ثقافة وفنون

تشيخوف: قطرات من الدوبامين وكثير من الفلسفة

تشيخوف: قطرات من الدوبامين وكثير من الفلسفة

نعيمة عبد الجواد

الدوبامين مادة سحرية تفرزها القشرة الجبهية من مخ الإنسان وتسبب له شعوراً بالمتعة، ومن ثمَّ الإحساس بالسعادة. ولهذا السبب، يطلق عليه العلماء مجازاً اسم «هرمون السعادة». بيد أنه يجب الأخذ في الاعتبار وجود بون شاسع بين السعادة والمتعة؛ فالسعادة إحساس يستمرّ لفترة قد تطول أو تقصر تبعًا للحالة المزاجية للفرد. ولا يتطلَّب الإحساس بالسعادة وجود محفِّزات دائمة؛ لأنه قد يواتي الشخص حتى في أحلك المواقف. وعلى النقيض، فالمتعة أمر لحظي أو حالة طارئة يحصل عليها الفرد بعد بحثه عن محفِّزات لتنشيطها أو زيادتها، وقد تكون تلك المحفِّزات نزهة، أو الحصول على وظيفة أو منصب مرموق، أو بلوغ هدف، أو إنجاز شيء ما، أو القيام بمغامرة من أي نوع، أو حتى تناول أحد ألوان الطعام، ما يتسبب في إفراز القشرة الجبهية للمركَّب الكيميائي العضوي المسمى بـ «الدوبامين» لمكافأة الفرد على ما حققه من إنجاز، ولهذا أطلق عليه بعض العلماء أيضاً «هرمون المكافأة».
والسعي الحثيث لاقتناص لحظات المكافأة قد يدفع المرء لاقتراف أبشع ألوان الحماقات التي قد تفضي إلى تدميره حرفياً. يفرز المخ البشري مادة الدوبامين بشكل متوازن من أجل الاستمتاع بمباهج الحياة، والغرض من غيابه هو تعلُّم الدروس المستفادة من لحظات الحزن والشقاء. وبالرغم من هذا، تتفشى بين فئات كثيرة من البشر الرغبة في الحصول على المزيد من المتعة، فالدوبامين يسبب الإدمان، وتحفيز إفرازه عنوة بشكل متواصل ينجم عنه عدم الاستجابة السريعة التي يضمنها الإفراز الطبيعي له. وبمرور الوقت، تصير المحفِّزات غير مجدية، ما يدفع الفرد إلى زيادة جرعاتها، أو استحداث وسائل أخرى أكثر حدَّة للحصول على الدوبامين؛ فزيادة جرعات الدوبامين يمنع الإحساس بنشوة المتعة، ويجعل الفرد يتصرَّف دون وعي كافٍ. على سبيل المثال، يلاحظ أنه من اعتاد على الاستمتاع بمشاهدة الفيديوهات القصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد فترة قصيرة لا يستمتع بها، لدرجة أنه قد يأخذ في الانتقال فيما بين المنشورات بلا هدف ودون وعي لساعات طويلة، على أمل مصادفة واحد قد يثر فيه الاستمتاع، غير مبال بأنه يهدر سنوات من عمره دون إنجاز شيء يستحقّ عليه المكافأة. ويتساوى ذلك في إرهاق الذَّات عند السعي لتكديس الأموال والثروات، في حين أن الورثة هم المستمتعون فقط بها. ومن الأمثلة الشائعة أيضًا، وجود كثيرين في بيئة العمل أصبحوا يجدون السعادة في إيقاع زملائهم في المشكلات، من أجل الحصول على ميزات لا يتمتع بها الآخرون، ثمّ يستفحل ذاك السلوك حد الهوس، فيدمن الإنسان الأذى من أجل الأذى ذاته، والسبب أنه جرَّب شعورًا بالمتعة لحظة إيقاع الآخرين في حبائل المكائد.
وأحد الكتب الأكثر مبيعًا التي ناقشت هذا الموضوع كتاب «أمة الدوبامين: إيجاد التوازن في عصر الانغماس» (2021) للدكتورة «آنا ليمبكي» Anna Lembke، التي أوضحت أن السبب الرئيسي لتأليفها هذا الكتاب هو بيان مدى خطورة سعي الإنسان وراء المزيد من الدوبامين، موضحة أن المعنى المقصود هو أننا جميعًا أصبحنا الآن عُرضةً لضمور القشرة الجبهية، إذ أصبح مسار المكافأة لدينا هو المحرك الرئيسي لحياتنا. وتوضِّح الكاتبة أن السبب في السعي وراء المتعة هو تلافي الشعور بالألم، لكن الهروب المتكرر جعل الإنسان الحديث يفقد القدرة على تحمل حتى أبسط ألوان الانزعاج، فنحن نسعى باستمرار إلى تشتيت انتباهنا عن اللحظة الحالية، بغرض الاستمتاع بها.
ولشفاء الإنسان من ذاك الهوس المرَضي، قدَّم الطبيب والأديب الروسي «أنتون تشيخوف» Anton Chekhov (1860-1904) العلاج في شكل أدب واقعي صادم من المسرحيات والروايات التي لا تزال تجد لها صدى واسعاً سواء في الأوساط الأدبية؛ لتقنياته الدقيقة التي رسمت ملامح القصة القصيرة محبوكة العرض، أم في أوساط القرَّاء من مختلف الطبقات، بالرغم من مرور نحو قرن وربع من الزمان على وفاته. ويقدِّم تشيخوف محتوى متميِّزاً ينطوي على قصة نابضة بالحياة ومقتطعة من الواقع، ولذلك يتمتع شخوصها بلحظات من المتعة إلى جانب جرعات الألم، وهذا بشكل متوازن، وكأنه يأمل تحقيق نفس ذاك التوازن على أرض الواقع.
ومن المثير للفضول أن جميع أعمال تشيخوف تنتهي فجأة، وكأنه لم يكتب نهاية محددة لها، ما يصدم القارئ ويثير فضوله لمعرفة المزيد عمَّا حدث في الختام. ومن ثمَّ، يبدأ العقل البشري في رسم سيناريوهات عدَّة للخاتمة، أو قد يصل الأمر لافتراض خاتمة مناسبة للعمل، وهذا في حد ذاته مصدر كبير لمتعة القارئ؛ فالدوبامين الناجم عن ذلك هو مكافأة للتفكير في سيناريو جيِّد لخاتمة الأحداث، وأيضًا مكافأة لإعمال العقل وتحقيق التوازن بين الشعور بالألم عند التماهي مع الشخصيات، والمتعة في التفكير لهم.
واستخدام تلك التقنية هو انعكاس مباشر لشخصية تشيخوف ونمطه في الحياة؛ فلقد كانت حياته سلسلة من المآسي المتوالية التي عانى منها منذ الطفولة. لم ينعم تشيخوف بالحياة في قصور الطبقة الأرستقراطية والاختلاط بالنبلاء مثل تولستوي، ولم تكن عائلته حتى من الطبقات المتعلِّمة مثل أقرانه من عظماء كتَّاب روسيا؛ فقد تربي تشيخوف في بيئة ريفية فقيرة، بل وتحمَّل مسؤولية عائلته منذ فترة المراهقة، فقام بدور العائل والحامي للأسرة. وبالرغم من أنه كان يعاني الإجهاد الشديد من جرَّاء الكدّ في العمل لتوفير لقمة العيش لعائلته، لم يمنعه هذا من كتابة خطابات فكاهية لهم للتسرية عنهم.
ومهنة الطب عنده لم تكن إلَّا استكمالًا لسلسلة المآسي التي تضرب حياته؛ فآلامه دوماً مضاعفة، منها ما هو بسبب معايشته لمعاناة مرضاه، ومنها بسبب خشيته من ألَّا يوفَّق في إيجاد العلاج الناجع للحالات. ولم تمنع أيضًا آلامه القدر من أن يجعله يصاب بمرض السلّ، أو أن يلقى حتفه في سن الأربعة والأربعين من العمر. كان تشيخوف يجابه مآسيه بواقعية صادمة، فهو على دراية تامة بالمشكلة كأي طبيب ماهر، لكنه أيضاً يعلم أن الاستمتاع ما هو إلَّا لحظات من تدبير الإنسان. ولهذا، لم يمنعه الفقر والانغماس في العمل الشاق في مرحلة المراهقة من الإسراف في العلاقات الغرامية، وتحويل حسه السَّاخر في خطاباته إلى قصص قصيرة جعلت العالم بأسره يلتفت إلى موهبته. حتى حينما أصبح أديباً شهيراً، أصرّ على عدم هجر مهنة الطب؛ معلِّلاً ذلك بأن الكتابة تستلزم الانخراط في المجتمع للاطلاع على قصص الآخرين. وبالنسبة له، حياكة قصص بعيدة عن الواقع، ما هي إلا خداع قبل أي شيء للذات.
وعلى هذا الأساس، لم يجنح تشيخوف إلى تمجيد حياة الريف وعالم البسطاء مثلما فعل تولستوي؛ فمجتمع الريف الذي نشأ فيه تشيخوف يضاهي عالم النبلاء؛ فهناك الأخيار والأشرار، والتصرُّفات الطبقية، والمكائد التي تجعل عالم الريف بعيداً عن ذاك العالم المثالي الخيالي الذي يسرف في وصفه الكتَّاب الذين لم يكونوا قط جزءاً منه.
وفيما يبدو أن ما ساعد تشيخوف على تحمُّل مآسي الحياة التي يتشبَّع بها في كل لحظة هو سخريته من كل ما يحدث حوله، ونفس ذاك الأسلوب الساخر هو ما يحفِّز الفكاهة، لذا فالاستمتاع -ولو حتى بالمأساة- هو بما يقدمه من حبكات في قصصه. ولهذا، كان يردد دوماً أن الجميع، بمن فيهم الأحمق، يمكن أن يجابه أزمات الحياة، لكنه كان يشدد أن المُرهق حقًا هو معايشة نفس الأزمة يومياً. ومن جرَّاء واقعيته الصريحة، يؤكِّد تشيخوف أن «العالم، بالتأكيد، ليس سوى تصوّرنا له». وعلى هذا، منظور تشيخوف للحياة هو مزيج من الجد والمأساة والاستمتاع. وخيبات تشيخوف المتكررة في البشر جعلته يصرِّح: «هناك سببان وراء عدم ثقتنا بالناس؛ الأول أننا لا نعرفهم، والثاني أننا نعرفهم». لقد فقد ثقته في البشر وفيما يحدث في الدنيا من وقائع وأزمات، وفي تدابير القدر له، فكان يعلم بوجود الخبيث فيما يتخلل حياته من نجاحات، والعكس صحيح.
المنهاج الفلسفي الذي اتبعه تشيخوف للتعايش مع الواقع الأليم هو فلسفة التوازن، ونفس ذاك التوازن هو الذي حقق له شهرة عالمية، وأصبح نذيراً لتحفيز إفراز الدوبامين في القشرة الجبهية من المخ دون الجنوح إلى الإسراف أو الإدمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب