ثقافة وفنون

محمد أبو ليلة… خالدٌ على جدران غزة

محمد أبو ليلة… خالدٌ على جدران غزة

ظلّ المحترف التشكيلي الفلسطيني شاهداً على النكبة ومآسيها. وها هو اليوم يواجه حرب الإبادة في غزة بخسارة فنانين وأعمالهم. استشهاد محمد أبو ليلة كشف حجم الفقدان، إذ قدّم جداريات وبورتريهات عابرة للفصائل والجغرافيا

أحمد مفيد

تُعَدُّ النكبة موضوعاً بارزاً في الفن التشكيلي الفلسطيني. يرى عدد من مؤرّخي الفن أمثال كمال بلاطة وبشير مخول أنّ النكبة ــ بظروفها الكارثية على الشعب الفلسطيني ـــ تمثّل الحدث الأبرز في تشكيل الهوية الفنية الفلسطينية المعاصرة، فتبعاتها أنتجت رموزاً بصرية وممارسات وعلاقات لم تكن قائمة قبلها.

أما اليوم، ومع استمرار الإبادة ضد أهلنا في قطاع غزة، فتتشكّل هوية بصرية وممارسات فنية جديدة. إلا أنّ أبرز تأثيرات حرب الإبادة في الفن التشكيلي وأكثرها وضوحاً يتمثل في استشهاد الفنانين أنفسهم، وتدمير أماكن عملهم وأعمالهم الفنية.

عابر للفصائل والجغرافيا
يوم الخميس 17 أيلول (سبتمبر)، أُضيف إلى القائمة الطويلة للشهداء الفنانين في قطاع غزة، التشكيلي الفلسطيني محمد أبو ليلة. الأخير تشكيلي من مدينة غزة متخصّص في رسم الجداريات، وهو من مؤسّسي «منتدى الفن التشكيلي»، وله مشاركات عدة في المناسبات الوطنية. تعلّم محمد الفن بالممارسة العملية الميدانية، بالإضافة إلى موهبته الفذة وعينيه اللتين تريان التفاصيل الدقيقة.

عند تصفّحنا لوسائل التواصل الاجتماعي للفنان الشهيد، نرى أعمالاً فنية متنوعة تشمل الفن التشكيلي والجداريات والغرافيكس والرسم الرقمي.

ورغم أنه لم يكتب إلا منشورات قليلة بعد حرب الإبادة، إلا أنّ منصاته تحتوي على عدد من الأعمال الفنية التي نشرها في مناسبات مختلفة. فقد رسم شهداء التصعيدات المختلفة، مثل بورتريهات للشهيد خالد منصور، والشهيد تيسير الجعبري، وطارق عز الدين، وعلي أبو غالي. والجميل فيه أنّه فنان عابر للفصائل والجغرافيا، منتمٍ للشهادة ومقولتها وتضحيتها من دون أي فئوية.

محمد أبو ليلة

في الوقت الذي صمّم فيه ملصقات لشهداء «الجهاد الإسلامي» الذين اغتيلوا في تصعيد أيار (مايو) 2023، نراه في الوقت نفسه قد صمّم ملصقات لشهداء «الجبهة الشعبية» في المعركة ذاتها، أمثال محمد أبو طعيمة وعدي وفؤاد اللوح.

كذلك، صمّم ملصقاً لـ «أسد العرين» إبراهيم النابلسي من الضفة الغربية. أما عن الأعمال الجدارية، فجدران غزة تشهد على أعماله الفنية الرائدة في المناسبات الوطنية، وكذلك للمؤسسات المحلية، حيث نرى جداريات لمدارس وروضات تُصوّر المسجد الأقصى، بالإضافة إلى جمل بخطوط عربية جميلة جداً.

رحيل صدمَ الرفاق
يقول الفنان علاء أبو سيف، أحد رفاق محمد أبو ليلة، معبِّراً عن صدمته العميقة بخبر استشهاد صديقه: «إنها صدمة كبيرة جداً، وما زلت غير قادر على استيعابها».

ويضيف أنّ محمداً تعلّم الفن بالممارسة، وخضع لدورات في جمعية «الهلال الأحمر الفلسطيني» عام 2002، ومارس الفن وشارك في عدد من المعارض المحلية والدولية، وكان أحد مؤسّسي «منتدى الفن التشكيلي». كما شارك في عدد من المناسبات الوطنية عبر رسوماته على جدران غزة، وكان الكثير من أعماله ذات طابع جداري.

 

ويضيف محمد الحاج أنّ الفنان الشهيد كان رفيق الفنان الشهيد ثائر الطويل، الذي استشهد برفقة عائلته في مدينة غزة على إثر تعرضهم للقصف الإسرائيلي في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023. وكانا قد أسسا معاً «منتدى الفن التشكيلي» وكان لهما نشاط واسع في مختلف أنحاء قطاع غزة.

ويشير إلى أنّ الفنان الشهيد لم يستطع مواصلة إنتاجه الفني بسبب ظروف الحياة الصعبة خلال الحرب، التي أثقلت كاهله كما أثقلت عدداً من الفنانين الآخرين. فهؤلاء تراجع نشاطهم وأجبروا على التخلي عن مواهبهم الإبداعية نتيجة قسوة الحرب والنزوح والفقدان، وصعوبة الظروف المعيشية، ونقص الأدوات والوقت والأماكن المناسبة للعمل والالتقاء.

بين مونيه ومعالم المأساة والحرب
على الصعيد التشكيلي، تظهر له أعمالٌ مُصوَّرة قبل الإبادة، يُظهر بعضها مشهديات لأماكن ساحرة وخضراء ومليئة بالطبيعة الأوروبية التي نراها في أعمال كلود مونيه وروّاد المدرسة الانطباعية في نهايات القرن التاسع عشر. وبالمفارقة، نرى في أعماله الأخرى صوراً قاسية جداً لمعالم المأساة والحرب التي يعيشها أهل غزة؛ فالجنازة اللانهائية، والأب الذي يحمل ابنه الرضيع شهيداً بملامح منكسرة وحزينة جداً، ووجوه تتداخل في ما بينها كأنّ الحرب أنستها ملامحها. ورغم أنّ هذه اللوحات قد رسمت قبل الحرب، إلا أنها تشبه كثيراً طبيعة المشاهد الصعبة التي نراها يومياً.

لوحة الشهيد (2016)

اللافت أنه رغم كل هذه الظروف الصعبة جداً، لا يزال الفنانون يتمسكون بممارستهم الفنية كتعبير إنساني ووطني، وكأداة لتسليط الضوء على معاناتهم ومعاناة شعبهم خلال حرب الإبادة. ويُضاف إلى ذلك عشرات المعارض التي تُقام حول العالم مستضيفةً فناني غزة، آخرها معرض «بينالي غزة» الذي يُقام في أثينا حتى الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر)، ويستضيف أربعين فناناً غزياً.

«بنت القمر» تُقاوم بالفنّ
ومن أبرز الأحداث، والأول من نوعه، تنظيم معرض فني تحت عنوان «بنت القمر» في وسط مدينة غزة في 28 آب (أغسطس) الماضي، بمبادرة من فنانات فلسطينيات شابات. جاء هذا المعرض بمنزلة فعل مقاومة جمالي تحت القصف والحصار، حيث قدّمت الفنّانات شهادات بصريّة حيّة عن معاناة المرأة الفلسطينية في زمن الحرب.

على مدى أكثر من 700 يوم، لا تزال غزة وأهلها يعيشون أصعب أيام البشرية مع استمرار الحرب. نخسر يومياً عشرات الأبرياء، من بينهم الفنانون. ومع استشهاد محمد أبو ليلة، يزداد الألم والحزن، وتتعاظم صعوبة مهمة فهم وتوثيق ما يحدث يومياً في القطاع، وكذلك حجم الخسارة العميقة التي تعيشها فلسطين في هذه الأيام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب