ثقافة وفنون

فيلم «البائع» بين آرثر ميلر وأصغر فرهادي وتحقق فكرة «العبور الثقافي»

فيلم «البائع» بين آرثر ميلر وأصغر فرهادي وتحقق فكرة «العبور الثقافي»

محمد عبد الرحيم

القاهرة ـ : منزل على وشك الانهيار، وزجاج إحدى شرفاته تصيبه الشروخ، وعرض مسرحي ينتهي بموت بطله، هذا الذي طالما تغنى بأمجاد ماضيه، حيث يُلاحقه الفشل الآن في كل شيء، وقد مات من اليأس بعد أن تحقق من مأساته، وقبل أن يموت أمام الجميع. في هذه الأجواء يدور فيلم «البائع» للمخرج الإيراني أصغر فرهادي ــ أوسكار 2016 ــ والذي كعادته يقوم بصياغة الأسئلة الكبرى من خلال تفاصيل حياتية صغيرة، كما في فيلميه السابقين «إنفصال» عام 2011 و«الماضي» 2013.

يحاول فرهادي تجسيد المناخ الذي عاشته شخصيات آرثر ميلر (1915 ــ 2005) في مسرحية «وفاة بائع متجول» 1949 من خلال شخصيات تعيش في المجتمع الإيراني، فالفيلم الـ (مستوحى) من النص المسرحي، يقدم مناخا ثقافيا آخر ومشكلات أخرى تخص مجتمعا مختلفا. ومن هنا تبدو فكرة «العبور الثقافي» من خلال الاقتباس أو التناص مع نصوص أخرى، سواء على مستوى البناء الدرامي، أو اختلاف الوسيط، كالانتقال من خشبة المسرح إلى السينما.

لومان الإيراني

ويلي لومان بطل «وفاة بائع متجوّل» ينتهي أخلاقياً الآن أمام ولديه، وقد اكتشفا علاقته بأمرأة أخرى. هكذا يبدأ الفيلم، حيث تقام بروفة العرض المسرحي، ويقوم عماد بطل الفيلم بدور لومان. الذي يحاول مداراة الفضيحة دون جدوى، وقد انهار تماماً كشخصية مثالية في عين ابنيه. سُلطة المُثل العليا نشاهدها في اللحظة الأولى وهي تسقط، تماماً كسقوط البناية التي يسكنها عماد وزوجته رنا. ليأتي المشهد الأخير بالمسرحية أمام الجمهور، وهو الموت الحقيقي لبطل آرثر ميلر كما قدّر له أن تكون نهايته في تابوت، بعدما سعى طيلة حياته لامتلاك بيت، وبمجرد دفع قسطه الأخير تنتهي حياته، ويصبح البيت هو مقبرته، والشاهد الأوحد على تاريخ وحياة ضالة ــ بيت عماد ورنا الموشك على الانهيار، والمعادل لانهيار حياتهما ــ وبعدما ينال عماد تصفيق الجمهور، يفر إلى مهمة أخرى يتم الإيحاء بها، وهي سقطة رجل أمام أولاده وزوجته ــ سقطة أخلاقية ــ يُصر عماد على إتمامها، حتى ولو كانت نتيجتها صعود روح رجل حقيقي، لا مجال أمامه لرحمة أحد.
أسئلة عديدة تدور، بداية من اختيار النص المسرحي الذي يقوم كل من بطلي الفيلم بتجسيده ــ هما نفسهما ويلي وليندا في المسرحية والبائع المُسن وزوجته في الحقيقة ــ وعلينا عقد المقارنة الدائمة الآن ما بين الحلم الأمريكي الزائف بتحقيق حياة متزنة ومُبهجة وإنسانية في النهاية، وحقيقة مآل هذه الحياة في حقيقتها. هذا الوعد المغرور يُقابله من ناحية أخرى الحلم الإيراني الآن، في ما يُصدّره لأفراده من امتلاك الحقيقة، ومحاولة صياغة العالم وفق رؤية السلطة الإيرانية وحلمها الوهمي. من هنا تتواتر التفاصيل لتكشف البناء الواهي، والموشك على السقوط، ومحاولة الجميع الفرار منه قبل أن يصبحوا كلهم أمواتاً، كحال بائع ميلر المتجوّل. فالمازق أخلاقي بالأساس قبل كل شيء.

الحكاية

الزوج والزوجة ينتقلان إلى بيت فوق أسطح إحدى البنايات، يرشحه لهما ممثل بالفرقة المسرحية ــ يعمل الزوج مُعلماً بإحدى المدارس ومُمثلا وزوجته بالفرقة ــ بالبيت حجرة مغلقة بها أغراض المستاجرة السابقة، التي تراوغ في الحضور لأخذ حاجياتها. يفض زميلهما الممثل الحجرة، ويستخرج أغراض المرأة، من أثاث وملابس إلى السطح. لكن حضور المرأة لم ينته، بل سيرسم تفاصيل الحكاية ويدفع إلى نهايتها. يعود الزوج ذات ليلة ليجد أثر دماء بالحمّام وحتى السلم الخارجي، فالضحية هي زوجته وقد أنقذها الجيران وذهبوا بها إلى المستشفى، وجهها مشوّه إثر الضرب الشديد. مَن الفاعل؟ وهل جاء للسطو أم وصل الأمر إلى مداه واغتصب المرأة؟ لتبدأ رحلة بحث الزوج، الذي تتكشف أمامه التفاصيل التي يجهلها شيئاً فشيئا. فالمُستأجرة السابقة بائعة هوى، وكثيرون يعرفونها ويقصدون بيتها دوماً. وهو ما كان يُخفيه عنه زميله وأحد رفاق المرأة. وفي النهاية سيصل الزوج إلى الفاعل، وهو رجل تعدّى الخمسين كان على علاقة وهذه المرأة. يُنكر الرجل اغتصاب الزوجة، ولا تقر هي بذلك، فلا يجد عماد سوى وسيلة وحيدة للانتقام، هي أن يجعل الرجل يعترف أمام زوجته وابنته وخطيبها بأنه كان يتردّد على بائعة الهوى.
كان عماد ذات يوم يستقل عربة تاكسي، تجاوره سيدة بالكرسي الخلفي، وبجانب السائق يجلس أحد تلاميذه. تنبهه السيدة بأن يبتعد عنها قليلاً، وبعد لحظات تطلب بأن تتبادل مكانها وهذا التلميذ، تخرج غاضبة من سلوك هذا المتحرش، وهو يكاد يختنق وقد جلس التلميذ إلى جواره، دون أن يستطيع النظر إليه. فهل تحرّش بالمرأة بالفعل؟ لا نعرف، إلا أن الحقيقة الوحيدة هو شعوره بالعار. هذا الشعور نفسه هو ما شعره ويلي لومان أمام ابنيه، وهو ما أصرّ عليه المدرس والممثل، المنتمي إلى فئة المثقفين، ممثل الفئة الاجتماعية حاملة القيم والوعي. يُصر في النهاية بأن يُشعر الجاني بمثل هذا الشعور أمام عائلته، بأن يعترف. وكما مات لومان بالنهاية في بيته، يصبح البيت الموشك على الانهيار هو مسرح هذه الأحداث، ما بين الرجل وزوجته والجاني وأسرته، وما الحوارات والمواجهات بين الزوج والزوجة التي كان لها أن تدور على خشبة المسرح، إلا أن تدور الآن وسط الجدران الآيلة للسقوط. يكاد العجوز أن تصعد روحه بالفعل وهو تحت رحمة نظرات عماد التي تدفعه إلى الاعتراف أمام امرأته وابنته، ونظرات الزوجة رنا التي ترجوه أن يكف. فيكتفي باستدعاء العجوز إلى إحدى الحجرات، ويصفعه، ليخرج الرجل ويسير بين أسرته وكأنه يسير في جنازته، ويسقط عند أبواب البناية في انتظار عربة الإسعاف. فهل مات بالفعل؟ لا نعرف ولا يهم!
من الطبيعي أن ينتهي العرض المسرحي، لكن الهزل الحياتي لن ينتهي حتى ولو غادر أبطاله. هذا الهزل الذي يكشف عن نفسيات وعلاقات هشّة، مهما تظاهرت أو ادّعت بغير ذلك. ولا يمكن فصل الاجتماعي هنا عن السياسي. هناك سعي دائم لترسيخ سياسة الإذلال هذه، ولا يهم أن تنهار الحياة تبعاً لذلك أو أن تفقد إنسانيتها، ومن دون أن تستعيد لحظة من هدوء. هناك حالة دائمة من الشك القائم، يبدأ في بيت بين زوج وزوجة، مروراً بمجتمع وسلطة حاكمة، ونظام كامل يتحتم سقوطه.

السرد

لم يعتمد الفيلم سرداً كلاسيكياً بالمعنى الأرسطي، لكنه أيضاً لم يعتمد سرداً لا خطياً، فلا استباقات أو استرجاعات (فلاش باك) زمنية، ولكنه اقتصر على تفتيت الحدث وفق الزمن الفيلمي نفسه، فجاءت مشاهد السيناريو متداخلة ما بين الحدث على خشبة المسرح وبين استكماله أو التنبؤ بما سيحدث من خلال أحداث الفيلم، كالمدرسة وشقة الزوجين الجديدة. وعقد حالة من التماثل بين موقف البائع العجوز في الفيلم وموقف ويلي لومان نفسه في النص المسرحي. مع ملاحظة أن شخصية ويلي لومان هنا يتم تجزئة تفاصيلها من خلال شخصيتي عماد/الممثل، والبائع.
حالة التداخل هذه بين الواقعي والتمثيلي ــ على خشبة المسرح ــ تتم من خلال تمثيل المشهد واستكماله في الحياة لتصبح الحياة نفسها لعبة تمثيلية لا تنتمي لأصحابها، فهم في الأصل يمثلون في الواقع. هذا التماهي ما بين الخيالي والواقعي، والسخرية المُضمرة من سلوكيات المجتمع المحافظ تتجلى في صورة فتاة الليل وحضورها الدائم من خلال ملابسها وأكسسواراتها في المكان، الوحيدة صاحبة التأثير الأقوى، رغم كونها الصورة المرفوضة والمُهمّشة أخلاقياً، بخلاف باقي شخصيات الفيلم، فهم جميعاً في موقع رد الفعل.
فالممثلة التي تقوم بدور صديقة ويلي لومان في العرض المسرحي، والتي للمفارقة تثير ضحك زوجها الممثل والمنفصلة عنه تتحدث بأنها لا تستطيع الخروج هكذا لتعبر غرفة لومان أمام ابنه وهي عارية ــ هكذا يقول نص آرثر ميلر ــ ولكنها بما أن العرض إيراني، فهي في كامل ملابسها، فحتى الحوار لا يستقيم وحال مَن يؤدونه على خشبة المسرح، والمتلقي/الجمهور يقبل هذا تماما!

وجهة النظر

لا أحد لديه القوة ليحكي الحكاية من وجهة نظره، لتصبح وجهة النظر السردية محايدة، فالموضوع أشبه بحكاية قدريّة، هناك راو محايد يراقب الأفعال ورودها من قِبل الشخصيات، ويترك للمُشاهد ــ وكأنه مُشاهد مسرحي ــ تقييم الموقف والحُكم على أفعال وتصرفات الشخصيات. فالفيلم لا يدين تصرفات شخوصه أياً كانت. فالتعاطف مع رنا وموقف عماد، لا يحول دون التعاطف مع العجوز صديق بائعة الهوى.

المكان

يبدأ الفيلم بضبط أجهزة الإضاءة لتتضح تفاصيل خشبة المسرح، حيث حجرة النوم، ثم غرفة المعيشة، وسرير يُشابهه آخر يجاوره في الجزء العلوي من المسرح، ليبدو منزل ويلي لومان، حيث تحيطه من الخارج أضواء المدينة وبناياتها الشاهقة.
الشقة الجديدة التي انتقل إليها الزوجان، فوق سطح بناية منخفضة، بحيث أيضاً تحيطها البنايات الشاهقة، فالمنزل متواضع، والسقف يُسرّب المياه. هناك حالة مزمنة من التشوهات والإيحاء بالنهاية أو الموت.. موت العلاقات أو موت أخلاقي بالأساس ستكشف عنه الأحداث. إضافة إلى أنه محاط بالزجاج، وكأن الفعل بالداخل على مرأى من الجميع، وهو ما يُشبه الفعل المسرحي.
كما تتشابه مدينة لومان ومدينة عماد، فالبنايات الشاهقة تطل على منزل كل منهما، كما تبدو آلة الحفر وكأنها وحش ليلي خرافي تمهيداً لإقامة بناية حديثة، ليرد عماد: «ما الذي يفعلونه بهذه المدينة؟! من الأفضل أن نهدمها ونعيد بنائها من جديد».

التكوين

ينشغل فرهادي دوماً بفكرة تقسيم الكادر بين الشخصيات من خلال الديكور، إما من خلال جزء من جدار أو زجاج، لتصبح كل شخصية في عزلة عن الشخصية الأخرى ــ نادر وسيمين على سبيل المثال ــ وفي البائع إن بدت شخصية بالكامل في جانب الكادر، تصبح الأخرى في الجانب الآخر، يخفي جزء منها جدار أو نافذة، وهو ما أصبح أساساً بعد الحادث، وابتعاد رنا وعماد عاطفياً، رغم وجودهما في المنزل نفسه، أو أن يظهر أحدهما بالكادر out of focus .
المشهد الأخير بالفيلم، وهو استعداد الجميع لليلة عرض جديد، يبدو الوجوم على عماد ورنا، مستسلمين لوضع الماكياج، وكأنهما موتى، فالعرض مستمر، والتمثيل مستمر، والحقيقة لن يعرفها أحد.

الواقعية الإيرانية

ينتمي الفيلم لما يُطلق عليه الموجه الثانية من تيار الواقعية الإيرانية، فالموجة الأولى استمدت أسلوبها من الواقعية الجديدة الإيطالية والموجة الفرنسية الجديدة، والتي مثلها داريوش مهرجوي في فيلم «بقرة» 1969. وهنا تجدر الإشارة باستعانة فرهادي بمشاهد من فيلم مهرجوي، فالحال لم يتغير، وعندما يسأله أحد طلابه: «أستاذ، كيف يتحول الإنسان إلى بقرة؟» يجيبه عماد: «ببطء.. سنتحوّل جميعاً إلى أبقار.. مجانين وأموات».

«القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب