
حرب الإبادة على غزة وسياسة ترامب
بقلم الدكتور يوسف مكي
بعد أن تنفس الغزاويون الصعداء، وعادت البسمة إلى شفاه الأطفال والنساء والشيوخ، بوقف إطلاق النار، عاودت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، برئاسة بنيامين نتنياهو، حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني. وبذلك انتهت فترة السلام، قصيرة الأمد، وتواصلت سياسة التجويع والقتل.
كانت عملية المفاوضات، بين الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس، قد بدأت مبكرا من أجل وقف اطلاق النار، بعد أن أدركت حكومة نتنياهو، استحالة عودة الأسرى إلى ذويهم، من خلال الحرب. ولا شك أن الضغوط التي مارستها عائلات الأسرى والمظاهرات المتكررة في تل أبيب، والضغوط الدولية، الرسمية والشعبية، المطالبة بوقف حرب الإبادة، ومحاكمة نتنياهو ووزير دفاعه، ورئيس أركان جيشه، وإحالتهم لمحكمة الجنايات الدولية، قد أدت إلى قبول إسرائيل، بالدخول في تكتيك المفاوضات، وإضاعة الوقت، أملا في فرض الاستسلام، على الشعب الفلسطيني. لكن الفلسطينيين، رفضوا الإذعان لآلة الحرب الإسرائيلية، وقدموا التضحيات الجسام.
كانت حركة حماس، والحكومة الإسرائيلية، قد توصلا في 15 كانون الثاني/ يناير من هذا العام، إلى اتفاق توقف بموجبه إسرائيل عدوانها على القطاع، ويتم تبادل الأسرى بين الطرفين. ومن المفترض أن الاتفاق، قد دخل حيز التنفيذ، في 19 من الشهر ذاته. ولعبت مصر وقطر دورا رئيسيا في التوفيق بينهما. ويشار إلى أن مقترح وقف أطلاق النار، صيغ بوسطاء أمريكيين، وجرى تبنيه من قبل الرئيس الأمريكي السابق، جوزيف بايدن.
ونص الاتفاق، على ثلاث مراحل، تبدأ بوقف إطلاق النار، لمدة ستة أسابيع، والإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين، وبعض الأسرى الفلسطينيين. وأكد الاتفاق على انسحاب جيش الاحتلال من غزة والولوج في إعادة أعمار تستمر من 3- 5 سنوات.
تمت جميع هذه التوافقات، أثناء عهد الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدن، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ، بسبب التعنت الإسرائيلي، ورفض الحكومة الإسرائيلية، التسليم بالقرارات الدولية، ومن ضمنها قرارات مجلس الأمن الدولي، التي كانت تواجه دائما بسيف الفيتو الأمريكي.
كان الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، قد وعد أثناء حملته الانتخابية، بأن ينهي الحروب، ويطفئ الحرائق، في أوكرانيا والشرق الأوسط، وأنه سيكون رسول سلام إلى العالم بأسره. بل إنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حين أكد قدرته على تحقيق تلك الوعود، حتى قبل وصوله إلى مكتبه بالبيت الأبيض.
والواقع أن وعود دونالد ترامب، اصطدمت بتصريحات أخرى، تتناقض، مع وعوده بتحقيق السلام بالمنطقة العربية. ووجه التناقض والغرابة، هي التصريحات التي أطلقها بشأن صغر الكيان الإسرائيلي، وحاجته إلى التوسع، وقضم المزيد من الأراضي، ليس في غزة وحدها، بل في الضفة الغربية وسوريا ولبنان. يضاف إلى ذلك دعواته المتكررة بضرورة تهجير سكان غزة، إلى الأقطار العربية المجاورة.
لقد وصفنا في مقال سابق، سياسة الرئيس ترامب، بالعدمية، كونها تحمل الشيء ونقيضه. فهو في الوقت الذي يتبنى سياسة انكفاء واضحة، بالقارة الأوروبية، يعلن عن عزمه ضم كندا وغرين لاند، إلى السيادة الأمريكية. وفي الوقت الذي يطرح نفسه رسول سلام للبشرية، يعلن تنكره لمبادئ وميثاق هيئة الأمم المتحدة، بتنكره حق الأمم في السيادة والاستقلال، وتقرير المصير.
وحتى فيما يتعلق بقطاع غزة، نلحظ جملة من التصريحات المتناقضة، فهو تارة يدعو إلى تهجير الفلسطينيين من غزة، وتارة أخرى، ينفي ذلك، ويؤكد على أهمية إعادة الإعمار، وتارة ثالثة، يفصح عن نيته ضم القطاع إلى ممتلكاته، ويتعهد بأن يجعل من غزة، ريفيرا الشرق.
المؤكد أن جملة سياساته تجاه المنطقة، قد وجدت تناغما كاملا، مع سياسات نتنياهو، تجاه فلسطين والبلدان العربية المجاورة. ورئيس الحكومة الإسرائيلية، لا يفوت فرصة استثمار مواقف ترامب العنصرية المؤيدة لسياساته، متنكرا لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان. ويوجه ضرباته بشكل يومي للضاحية الجنوبية، وعدد آخر من البلدات والقرى اللبنانية، متسببا في قتل المزيد من المدنيين. وعلى الجبهة السورية، يقوم بتدمير ممنهج للسلاح والبنية العسكرية السورية بأكملها، بحيث يمكن القول، أن سوريا لم تعد تملك من الآلة العسكرية، ما يمكنها من الدفاع عن أمنها وسيادتها، وسلامة أراضيها.
في قطاع غزة، يتم بشكل ممنهج خرق قرار وقف إطلاق النار، وتتواصل حرب الإبادة، ويتجاوز عدد الضحايا، خمسين ألف، جلهم من المدنيين العزل، من الأطفال والشيوخ والنساء، وتتجاوز أعداد الجرحى، مائة وعشرين ألف من البشر.
إن قطاع غزة، لم يعد فعليا صالحا للحياة، بسبب ما لحق ببنيته التحتية، من تدمير شامل، تقدر نسبته بعض المصادر بأكثر من 90 بالمائة، شملت المساكن، ومصادر المياه والكهرباء، وأجهزة الصرف الصحي. والرئيس الأمريكي ترامب، يقر بالكارثة التي حلت بالقطاع ويعترف بها، ولكنه بدلا من تحميل المسئولية لآلة التدمير الإسرائيلية، يدعو الفلسطينيين، إلى مغادرة القطاع، لكونه لم يعد صالحا للسكن. لكن تلك الأوضاع، لن تحول أبدا دون تمسك الفلسطينيين، بأرضهم وبيوتهم.
آن الوقت، لوقوف العرب جميعا، حكومات وشعوب، أمام ازدواجية المعايير التي تمارسها الإدارة الأمريكية، ورفض الإرهاب الإسرائيلي، بحق أشقائنا الفلسطينيين، وفي يدنا الكثير، من أدوات الضغط، لتحقيق أهدافنا، إن أحسنا استثمارها. وتلك بالتأكيد، فوق كونها مسؤولية، قومية، فإنها أيضا مسؤولية أخلاقية.