مقالات

الأمن الخاص في قطاع غزة: بين الاقتصاد والسيطرة السياسية – العسكرية

الأمن الخاص في قطاع غزة: بين الاقتصاد والسيطرة السياسية – العسكرية

مهيب الرفاعي

لم تُمارس خصخصة الأمن فقط كجزء من تبنّي السياسات النيوليبرالية، بل استُخدمت كأداة لتثبيت السلطة. فبدلاً من اقتصار الأمر على توسيع القطاع الخاص ضمن المنظومة الاقتصادية، تم اللجوء إلى شركات الأمن الخاصة كوسائل مرنة للسيطرة المجتمعية…

يجري التعامل مع خصخصة الأمن باعتبارها ظاهرة ناشئة في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية الإقليمية؛ حيث بدأ التركيز على نشاط الشركات الأمنية الخاصة في العراق بعد عام 2003، إلى أن نما هذا القطاع في دول عربية أخرى، أبرزها لبنان وسورية، رغم ما تنطوي عليه من أبعاد أمنية وسياسية عميقة. أما في الحالة الفلسطينية، وفي قطاع غزة تحديدًا، فالموضوع مرتبط بمدى قدرة استيعاب القطاع لهذا النمط من الخصخصة، لا سيما في ظل وجود قوات شرطية تابعة لحركة حماس، المسؤول الأمني والعسكري عن قطاع غزة.

تلجأ الحكومات إلى شركات الأمن الخاصة كوسائل مرنة للسيطرة المجتمعية مع تجنّب المظاهر الأمنية التقليدية المرتبطة بالسلاح والعسكرة؛ على اعتبار أن الحالة المستحدثة لهذا القطاع هي إنشاء نموذج أمني يعتمد على تكتيكات معينة، حيث يتم تقليص الوجود الأمني التقليدي الظاهر لصالح مراقبة غير محسوسة قائمة على الأنظمة الرقمية ووجود رجال أمن بصفة رقابية. وقد أُسندت مهام أمنية حساسة – مثل حماية المنشآت الأممية والمجمعات التجارية والبنية التحتية – إلى شركات خاصة محلية وأجنبية، بينما استُخدمت سياسات رقابية صارمة لضمان عدم تجاوز هذه الشركات صلاحياتها.

خصخصة الأمن بين اقتصاد السوق وهيمنة الدول

لم تُمارس خصخصة الأمن فقط كجزء من تبنّي السياسات النيوليبرالية، بل استُخدمت كأداة لتثبيت السلطة. فبدلاً من اقتصار الأمر على توسيع القطاع الخاص ضمن المنظومة الاقتصادية، تم اللجوء إلى شركات الأمن الخاصة كوسائل مرنة للسيطرة المجتمعية مع تجنّب المظاهر الأمنية التقليدية. إلى حد بعيد، يلزم الحذر من إمكانية تعميق الانقسامات المجتمعية إذا تم توظيف هذه الشركات لتأمين مصالح فئات أو جماعات دون غيرها، خصوصًا في ظل تصاعد النزعات القبلية والمناطقية، ما قد يؤدي إلى استخدام الأمن الخاص كأداة تفتيت بدلاً من وحدة مجتمعية.

بالنظر في بعض الحالات، يبدو لنا أن الخصخصة امتداد لنفوذ النخب العسكرية، كما الحال في الأردن، حيث تم السماح بإنشاء مجموعات أمنية خاصة في بداية التسعينيات بفعل التغيرات الاقتصادية وعودة رؤوس الأموال بعد الحروب في العراق. وقد استُغل هذا القطاع من قبل النخب الأمنية المتقاعدة كوسيلة لإعادة إنتاج النفوذ في المجال المدني، إذ تم إنشاء شركات يهيمن عليها ضباط متقاعدون، وتمت صياغة إجراءات منح التراخيص بطريقة تضمن استمرار السيطرة داخل الدائرة الأمنية الضيقة. وقد سُجلت حالات ارتباط مباشر بين بعض الشركات والجهات العليا في الدولة، كما تم إدماج بنى هجينة تجمع بين الطابعين العسكري والاقتصادي، من بينها مركز تدريب العمليات الخاصة (KASOTC) المرتبط بالجيش والحكم، مما أثار مخاوف بشأن تآكل الحدود الفاصلة بين ما هو عام وما هو خاص.

في نموذج لبنان، تطوّرت شركات الأمن الخاصة ضمن سياق دولة ضعيفة ومجتمع منقسم طائفيًا. وقد تم استغلال الفراغ الأمني الذي تفاقم بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005 لإطلاق شركات أمنية تعمل كغطاء لإعادة إحياء الميليشيات، خصوصًا من قبل تيار المستقبل الذي أنشأ شركة “Secure Plus” لتوفير الحماية للأحياء السنية في مواجهة حزب الله. أظهرت هذه التجربة أن الأمن الخاص، إذا ما استُخدم خارج إطار الدولة وبأجندات حزبية، يمكن أن يتحول إلى عامل تهديد للاستقرار بدلًا من كونه ضمانًا له، ويؤدي إلى مزيد من التدهور في الثقة بالمؤسسات الرسمية، التي أُثبت مسبقًا أنها تعاني من نقص الإمكانيات وفقدان الحياد الطائفي.

في سورية، لم يكن هناك خصخصة أمن في السابق، كون نظام الأسد احتكر الأمن والتسليح لصالح جهاز المخابرات، الذي اعتُبر العمود الفقري لبقاء السلطة منذ سبعينيات القرن الماضي. غير أن تغيّرات الوضع العسكري نتيجة انجرار البلاد إلى حرب تعددت فواعلها، واستنزاف المؤسسة العسكرية النظامية، وتراجع سيطرة الدولة على أجزاء واسعة من البلاد لصالح المعارضة؛ أتاح المجال أمام بروز كيانات أمنية خاصة جديدة، بعضها أُنشئ بغطاء رسمي، والبعض الآخر تحت مظلة ميليشيات محلية أو شبكات تجارية – عسكرية. ابتداءً من عام 2013، حصلت شركة القلعة للحماية والحراسة، وشركة صقر الصحراء، والهيئة العامة للأمن والحماية، على تراخيص أمنية، وهي شركات تم تأسيسها من قبل رجال أعمال مقرّبين من السلطة، وتم تسليح عناصرها وتدريبهم بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية أو القوات الروسية. وقد أُسنِدت لهذه الشركات مهام متعددة، شملت حماية قوافل المساعدات الأممية، وحماية مستودعات الأمم المتحدة المملوكة من قبل “مجموعة نزهة”، والمنشآت السياحية والبنية التحتية، وتأمين المرافئ والمطارات، وتوفير الأمن في المناطق التي أُخضعت للمصالحات. كما سُجّل استخدامها في حماية منشآت تستثمرها شركات روسية مثل STG وEvro Polis.

نموذج قطاع غزة

رغم اختلاف السياقات بين نماذج الدول أعلاه، فإن خصخصة الأمن لها سمات مشتركة أبرزها: تراجع احتكار الدولة للعنف المشروع، وتداخل مصالح النخبة الحاكمة مع الشركات الأمنية، وضعف المساءلة والشفافية ورقابة السلطات المحلية على أداء هذه المجموعات، مع وجود فرص عالية لتحوّل الأمن من خدمة عمومية إلى سلعة، سواء بيد تجار القطاع الأمني أو بيد الدول القادرة على تمويل ودعم هذه الجماعات بمختلف المسميات.

قد تبدو الحالة المفاجئة هي حالة قطاع غزة، مع تفاقم الوضع الأمني والعسكري وتعقيدات الحرب، ورغبة الاحتلال الإسرائيلي بفرض واقع جديد في قطاع غزة عبر دعم تشكيل جماعات أمنية محلية تهدف إلى تقويض سلطة حكومة حماس، وذلك ضمن ما يُعرف بخطة “الجزر الإنسانية” التي طرحها وزير الأمن الإسرائيلي السابق يوآف غالانت.

تقوم هذه الخطة، بحسب التصور الإسرائيلي، على استغلال حالة الفوضى لتشكيل قوى أمنية محلية تتحكم في توزيع المساعدات وتجارة السلع، بإشراف غير مباشر من الاحتلال. عسكريًا، يوفر الجيش الإسرائيلي الغطاء لتلك الجماعات عبر تسليحها أو التغاضي عن عمليات نهب الشاحنات الإنسانية، بل واستهدافه المباشر لشرطة حماس التي تحاول تأمين المساعدات. وقد أكدت منظمات دولية من بينها “أوكسفام” و”أطباء العالم”، في تقرير مشترك، أن الجيش الإسرائيلي يشجع على هذه الفوضى عبر مهاجمته قوات شرطة حماس، ما أدى إلى انتشار أعمال النهب، وفقدان الأمن، وابتزاز المنظمات الإنسانية من قبل مجموعات أمنية خاصة.

برزت في هذا السياق مجموعة تسمي نفسها “جهاز مكافحة الإرهاب” يرأسها ياسر أبو شباب، وينتشر عناصرها في عدة مربعات في قطاع غزة بحجة تأمين المساعدات وتنظيم مرورها إلى المواطنين النازحين، وترتيب أولويات التوزيع بحسب مخطط مع القوات الأممية التي تدخل القطاع. يستدعي مسمى “جهاز مكافحة الإرهاب” الموجود في القطاع الآن النظر في البنية الأمنية لهذه المجموعة، سواء على المستوى الهرمي أو العملياتي أو مستوى التمويل؛ إذ إن مسمى الجهاز يفترض وجود بنية أمنية هرمية فيها مسؤولون وضباط وعناصر مدربون وفق خط أمني وعقيدة قتالية معينة، وليس مجرد مجموعة غير منضبطة ليس لها مرجعية.

وبالتالي، تتكوّن لدينا عوامل بنيوية لصعود نجم هذا الجهاز بمهام أمنية واضحة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي في القطاع، أو تلك التي على تماس مباشر معها، ما يوحي بفرضية وجود تنسيق أمني واستخباراتي بين هذه العناصر وقوات الاحتلال بشكل أو بآخر.

تشكل هذا الجهاز في وقت يشهد فيه القطاع فراغًا إداريًا وأمنيًا، في ظل انحسار دور السلطة الفلسطينية، وصعوبة وصول فصائل المقاومة إلى حلول موحدة تفضي إلى وقف إطلاق نار فعال ومستدام؛ وبالتالي فإن احتمال إنشاء مناطق آمنة أو تُدار محليًا، قد يعيد سيناريو قوة أمنية جديدة ومختلفة عن تلك التي أدارت غزة سابقًا، مع تسهيلات لوجستية خارجية.

لكن يبقى لدينا موضوع مهم، وهو التقبل المجتمعي لهذا الجهاز، لا سيما وأن غزة قطاع صغير فيه عُرف عائلي ومجموعة أحياء تكون فيها العائلات الكبيرة مسيطرة، وهنا الحديث عن التحديات التي ستواجه قادة هذا الجهاز في فرض نفوذ أو قيادة تتجاوز حدود العائلة أو الحي، خاصة إذا لم تحظَ بدعم اجتماعي واضح من البنية القبلية أو العشائرية الأوسع.

قوافل المساعدات كمؤشر للنفوذ الأمني

ينشط الجهاز مؤخرًا، بعد تداول وصول جنود أميركيين إلى القطاع، في تنظيم قوافل المساعدات في المناطق الخارجة عن سيطرة واضحة لحماس، ويتواصل مع منظمات دولية مثل الصليب الأحمر. هذه المهام، التي تبدو إنسانية في ظاهرها، تُستخدم أحيانًا كمؤشر على بسط السيطرة وفرض أمر واقع، ما يطرح تساؤلات حول طبيعة النفوذ الذي بات يمتلكه هذا التشكيل، ومدى دعمه أو تغاضي الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما وأن نتنياهو كان قد اختار الشركة المسؤولة عن توزيع المساعدات في القطاع دون وجود معايير واضحة.

ربما يقود هذا التغاضي إلى صعود نجم “زعيم محلي” جديد يمسك بملف الأمن والخدمات في منطقة بعينها، يكون قادرًا على إدارتها دون التحوّل إلى تجارب اقتتال داخلي كما الحال في ليبيا والسودان؛ مع محاولات لسد الفراغ الذي سمح بنشوء هذه التشكيلات بالأساس، وهو فراغ أمني داخلي نجم عن غياب سلطة فلسطينية واحدة وجامعة بفعل الحرب، وانكفاء مقاتلي حماس وعناصر الأمن الداخلي نحو القتال في صفوف المقاومة.

الأمن الخاص وتفتيت غزة

يتخوف كثيرون من أن تكون هذه التشكيلات مقدمة لمشروع تفتيت قطاع غزة إلى مناطق نفوذ متصارعة، يصعب فيها حصر السلاح وتشكيل إطار أمني جامع قادر على التعامل مع المستجدات الطارئة، وحماية الممتلكات رغم الحرب، أو تأمين قوافل المساعدات، على أقل تقدير، في ظل غياب مرجعية أمنية واقتصادية واحدة تشرف حتى على السلاح الخاص.

في المقابل، شكّلت وزارة الداخلية في غزة وحدة جديدة تُدعى “سهم”، مكونة من عناصر شرطة ووحدات تدخل سريع، هدفها ضبط الأسواق، ومنع احتكار السلع، وتأمين توزيع المساعدات، وملاحقة العصابات واللصوص. وتهدف هذه الوحدة إلى حماية الجبهة الداخلية، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، وضمان وصول المساعدات والسلع للمواطنين.

ما يهم الآن هو انتشال القطاع من الفوضى الأمنية نتيجة ممارسات الاحتلال، عبر محاولات محلية لإعادة ضبط الوضع الأمني والاجتماعي من خلال تشكيل وحدات شرطية جديدة تابعة لوزارة الداخلية في القطاع، لكن يبقى التحدي وجود جهاز جديد ناشئ يريد أن يتصرف بالواقع الأمني في غزة وفق معطيات جديدة من مفرزات الحرب المستمرة لقرابة عامين، بدعم خارجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب