ثقافة وفنون

جبار ياسين… غريب هنا… غريب هناك!

جبار ياسين… غريب هنا… غريب هناك!

عاطف محمد عبد المجيد

أسأل نفسي في نهاية الليل
أي امرأة ستحب غدا؟
تلك التي ستصادفها في الطريق،
أم تلك التي تشرب قهوتها في كسل؟
المقطع السابق من قصيدة مقتطفات من ليالي الحب، إحدى قصائد ديوان «مقتطفات من كتاب الحب» للكاتب والروائي العراقي المقيم في فرنسا جبار ياسين، الصادر حديثا في القاهرة عن دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، يكتب في مقدمته قائلا، إن الحب هو الفعل الوحيد الكامل في الحياة، يجمع بين العاطفي والواقعي، الفكري والجسدي، المقدس والمدنس، الحاضر والمستقبل، مثلما يجمع بين التفكير في الآخر، كلغز غير قابل للحل، والحياة كلغز آخر لا حل له، ذاكرا أن الساعات التي تُقضى مع الحبيب هي الزمن، وهي خارج الزمن كذلك، بها تتحقق هارمونية الوجود بصورة نادرة لا توفرها ظاهرة أخرى في الحياة. كذلك يرى جبار ياسين، في مقتطفات من كتاب الحب، أنه لا اطمئنان في الحياة دون الطمأنينة في الحب، طمأنينة من نوع نادر محورها القلق على المحبوب، مشيرا إلى أن التدين في الحب هو فعل الحب ذاته، ففيه تتم الطقوس: من النظرة إلى اللمس، إلى السماع، إلى الشم، إلى إدراك كل الحواس الجواني منها والبراني، ذاكرا أيضا أن من لم يحب لم يدرك الله ولم يدرك عدم وجوده، فحين يكون الله فهناك الحب، وحين يكون الحب هناك الله.
مفردة الحب
جبار ياسين الذي من يعرفه عن قرب يدرك أنه كتلة إنسانية تمتلئ حبّا يقول هنا، إن الحب الكامل هو غياب وحضور يتبادلان الأدوار، وجود يبغي الفناء وفناء يبغي الوجود في دائرة لا تنتهي، والحب هو الأبدية الصغيرة التي وهبتها الطبيعة للبشر، أو وهبها الله لهم، والذي لا يحب لا يعرف الجسد، إنما يعرف صورة الجسد، والصورة ليست الشيء ذاته، بل هي وهْم. ما يلاحظ هنا هو تكرار مفردة الحب ومشتقاتها، سواء في عناوين القصائد أم في متنها: قصيدة حب، الموت حبّا، غدا أحَب وأحِب، أشياء لا تحب، حب آخر، مقتطفات من ليالي الحب، أحبها، أنا وما تحب حبيبتي، عاشقة، عشاق، أحبك، العشق، اشتياق، الغرام، الهيام، الوجد، الحبيبة، مثلما يُلاحَظ ولع الشاعر وحبه لكل ما في الحياة من أشياء وأشخاص، متخذا الحب دينا ومنهج عيْشٍ لا يريد سواه بديلا، درجة أن من يقرأ هذه المقتطفات يشعر بأنه أمام شاعر يتعبد في محراب الحب، مقدما قصائده قربانا لآلهة الحب، طامعا في رضاها ومباركتها لحبه. أيضا نلاحظ أن الشاعر حزين لمفارقته لبلاده متسائلا: من قال إني لا أفكر بالبلاد؟ وهل تموت البلاد إن بعُدنا ويبقى الشجن؟ مما يجعلنا نلمح هنا حزنا دفينا ناتجا عن بقائه في المنفى بعيدا عن تراب بلاده، معلنا عدم حبه للحديد لأنهم يصنعون منه السيف والبندقية، ولا يحب الصليب لأنه يذكّره بعذاب المسيح، ولا يحب الجليد الذي يغتال الوردة الحمراء قاتلا بذرها، مانعا أنشودة الورد في الربيع. هنا لا يكتب جبار ياسين ليحتفي بوطنه العراق، أو بحبيبته وحدها، بل يحتفي أيضا بأمه التي وهبته الحياة وعلمته الغوص في مجاهل نفسه، وكما أنه يحب أمه فهو يحب كل الأمهات ويحزن كثيرا حين ترحل أم صديق، أو واحدة من جاراته، كما يحب الحياة بكل تفاصيلها وكائناتها، ولو لساعة واحدة قبل القيامة:
أحب الحياة
لأن سوسنة تتفتح فجأة في الصباح
تشق الأرض في الفجر
وتورق مثل امرأة تلد توائم عدة
دون ضجيج ودون عسر ولادة
فالزهرة لا تحتاج قابلة
ولا تمارين ولادة.
الزمن الجميل
أيضا نلمح من بين سطور هذه القصائد سعي الذات الشاعرة إلى أن ترد على منتقديها، الذين يتهمونها بنسيانها لبلدها وعدم حبها له، واصفين إياها بنكرانها للجميل:
لا تكترث حين تروي الحكاية كلها
سيقولون عنك ناكرا للجميل
لا تحب الوطن!
استغنيت عن ماضيك
نسيت الطفولة
كرهت «الزمن الجميل»
وعشقت الشجن.
الذات الشاعرة تعاني كذلك من التمزق بين حاضر مؤلم تعيشه بعيدا عن أرض الوطن، وماض جميل اغتيل تماما ولم يعد سوى ذكريات:
غريب هنا وغريب هناك
حين أكون هنا يجرفني الحنين
وهناك يجرفني الحزن لماض بعيد
لعظام أسلافي ونظرة أمي
ووجه حبيبة في الصغر
نسيت اسمها منذ سنين.
ومثلما يحضر الحب بقوة هنا، أيضا يحضر الألم، الحزن، الشعور بالغربة، الحنين إلى الوطن والأهل والأحباب، ويظهر التأثر بما يحدث الآن في العالم:
غريب أنا في مكان قصي
لكن الأرض أمي
بين أحضانها أكبر…
غريب وكل يوم لي هوية
يوما فرنسي
وآخر من مصر
ويوما من المكسيك
وفي الصباح أنهض كما ينهض الإسباني
بعد ليلة غناء على القيثار
ويوما غجري ترافق صوتي الكمنجات
بين بساتين البرتقال في الأندلس.
هنا أيضا يكتب جبار ياسين مرثية ثانية لبلاد الرافدين، مطالبا المجد القديم ألا ينتحب، متسائلا هل كان «دجلة» محض حلم؟ واصفا العراق بأنه بلاد من أنوثة عاشقة، معلنا حزنه أن قضى نصف قرن غريبا عنها، متسائلا في الأخير:
من أكون؟ لماذا أنا الآن هنا؟
هل أنا من يقرأ نفسه
أم فراشة تعيد رسمي على صورتها؟

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب