ثقافة وفنون

أصداء سيرة حياة مبتورة: فروغ فرخزاد وأسمهان

أصداء سيرة حياة مبتورة: فروغ فرخزاد وأسمهان

سعاد العنزي

منذ فترة من الزمن، وأنا ألمح أصداء تشابه كبير بين سيرتي حياة الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد والفنانة السورية أسمهان، على مستوى الحياة الشخصية، والحياة المهنية والحياة الاجتماعية بحيث نستطيع القول إن أزمتهما في الحياة هي أزمة محاولة فرض هوية متفردة، في زمن لا يقبل التفرد والاختلاف، لذلك انتهت حياتيهما بطريقة قد تكون مدبرة أكثر من كونها مصادفات قدرية.
في هذه القراءة، سأحاول مقارنة صوتين متفردين في الشرق الأوسط، حيث أجد أصداء لتقاطعات كبيرة بينهما تلوح في الأفق. توضح بنديكتا ويندت-فال Bendedicta Windt-Val في مقالتها «الأسماء الشخصية والهوية في السياقات الأدبية» Personal Names and Identity in literary Contexts نقطة مهمة حين تشير إلى أن هويتنا «مرتبطة على نحو وثيق وحميم بالأسماء والتسميات الشبيهة بالأسماء التي نمنحها إلى أنفسنا، أو إلى الأشخاص المحيطين بنا». إن الاسم الشخصي هو نتيجة لخيار متعمد ومناسبة للاختيار، ويعمل كحامل لجوانب من هويتنا الاجتماعية الثقافية، ويكشف، في سبيل المثال، عن طبقتنا أو هويتنا الدينية. وهذا ما أراه يحمل معنى خاصاً في حياة المرأتين (B. Windt-Val, 2012)..
سُميت آمال فهد الأطرش، ذات الصوت الأوبرالي السخي المفعم بالشجن، أسمهان على اسم مطربة فارسية يتشابه صوتاهما في قوته. كما ارتبط اسم اسمهان ذو الأصول التركية بالسمو والعلو والارتفاع، وربط قصتها بالتفرد: تفرد الصوت والحكاية والتجربة الإنسانية الغرائبية التي حفرت كعلامة فارقة في الذاكرة الإنسانية. للأسف، بقدر ما كانت أسمهان تبحث عن هذا العلو فإن دوافع غريبة وغامضة جرتها إلى القاع، حيث النهاية المأساوية. أما فروغ فرخزاد، التي يحمل اسمها معنى الضوء، وهو بالفعل الضوء الذي أنار سماء الشعر الفارسي، فقد كان دخولها الأدب الفارسي شعلة منيرة أشعلت الأنوار والحرائق معاً، فكانت المضيئة المتألقة في الثقافة الإيرانية، والمحترقة بنار الأسرة التقليدية والفقد والحزن. إن الأسماء «تعمل على مستوى الفرد (الذات) والهوية الجماعية في المجتمع». تُلاحظ ويندت – فال، أن علماء النفس، على غرار ألبورت وديون، قد خلصوا إلى أن «اسمنا الـمُعطى هو النقطة المحورية التي ننظم حولها شخصيتنا»، ويمكن أن يؤثر على نحو إيجابي أو سلبي في تطور الأفراد. (B. Windt-Val,2012) ومن هنا، كان لاسم كل منهما بصمة خاصة على هويتيهما وطموحيهما الشخصيين.
ولدت أسمهان في الربع الأول من القرن العشرين، في ظروف مضطربة، على متن سفينة في البحر تقل أسرتها هرباً من الجيش العثماني، تنتمي لأسرة الأطرش، الأسرة العريقة ذات التاريخ المشرف في النضال ضد الاستعمار. أما فروغ التي ولدت في الربع الثاني من القرن العشرين، فهي أيضاً ابنة أسرة من الأسر العريقة في إيران، فوالدها كان يعمل في السلك العسكري، ويتسم بالصرامة التي لا تقل حدة عن صرامة والد أسمهان، ولاحقاً سنرى أنهما يحملان القوة المعارضة نفسها لدخول ابنتيهما المجال الإبداعي: فروغ في كتابة الشعر، وأسمهان في غناء الشعر.
تنتمي كلتا المبدعتين إلى ثقافة اجتماعية محافظة وتقليدية، حاصرت إبداعيهما منذ بداية خطواتهما الأولى. لذلك فرتا، في بداية الطريق، إلى عش الزوجية، بحثاً عن الأمن والحب والدفء، وهروباً من نداء الأصوات التي تسكنهما وتحثهما على الاتجاه نحو إعلان ذاتيتهما في الغناء وكتابة الشعر. هذا الهروب المؤقت الذي امتد لسنوات قليلة ولد حكاية أمومة مبتورة ومسلوبة، خرجت عن دورها الاجتماعي ووظيفتها الاجتماعية، وتسبب بألم وشرخ كبيرين في قلب الأُمين والأبناء. لقد تزوجت اسمهان من الأمير حسن الأطرش، الذي حاول أن يحل مأزق العائلة الرافضة لغناء ابنتهم، فارتبط بها وأبعدها عن دائرة الأضواء والفن، من القاهرة إلى السويداء، من الشهرة والحياة الصاخبة، إلى الهدوء والركود والحياة الجبلية الرتيبة والمعزولة عن مظاهر الحياة. وتزوجت فروغ من ابن الجيران برويز شابور، وانتقلت معه إلى منطقة الأهواز، وهي منطقة بعيدة عن كثير من مظاهر الحياة التي توجد في طهران. بعد زواج استمر مدة ست سنوات، قررت أسمهان الانطلاق مجدداً إلى الفن، والاستجابة إلى الأصوات التي تناديها، وتركت الطلاق قراراً بيد الأمير المكلوم في حبه، بعد ولادة كاميليا التي حرمت بعد سنوات من أمها. فروغ، من جانبها، اتخذت موقفاً مشابهاً لأسمهان فقررت أن تواجه رتابة حياتها في الأهواز بالانطلاق في كتابة الشعر فكتبت نصاً شعرياً جريئاً وصادماً بعنوان «ذنْب»، وتوجهت نحو إحدى الصحف ونشرته، دون أدنى تفكير في زوجها وأسرتها وردة فعل المجتمع، ما ولد ردة فعل اجتماعية عنيفة وقاسية. وكانت أولى تبعات هذا النص، هو الطلاق، من ثم الحرمان من ابنها كامي.
في ما يخص علاقة كل واحدة منهما بزوجها، كانت العلاقة تحمل طابع التناقض، فهي علاقة محبة صادقة وشغف، تحطمت أمام مقصلة العادات والتقاليد، وعدم قدرة الزوجين على تحمل تبعات الزواج من امرأتين مبدعتين تعبران عن إبداعهما بطرائق مختلفة. حضور الصوت عبر الأغنية والقصيدة، كان اختراقاً كاملاً لإملاءات المؤسسة الاجتماعية على الحياة الزوجية، بالإضافة إلى السلوكيات المتحررة، التي لم يقبل بها المجتمع التقليدي آنذاك. لم يحتمل الأمير حسن الأطرش سلوكيات اسمهان، وإصرارها على الغناء، فقرر الانفصال عنها بعدما صبر عليها كثيراً. أما فروغ فإن زوجها انفصل عنها بعدما تجرأت وكتبت قصيدة «ذنُب» ونشرتها، كما ذكرت آنفاً.
الحياة الأسرية في المجتمعات البطريركية
على الرغم من أن المرأتين من بلدين مختلفين، فإنهما كانتا خاضعتين لثقافة شرقية تقليدية تتغذى من الجذور المحافظة والتقليدية نفسها. كانت أسمهان تنتمي لأسرة الأطرش المحافظة على تقاليدها، والساعية إلى ترسيخ مكانتها السياسية في بلاد الشام والدفاع ضد الاحتلال الفرنسي وحرية الشعوب العربية في الدفاع عن استقلالها، وهذا ما زاد الأمر سوءاً. فيما كانت فروغ ابنة واحدة من أشد الأسر تقليداً ومحافظةً، فوالدها عقيد في الجيش، والتكوين الثقافي والاجتماعي لأمها لا يتجاوز تكوين أي امرأة تقليدية في إيران.
على الرغم من هذه الخطوات الإبداعية الواعدة، فإن هناك بعض الخطى المتأرجحة التي تنبئ عن عدم الوقوف على أرض صلبة. تقول فروغ عن تربية والدها: «لقد عودنا والدنا منذ نعومة أظفارنا على كل ما يطلق عليه اسم «الصعوبة»، نمنا وكبرنا في البطانيات العسكرية، بينما كنت تجد في المنزل، ولا تزال، البطانيات الناعمة الفاخرة». (خليل علي حيدر، 2017) كانت ردود فعل فروغ وتلقيها لهيمنة المجتمع المحافظ أشبه بردود فعل أسمهان: «تصرخ. تضرب وتيأس. تدخل في قوقعتها. تتشاجر وتضرب. تسخط» (ميلاني). وحتى في علاقاتهما الأخوية ثمة تشابه كبير يتضح في وجود أخوة موهوبين يقدرون الإبداع ويدعمونه. بالنسبة لأسمهان كان شقيقها فريد المطرب الناشئ الذي لم يحقق نجاحه الحقيقي إلا بعد وفاتها، والذي كان يؤمن بأن الكثير من الوقت لا يزال أمامه، في حين كانت هي تسابق الزمن والموت. وفروغ كان لديها شقيق يدعى فريدون. ولنلاحظ تشابه الاسمين صوتياً، هنا اسم فريدون: هو ملك وبطل أسطوري إيراني من سلالة بيشداديان، يُعرف بأنه رمز النصر والعدالة والكرم في الأدب الفارسي. أما فريد فهو اسم علم مذكر عربي، وهو صيغة مبالغة من «فرْد»، وهو الرجل الذي لا نظير له، وفي اللغات الأجنبية يمكن أن يعتبر اختصاراً لاسم فريدريك، الذي يعني الحاكم المسالم. كان شقيق فروغ شاعراً ناشئاً، في بداية طريقه، وكان قريباً ومتعاطفاً معها تعاطف فريد مع أسمهان.
من الناحية المادية، لم تهتم أي منهما بجمع المال؛ فكانت أسمهان مسرفة على نحو مفرط، وتقع دائماً في مشاكل مادية، يحلها لها دوما ابن عمها الأمير حسن الأطرش، على الرغم من فرص الثراء الكبيرة التي سنحت لها. وفروغ بدورها كانت تعتني بأناقتها، ومصروفاتها الشخصية والابن الذي تبنته، ولا تمتلك كثيراً من المال، على العكس مما كان يشاع عنها. لذلك يمكن القول إن علاقتهما مع المال كانت لسد نفقات الحياة لا أكثر، على الرغم من الإمكانيات الهائلة التي كانت متاحة لهما في ذلك الزمن.
البحث عن الذوات الإبداعية
يقول أمير سعود، إن أخته كتبت الشعر في سن الرابعة عشر، مثلما كانت بداية اسمهان في الغناء في السن ذاتها تقريباً: «كانت فروغ مرحة، عذبة، منذ الرابعة عشرة لديها حزنها، وتقول الشعر خفية، كانت رائدة وعاشقة، لا تتظاهر، كانت منزوية وبعيدة النظر» (ميلاني 2016). بمقارنة إنتاجيهما الإبداعيين، كان صوت أسمهان متفردا قوياً ملائكياً موعوداً بكثير من النجاحات في مجتمع دخلت فيه المرأة مجال الغناء للتو. اختلفت بغنائها وصوتها واختياراتها عن كثير من فنانات عصرها. لقد كان صوت أسمهان صوتاً متفرداً لا يشبه صوت أحد، كما يقول النقاد، ينشد الحرية والسعادة، وخلق فجوة كبيرة بينها وبين المبدعين، الذين عاصروها لدرجة أن بعض الدراسات تقول، إن الفنانين لم يستطيعوا أن يتقدموا خطوة للأمام في حياة أسمهان ووجودِها في الساحة الفنية.
أما فروغ، فقد واصلت تعليمها وسفرها في تكوين ذاتها، وخلقت هي ومجموعة من الأدباء نهضة أدبية مختلفة في إيران. فأعلنت عن أفكارها الشعرية بوضوح، وعملت في منظمات إنسانية مهمة، وسافرت للخارج لإكمال دراساتها والاطلاع على الثقافة الأوروبية، والمشاركة في إخراج الأعمال السينمائية للأفلام التي شاركت فيها مع صديقها إبراهيم كلستان. هذا البحث الدائم عن الذات ولد عندها رؤية متطورة للشعر، وفهماً يغاير السائر والمألوف في الساحة الثقافية النسائية الإيرانية آنذاك. تقول لفريدون: «إذا كنت تريد أن تكون شاعراً، فعليك أن تضحي بحياتك للشعر. تخل عن أشياء واعتبارات كثيرة. ضع جانبا الكثير من ألوان السعادة البسيطة المشيعة للرضا. ابنِ جداراً حول نفسك ثم ابدأ من جديد داخل هذا الوسط والجدار الميلاد والتشكل والتفكير واكتشاف المعاني المختلفة والمفاهيم المتنوعة. هذا ما أقوم به ـ إلا أنه مرّ شديد المرارة» (خليل حيدر 2017)،
هذا ما حدا بصديقها المقرب المخرج الفارسي إبراهيم كلستان أن يقول عن تجربة فروغ فرخزاد الشعرية إنها تجربة لم يكن لها أن تملك أهمية لو لم تكن شاعرة نسوية وتطرح قضايا مهمة. فليكن ذلك، لأن فروغ هي أول شاعرة إيرانية طرحت قضايا المرأة، وبحثت عن تفرد صوت المرأة في المجتمع الإيراني، حيث بقية الكاتبات يخفين هوياتهن خلف أقنعة الأدب الذكوري.
ألفت الناقدة الأمريكية الإيرانية فرزانة ميلاني كتاب «فروغ زاد: الرسائل السرية والسيرة الأدبية» وهو يمثل سيرة ذاتية عميقة لفروغ، تغوص في تفاصيل كثيرة، وتحلل موقع فروغ فروغ زاد في الثقافة الفارسية المعاصرة، باحثة في تفاصيل حياتها الأسرية وتكوينها الفكري والثقافي، وصورة المجتمع التقليدي الذي خرجت منه فروغ، محاولة التحرر من هيمنته وسلطته الأبوية قدر المستطاع. بحثت ميلاني كثيراً في تفاصيل حياتها، وحاولت الغوص في المسكوت عنه، وكانت دائرة المسكوت عنه حول فروغ تتسع كثيراً، ولا تزال في بعض المناطق مغلقة الإحكام، وهناك الكثير ممن لا يريد الحديث عن فروغ لإشكالية طرح اسم شاعرة جريئة في زمن يزداد تمسكاً بالعادات والتقاليد. وبدورها فروغ، كانت بقصائدها تبكي ذاتها، أسْرها، والقيود التي كبلتها، معبرة عن المرأة الإيرانية بطريقة جديدة لم تكن موجودة في زمنها.
نهايات مؤلمة لبدايات مبتورة
حتى في الموت ثمة تشابه كبير. بعد محاولات مضنية للتخلص من الحياة بمحاولات الانتحار المتوالية أتت النهاية. النهاية كانت في حادث سير غالباً ما يقال عنه إنه مدبر. ماتت أسمهان في المياه التي ولدت فيها، بعد سقوط السيارة في بحيرة على طريق رأس البر. أما فروغ فقد ماتت في حادث سير. بالنسبة لأسمهان هي كانت عن وعي وإدراك تسابق الزمن، لأنها كانت تدرك في قرارة نفسها أنها لن تعيش طويلاً بعدما قرأ لها كف قدمها عراف في مصر، وقال لها: «أنت ولدت في البحر، وستموتين في البحر». يتمثل هذا الإدراك في محاولتها السفر والاستمتاع بكل تفاصيل الحياة بعيداً عن أي قيود وإملاءات، وهذا، من وجهة نظري، ما قادها إلى الهلاك. قالت اسمهان لمحمد التابعي عندما نصحها بالتركيز على إبداعها فقط: «وهل أنت تضمن لي أن أعيش هذه السنوات الخمس؟ أو أعيش بعدها لكي أتمتع بالثروة التي أجمعها؟ صدقني إنني لن أعيش طويلاً.. بل إني أشعر بأنه لم يبق من العمر إلا أقله! دعني إذن أعيش اليوم كما أشتهي!» (محمد التابعي 2008). لكن فروغ بالمقابل، كما يقول خليل علي حيدر عنها: «لم يكن ثمة ما يدل في حياة فروغ على إنها ستموت مبكراً؛ في الثانية والثلاثين من العمر، ومع هذا لا نستطيع اليوم، ونحن نستعرض سيرتها وسنوات عمرها ومنجزاتها، أن نتجنب الشعور بأنها في الواقع كانت تسابق الزمن، وتهرول من مجال إلى مجال، وتقفز من غصن إلى غصن، وتصطدم بالواقع الاجتماعي» (نصوص نثرية، ترجمة خليل علي حيدر 2017).
حول مشهد الموت، موت فروغ، تقول فرزانة ميلاني: «وكأن فرخزاد رسمت مشهد موتها طبق رغبتها. كانت تحب الحركة، ودّعت العالم في سيارة كانت تتحرك. كانت تجد السرعة تسلية «الاختناق والصمت» الداخلي ويخفف عنها «حمل المسؤولية»، أغلقت عينيها وهي خلف مقود سيارة مسرعة» (ميلاني 2019). هذا ما رسمته فروغ في آخر مجموعة شعرية لها «فلنؤمن بطليعة الموسم البارد» نشرت عام 1974، بعد وفاتها بسنوات، في قصيدة تحمل عنوان المجموعة نفسه، متنبئة بنهاية حياتها قائلةً:
فلنؤمن بطليعة الموسم البارد
فلنؤمن بانهدام بساتين التخيلات
بالمناجل المقلوبة العاطلة
بالبذور المسجونة
انظر كيف يهطل الثلج
ربما الحقيقة تلك اليدان الشابتان
تلك اليدان اللتان دفنتا تحت هطول الثلوج. (فرخزاد 2017)

كاتبة كويتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب