كأنهما حياتان: الشباب وسنوات الحياة الأخيرة

كأنهما حياتان: الشباب وسنوات الحياة الأخيرة

حسن داوود
روائي لبناني.
قليل هو العالم الذي تعيش فيه الست مي.. بيتها الذي في الطابع التاسع يعزلها عن كل ما يجري في الأسفل، وإن احتاجت إلى شيء يتكفّل الناطور يوسف بإحضاره لها. التوأمان، ابناها، مقيمان خارج البلد، وهما بالمال الذي يرسلانه يكافئانها على إنجابها لهما. إلى حاضر حياتها الأخير، حيث هي في الرابعة والثمانين، لم يأتيا مرة للزيارة، بل إنهما لم يحضرا في تذكّرها لما سبق من حياتها. لا أصدقاء لا معارف، لا جيران، ولا ماض تعود إليه ليؤنس أيامها الأخيرة. أما القطة التي لجأت، أو ألجئت إليها، فأبقتها بعيدة عنها، هناك في الشرفة وراء الباب المقفل، معاقبة إياها على مجيئها. كما أنها تركتها بلا إسم، تنصلّا وإبعادا. ماذا سترويه ميّ إذن في الصفحات الـ126 طالما أن لا شيء سيحدث إلا صمت ذاك المكان الفارغ، واليوميات التي تتشابه والأصوات التي تتخيّلها طالعة من مكان قريب لم تتمكن من تعيينه. لكننا مع ذلك نجد أنفسنا مستغرقين في متابعة تلك المجريات القليلة والمتكرّرة، المكتوبة كأنها أسرار تتكشف.
لا شكوى تطلقها لأحد، ولا ضغينة توجّهها احتجاجا على تركها. فرغم ما يحسّ به المتقدمون في العمر من حاجة إلى التشكّي، ظلّت مَيْ محافظة على عنادها وترفّعها. مَن تخاطبه، أو تحادثه، هو لا أحد. لا ذكر لحوار أو لفاصل من حوار جرى بينها وبين ابنيها التوأم المسافرين. ولم تزد الناطور يوسف، على الرغم من قيامه بإحضار ما تحتاجه من الخارج، قربا إليها، ولا هي فعلت ذلك مع شاميلي، المرأة السريلانكية التي لم يقتصر عملها على تنظيف البيت، إذ فيما تتقدّم الرواية، مع تقدّم عمر مي بطلتها، صارت في حاجة لأن تُنظّف هي أيضا.
إنها تروي نفسها في ذلك النصف الأول من الرواية. من بداية الفصل الثاني نعرف أن الراوية ما زالت تدور حولها هي مَي، لكنها بدلا من أن تخاطب آخر مجهولا، أو قارئا، ها هي تخاطب نفسها السابقة، أو اللاحقة على الأصح، امرأة الأربع والثمانين. هي الراوية هنا في هذا الفصل الثاني، وهي السامعة المصغية. تقول لمن سينتقل إليها الكلام: «يا مي…». ذلك الانتقال في السرد يبدو، للوهلة الأولى، من قبيل سماعها الأصوات، هناك في الفصل السابق من الرواية. كما لو أن رقعة الخرف قد اتسعت هنا بمخاطبة المرأة نفسها. لكننا سريعا ما نعلم أن ما انتقلت إلى روايته هو كل ما أهملته وعفّت عنه في الصفحات التي سبقت. هنا تعود شابة تعيش أول الحياة، مقابل عيشها آخرها هناك، في الفصل الذي سبق.
أول الحياة يعني أول الشباب، حيث تبدأ سنوات تعرفها على هوايتها، وعلى وقوعها في تجربة غرام عنيفة لا تلبث أن تنهض منها حينا، حتى تعاود السقوط من جديد. وهي، هنا أيضا، تفلسف ما تعيشه أو تمعن التفكّر فيه إلى حدّ ابتداعه. ها هي تقول ما يمكن أن يكون تعريفا فذّا لما هو التمثيل، كونها ممثلة بادئة ثم محترفة، وما هو الممثّل: «ليس التمثيل ذوبانا في آخر أو في شخصية غريبة عنك. فالشخصيات هي احتمالاتك الممكنة في ظروف وأوضاع أخرى»، أو تقول هي، أقصد تكتب نجوى بركات، عن التباس صوت متكلّم على الهاتف».. سمعت صوته في الهاتف لأول مرة، ولم أرتح له، واستغربت أنه بلا طابع واحد، كأنه عالق بين درجتين موسيقيّتين، أسير بين منزلتين».
أعني أن ذهاب نجوى بركات إلى آخر الوصف والسرد يجعل تأملاتها قريبة من الفلسفة والشعر. دائما يرغب قارئها أن يضع خطّا تحت تلك الجمل، موافَقة وتأييدا. نحن، في الفصل الثاني من الرواية، يعاد بنا إلى ما اعتادت الأعمال الروائية إلى البدء به، تماشيا مع جريان الحياة مما يبدأ إلى ما يلي. أما ما قامت به الكاتبة فلا يقتصر على البداية من النهاية، بل جعلتنا نحسّ الظلم مضاعفا، وهو الظلم الناتج عن الخيبة، على الرغم من الخيبات التي حملها لمي عمر الشباب، حيث يتأخّر الما قبل، في ذلك الإبدال للزمن، كنا، نحن من نقرأ، نستعيد مستقبل مي مترافقا مع كل خطوة تخطوها في زمن شبابها.
أما الفصل الثللث والأخير فقد جرى على لسان يوسف، الذي لم يُتح له، قبل ذلك، التفصيل في الكلام. لقد كافأته مي على كل ما قام به من أجلها، بأن جعلته الشاهد الوحيد على آخر فصل من غيابها. كما أنها كافأت القطة بأن أعطتها، وإن بعد نفوقها، إسما وإبقاءها ملتصقة بها في يومي موتهما الأخيرين.
*غيبة مي» رواية نجوى بركات صدرت عن دار الآداب في 223 صفحة – سنة 2025.