسٌ وموائد طعام ونزهات خارج المنازل، واحتفاء فطري وتلقائي بالغ الحميمية والعذوبة. ولا يمنع من ذلك ارتفاع الحرارة فجأة، حين تعتلي الشمس سماء ًصافية، وتعبث لاهية فوق الرؤوس، تذكّر بانقضاء البرد وشجونه.
ومن جملة مصادفات موضوعية فريدة، كأنها عطايا المدينة، معتذرةً لابنها الذي جرحتْه بفلذة من كبده، ضاعت في رياح الكراهية الكريهة بلا سبب، وتركت أعمق الندوب..

****

ما مغزى أن تكون ببغداد ثانيةً، بعد عام من زيارة سبقت، وشهدت مناسبة شعرية أيضاً؟
كنت قد شهدتُ المربد الذي انعقد في مكان السوق الشعري العتيق، حيث البصرة تستذكره كل عام.
توزَن القصائد بجانب الغذاء والثياب، والعدّة اللازمة للعيش، وللسقاية، والماشية، والخيام.. تتظلل بفيء النخيل الشامخ والحاضر بكثافة.. اختفت معالم السوق المربدي، وأفلتت القصائد من الميزان الذي رحل مع اللوازم القديمة من حبال وأعمدة وخيام.
سوق آخر كان في مربد البصرة تعالت فيه الأصوات وتداخلت الأجيال، وكان الشعر من بين أشياء كثيرة، يصعب التعرف عليه ومصافحة وجهه.
ضاق المنبر، واختفت الخطابة. لكن الشعر يوجد حتى في أدق الأمكنة وأضيقها وأبعدها عن سماته.

****

للعبور من كرخ بغداد حيث أنزل في بيت أخي، إلى رصافتها، لابد من ملاحظة هذه الجسور التي تتقوس فوق النهر الجاري، شاهداً على تقلبات الحياة: المياه تجري مترعة الآن. فالأمطار التي فاجأت بغداد ومحافظات العراق، قد أغرقت كل شيء: الشوارع والحدائق والسطوح، وفاض بها وجه النهر الذي استعاد رواءه بهذا الوابل المنتظر.

وهي بغداد/

المفردة المتصدرة لوح الذاكرة. بها تبدأ جملة الاستعادة. لا شك بوجود غصة ما. أن تكون بمدينتك زائراً، وأن تمر ببيتك القديم، تتحاشى النظر لما آلت إليه الشجيرات الذابلة على سوره ونوافذه. وتسمرت الساعات التي كنت تقضيها ساهراً وراء منضدة الكتابة، في غرفة المكتبة المطلة على الحديقة. كأنك تبعد الشجن الجارح، حيث لم يبق من مكان تنغرز فيه وخزاتُه المؤلمة.
حفاوة الأهل الذين يكبرون وتزداد لواعج لقائهم بشوق، والأصدقاء شعراء وكتاباً وفنانين وإعلاميين تزيد لوعة الموقف. بيوت الأهل والوجوه الحانية والذكريات تتراكض بين المصافحات والعناق والدموع غالباً. الأصدقاء ومقاهي الكرّادة والمنصور، وقاعات المحاضرات والمكتبات، وشارع المتنبي، كلها توحي بأن الشعر والثقافة في أفضل أحوالها.
تلك الأمكنة صارت معالم شعبية بجدارة. توحي أولاً بدلالة طيبة. أن الشعر حاضر لا يعاني من تهميش. والكتاب كذلك.
لكن الموائد التي نلتم حولها لا تشير دوماً لذلك. تبقى مسافات بين ما يظهر وما يؤمّل وما تراه الأعين وما لا تراه.
تقتسم موائدَ المقاهي الأدبية وجوهٌ من داخل العراق، وأخرى شدت رحالَها إليه، وأدمنت الوجود هنا، هرباً من برد وغربة ووحدة في الأعم.
تختلط الأصوات كما هو حال الشعر المختلط جيلياً.
ستؤكد ذلك زيارة اتحاد الأدباء في مقره الخالد منذ الجواهري والتأسيس الأول بعد قيام جمهورية العراق عام 1958. لكن الوجوه تشي أيضاً بما يجري من ماء متغير، تحت جسور الثقافة والكتابة والشعر حتماً.
مشهد ملتبس بقدر تنوعه. من إحياء قصيدة العمود الوزنية إلى القصيدة الرقمية. قوسان لا يزهد بهما زائر، عايشَ عقوداً من قراءة الشعر وكتابته. فالمحفل الشعري ببغداد متسع وشاسع ومتعدد.. ومتجدد أيضاً.
وثمة إشارات في المكان تؤيد هذا الاعتقاد.
ما زال أبو نؤاس يمد يده مرتخية بثمالة كأسه وشعره، على ضفة دجلة اليسرى في الرصافة، وفي أجمل موقع من الشارع الساحلي المسمى باسمه منذ عقود.
لكن الجديد اليوم وجود تمثال لنازك الملائكة أنجز مؤخراً، وفي بقعة مهمة ودالة من رصافة بغداد التي اكتظت بمباني إدارة الحكومية العثمانية، وجرى ترميمها وإعادة الروح لها بأجمل صورة.
الطابوق المميز والأقواس، والنوافذ، والمداخل، والباحات.. حتى غدت مدينة مصغرة تتربع على ضفة النهر اليسرى أيضا، ويسمح النقل النهري بالوصول إليها بسلاسة، كما الوصول إلى شارع الكتب الأشهر في بلاد العرب: شارع المتنبي.
بهذا التمثال لنازك، استرد التجديد الشعري حصته. فبالقرب من المتنبي بتمثاله المطل مباشرة على النهر، ستقودك خطاك إلى تمثال نازك صادق الملائكة (1923-2004).
تحمل في يسراها ورقة، وترفع اليمنى بدعوة للانتباه. تشمخ بثياب عصرية جداً، تظهر منها ساقاها، وكأنها تنهض لتمشي، كما فعلت قصيدتها الحرة الأولى بالكتابة الشعرية في الأربعينيات.

****

بغداد والشعراء… متلازمان.

صور عديدة ونصب للجواهري والرعيل الأول في مبنى اتحاد الأدباء. وفي بيت الجواهري الذي ترمم، وعادت له الحياة في فضاء السماع والقراءة.
يتوسط هؤلاء شعراء النهضة. ها هو معروف الرصافي في قلب شارع الرشيد الذي يعده العراقيون شريان حياة مدينتهم.
وعند المدخل الجنوبي لمدينة الكاظمية سترى تمثال ابنها عبد المحسن الكاظمي، نزيل مصر فترة، والعائد بعصاه إلى مدينته.
تلك بغداد والشعراء يأتونها ليلاً ونهاراً من أطرافها أو خارجها، بل من أصقاع العالم التي تناثرت فيها أجساد أجيال وأجيال حتى غصت بهم.
وللشعراء وقصائدهم والكتّاب وكتبهم حصة كبرى في تلك الغربة الغريبة التي حلّت بالعراقيين، وهجراتهم العجيبة هرباً من حروب الوطن ونكباته الشخصية والعامة، ومن قلق وضيق دائمين.
الموائد في مقاهي الأدباء تصوّت لصالح التآخي الجيلي والمكاني أيضاً. لم يعد لثنائية أدباء الداخل والخارج مكان في العراق كله.
ثمة من استوطن ثانية واستقر. وثمة من أدمن الزيارة أشهراً كل عام.

والأهم هو الحضور الثقافي
والفني في الوطن.

أعمال كاملة لشعراء الداخل والخارج. استعادات لكتب ونتاجٍ وسير. انفتاح على عقود سابقة وعهود سياسية كانت تفاصيلها من المسكوت.. ترميز لهذه المصالحة النهائية والتامة.
ما زال في العراق من يسترجع الماضي زمناً نقياً صافياً حيث لا فُرقة ولا فراق ولا فِرَق شتى ومسميات ملتبسة الدلالات.
هؤلاء أيضاً يستعيدون بغداد شعراءها والصور وضوْع ذكراهم العطرة، ولكن بتغيير في مطلع الشطر فيرددون: ذهبَ الزمانُ وضوعُه العطرً.. الزمان لا بمعنى نظام بادَ بعد ما استبد. بل أسفاً على جملة طويلة مكتظة بالمفردات التي لم يعد لها في الآذان رنين أو دلالة.
ذهبَ الزمان.. وظلَّ الشعر على الجدران والنصب. تفيض به الألسنُ، والشاشات والذاكرة، والصفحات. صفحات لا تُحصى، يمكن أن ترصد اصطفافها ببذخ وكثافة حتى وأنت تصعد السلم المتهالك في قيصرية حنش بشارع المتنبي، لتجد دور النشر ومنشوراتها في الطابق الأعلى، محتشدة بالجديد والقديم معاً. وتهبط ثانية لترى (البسطيات) والأكشاك المؤقتة، وسيل الكتب على أرضياتها. تستفزك وتثير شهية القراءة..
أما الأهل والأصدقاء فقد عادوا ليوم نوروز، ويوم الشعر، وعطلات الربيع، وشمس الصيف المنتظرة في الأفق.
تودعهم بالمحبة التي لا تحصرها عبارة.. ولا يحدّ أسماءهم الكثيرة المنيرة سجلً أو كتاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب