الأكراد وتركيا… وإسرائيل
الأكراد وتركيا… وإسرائيل
إسلام أوزكان
لقد أدّت التحولات الكبرى في الظروف المحيطة بتركيا وحزب العمّال الكردستاني إلى دفع كل من الدولة التركية والحزب إلى مسار يضطرّهما لإنهاء الانتفاضة الكردية التي استمرّت خمسين عاماً. وهذا ما جعل قرار الحزب بوضع السلاح احتمالاً قوياً. بالطبع، كان بإمكان «العمال الكردستاني» ألّا يتخلّى عن السلاح، ولا يمكننا القول إنّ هذا القرار كان حتمياً أو إنه لم يكن أمامه خيار آخر. فقد أشار القيادي الكبير في الحزب، مراد قره يلان، إلى أنّ لديهم بدائل في إقامة علاقات مع دول أخرى.
لكنّ التطورات التي حقّقتها تركيا في مجال تكنولوجيا الطائرات بدون طيار والضربات التي وجّهتها لنضال الحزب العسكري، إلى جانب توسّع نفوذ الجهات الإقليمية، وعلى رأسها تركيا، تسبّبت في تضييق مجال نضال الحزب. كلها عوامل دفعت عبدالله أوجلان إلى اتخاذ خطوة نحو حلّ التنظيم ونقل نضاله من المجال المسلّح إلى النضال الديموقراطي.
طالما اعتبر قادة «العمال الكردستاني» النضال المسلّح وسيلة لإبراز قضايا الأكراد وإيصال صوتهم، لا عاملاً مباشراً لتحقيق تحرّرهم. وكان أوجلان يدرك منذ البداية استحالة إسقاط دولة تمتلك جيشاً قوياً وعضوية في حلف «الناتو»، ما يضمن حمايتها أمام الغرب، عبر النضال المسلّح.
مبادرات عملية التسوية التركية وموقف بهجلي
تنطبق هذه الظروف، ليس فقط على الحزب، بل على الدولة التركية أيضاً. هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها أنقرة إيجاد حلّ للقضية الكردية. فقد شهدنا مبادرات مماثلة في عامي 2009 و2013، لكنها باءت بالفشل. كان من المتوقّع منذ مدّة طويلة أن تتّخذ الدولة خطوة مماثلة، لكنّ تصاعد التوجّهات السلطوية في إدارة إردوغان جعل ذلك يبدو غير مرجّح.
فكيف يمكن لإدارة لا تهتمّ بالديموقراطية وتزداد صرامة أن تقبل بالجلوس على طاولة المفاوضات مع الأكراد وتوقيع اتفاقية ديموقراطية؟ لكن في تشرين الأول 2024، قام زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، حليف إردوغان، بخطوة مفاجئة بدعوة أوجلان إلى البرلمان التركي وطلب منه دعوة تنظيمه إلى الحلّ. ورغم أنّ هذه الخطوة بدت مفاجئة، إلا أنها أعطت انطباعاً بأنها جاءت بعد استعدادات ومشاورات مسبقة.
ما الذي دفع بهجلي، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيروقراطية العسكرية والمدنية في الدولة، إلى هذه الدعوة؟ يمكن اعتبار هذه الخطوة التركية استجابة لعدم الاستقرار الناتج عن تصاعد العدوانية الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر، وخاصة كإجراء لاحتواء «قوات سوريا الديموقراطية» أو «وحدات حماية الشعب» ضمن وحدة الأراضي السورية وتقييد طلباتها للحكم الذاتي.
تزايد نفوذ تركيا في سوريا عبر «هيئة تحرير الشام» و«الجيش الوطني» السوري يجعل حلّ القضية الكردية أكثر اندماجاً مع الديناميكيات الإقليمية. لكنّ نجاح هذه العملية يبدو مرتبطاً بحلّ التوتّرات بين تركيا والجماعات الكردية في سوريا، خاصة «وحدات حماية الشعب» و«قسد».
في الداخل، يواجه حزب العدالة والتنمية وزعيمه إردوغان ضغوطاً متزايدة بسبب تقدّم المعارضة ونجاحاتها الانتخابية، فضلاً عن فشلهم في كبح التضخّم ومواجهة الأزمة الاقتصادية، ممّا تسبّب في تآكل شعبيّتهم. يمكن أن توفّر عملية التسوية الجديدة فرصة لإردوغان لاستعادة أنفاسه، عبر جذب حزب الشعوب الديموقراطية إلى جانبه، يسعى إردوغان إلى تغيير مادة الدستور التي تمنعه من الترشّح لولاية ثالثة، ما يخلق توازناً جديداً للتحالفات يتيح له الترشح مجدّداً. يُعدّ هذا أحد أهم الدوافع السياسية الداخلية للعملية.
إذا تم التوصل إلى حلّ مع الأكراد، فقد يعزّز ذلك دور تركيا في سوريا (عبر «هيئة تحرير الشام» و«الجيش الوطني»)، ما يغيّر توازن القوى الإقليمية. لكنّ هذا قد يؤدّي إلى مواجهة تركيا مع إسرائيل في الميدان السوري، فيزيد من توتّر العلاقات مع تل أبيب. ومع ذلك، تشير المحادثات المباشرة وغير المباشرة بين دمشق وإسرائيل في أبو ظبي وباكو إلى أنّ دمشق، وبدعم من أنقرة التي تنظّم هذه المحادثات، تسعى إلى استقرار إقليمي عبر «السلام» مع إسرائيل بدلاً من مزيد من التوتّر. تعكس هذه المحادثات سعي تركيا إلى حلّ القضية الكردية وفي الوقت ذاته تحقيق توازن مع الجهات الإقليمية.
موقف أوجلان من إسرائيل والتموضع الإستراتيجي
من ناحية أخرى، تُعدّ تصريحات أوجلان بشأن إسرائيل مؤشراً مهماً على التحالفات التي يجد الحزب نفسه محصوراً بينها وخياراته الجيوسياسية. في محاضر المحادثات في إمرالي، يُطلق أوجلان تصريحات بارزة حول إسرائيل، لكن من الصعب تحديد ما إذا كان يقول هذه الكلمات بدافع الإيمان بها أم لدعم عملية التسوية مع السلطات التركية والحصول على موافقة الدولة. ففي عام 1999، عندما أُلقي القبض عليه، قال أشياء كانت سترضي الدولة التركية، وإن لم تكن مرتبطة مباشرة بإسرائيل. لكن، بالنظر إلى مشاركة «العمال الكردستاني» المباشرة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في بيروت عام 1982 ودخوله في صراعات، هناك أسباب كثيرة تدعونا للاعتقاد أنّ تصريحاته حول إسرائيل تعبّر عن آراء صادقة.
تتشكّل عملية التسوية الجديدة عبر الحسابات السياسية الداخلية لتركيا والتوازنات الجيوسياسية المعقّدة في الشرق الأوسط
يشير أوجلان إلى دور «الموساد» وإسرائيل غير المباشر في القبض عليه عام 1999، مؤكّداً أنه كان يُعتبر تهديداً لإسرائيل، ويروي تلك الأيام قائلاً: «كانوا يقولون لي: غادر دمشق، سنعطيك ما تريد. قالوا إنك تهديد كبير لأمن إسرائيل. هل كان وزير الخارجية آنذاك، شامير؟ إسحاق شامير. في 1982، قالوا: ماذا تريد منا؟ لماذا تستخدم هؤلاء الشباب ضدنا؟ وقال قره يلان إنّ لدينا بدائل على مستوى الدول، هكذا أخبرني الأصدقاء اليوم. إسرائيل تريد استخدام هذه الورقة بفعالية كبيرة. عندما ذهبت إلى إيطاليا، كان الموساد يحيط بي، وكذلك وكالة الاستخبارات المركزية، حسبما قال صحافي. في مكان مثل موسكو، قال شخص: يمكننا أن نأخذك من يد الكي جي بي ونخبّئك.
لديهم تلك القوة. بالطبع سآخذ إسرائيل على محمل الجدّ وأتعامل معها بشكل صحيح. إذا لم أفعل، فإنّ حياتي ستكون في خطر. لقد حلّلوا الوضع بشكل أفضل منّي. من يستطيع ربط الموقف الإستراتيجي للأكراد في الشرق الأوسط بنفسه، سيحقّق التفوق في المنطقة. لقد اكتشفوا ذلك قبلي. كنت أسمّيها البروتو-إسرائيل. لقد حقّقوا القرن الأول عبر علاقة إستراتيجية مع تركيا. في ذلك القرن، قاموا بتثبيت موقف إسرائيل».
نقد أوجلان لـ«قسد» وتأثير إسرائيل
ينتقد أوجلان، على وجه الخصوص، «قوات سوريا الديموقراطية»، معتبراً إيّاها تحت تأثير إسرائيل. يقول: «يريدون بناء إسرائيل كقوة مهيمنة تضع الإستراتيجية في الشرق الأوسط. إنها إستراتيجية من خمس مراحل. تم الانتهاء من المراحل الثلاثة الأولى: غزة، لبنان، وسوريا. بقيت مرحلتان: إيران وتركيا. الأكراد هم عنصر لا غنى عنه في هذه الإستراتيجية. كيف تستحوذ إسرائيل على هذه العلاقة وكيف تريد استخدامها؟ هم الآن يركزون فقط على إزالتي. قنديل ليست عندها القدرة العقلية لمنع هذا. قنديل تحت تأثير إيران، وقوات سوريا الديموقراطية تحت تأثير إسرائيل. أنا الوحيد الذي يمكنه منع هذا».
«مشبّهاً قسد بجيش تابع لإسرائيل»، يقدّم أوجلان القدرة العسكرية المتزايدة للتنظيم كدليل على هذه النظرية: «(مخاطباً مسؤولاً) كان هناك شخص مثلك يجلس هناك. قلت إنّ قوات سوريا الديموقراطية ستصبح قوة مئة ألف، فانزعج، لكنك لم تنزعج، وقد حدث ذلك. لقد خلقت إسرائيل الحشد الشعبي الخاص بها. قال قره يلان إنّ لدينا تقنية تمكّننا من الدفاع عن أنفسنا من مسافة 800 كيلومتر. من أين يحصل على هذا؟ إمّا أنّ إيران قدّمته أو إسرائيل».
يدعو أوجلان «قسد» إلى «توسيع نطاق تأثيرها وإنشاء أرضية ديموقراطية»، قائلاً: «سيكون هذا التحالف في المقام الأول في سوريا. تركيا ستضيف تركيا إلى هذا. هناك فئة من العشائر، وهناك لوبي عربي أيضاً، لا ينبغي أن ننخدع بهم. سوريا تساوي قيمة تركيا. لا ينبغي أن يفسّر أحد نقاشي على أنه محاولة لخلق ممرّ». ويضيف: «إسرائيل تعمل منذ 30 عاماً. إسرائيل تقدّم لنا وعوداً بالدولة من تحت الطاولة منذ 30 عاماً. قنديل تحت تأثير إيران، وقوات سوريا الديموقراطية تحت تأثير إسرائيل».
ورقة أوجلان الإستراتيجية: معاداة إسرائيل أم التعاون معها؟
كما أشار رئيس تحرير موقع «ميدياسكوب»، روشان تشاكر، تبدو تصريحات أوجلان للوهلة الأولى وكأنها مستمدّة من نصوص معادية لإسرائيل للبروفيسور نجم الدين أربكان. لكن هناك فرقاً جوهرياً: لا يظهر أوجلان –على الأقل في هذا النص– أي كراهية أو عداء تجاه إسرائيل أو اليهودية. بدلاً من ذلك، يمكننا القول إنه لا يريد أن تكون إسرائيل القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، ويعتمد إستراتيجيات لمنع ذلك، وفي هذا السياق، يسعى إلى نوع من «الشراكة الإستراتيجية» مع الدولة التركية. وبالتالي، يتّضح أنّ أوجلان يستخدم خيار الوقوف إلى جانب إسرائيل أو ضدها كأقوى أوراقه في مفاوضاته مع أنقرة.
لطالما تبنّى حزب العمال الكردستاني موقفاً معادياً للصهيونية ونهجاً نقدياً تجاه إسرائيل. فعلى سبيل المثال، أدان القيادي في الحزب مصطفى قره سُو، في عام 2018، قرار الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ودافع عن أن تكون القدس ذات وضع خاص يحترم جميع الأديان. كما أنّ مشاركة الحزب في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان عام 1982 وخسائره في تلك المدّة معروفة.
في التسعينيات، كان هناك تعاون بين تركيا وإسرائيل ضد الحزب؛ إذ تم توقيع مذكرة تعاون عسكري بين البلدين في عام 1996، ويُزعم أنّ إسرائيل أدّت دوراً غير مباشر في القبض على أوجلان في عام 1999. لكن في السنوات الأخيرة، ظهرت تصريحات تشير إلى دعم إسرائيل لـ«وحدات حماية الشعب»/حزب العمال الكردستاني كعامل موازن ضد إيران، إذ إنّ نائبة وزير الخارجية الإسرائيلية، تسيبي هوتوفلي، أعلنت في عام 2019 دعمهم لـ«وحدات حماية الشعب» ضد العمليات التركية في سوريا.
تتشكّل عملية التسوية الجديدة عبر الحسابات السياسية الداخلية لتركيا والتوازنات الجيوسياسية المعقّدة في الشرق الأوسط. تكشف انتقادات أوجلان لإسرائيل عن احتجاز حزب «العمال الكردستاني» و«قسد» بين تحالفات إقليمية متعارضة. تسعى تركيا عبر حلّ القضية الكردية إلى تحقيق ميزة في السياسة الداخلية وتعزيز نفوذها المتزايد في سوريا. لكن هذه العملية تحمل مخاطر التوتّر مع إسرائيل. تعكس المحادثات مع دمشق ووساطة تركيا سعياً إلى تحقيق استقرار إقليمي، لكن الروابط المزعومة لـ«قسد» مع إسرائيل تزيد من هشاشة العملية. يظلّ دور أوجلان في هذا السياق حاسماً في المفاوضات مع تركيا وفي التوازنات الإقليمية.
* كاتب تركي