ثقافة وفنون

الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر وهجاء القطط

الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر وهجاء القطط

حاتم الصكَر

 (إلى تانيا)

1

أستعير عنوان مقالتي من قصيدة لحسب الشيخ جعفر بالعنوان نفسه. وعنها سيكون الحديث… عن هذا الكائن الذي ألِفَ البيوتَ وألِفتْه، حتى حاز اسماً عائلياً. إنه القط البيتي اصطلاحاً، تمييزاً له عن قط وحشي لم تتهذب طباعه أو يدجّن بالأحرى ويغدو كقطّنا العصري حبيس البيوت، يأنس بعبودية غريبة لمالكه، وينتبذ بيننا مكاناً يقصي مكانه البري الأول من ذاكرته، وذاكراتنا بالضرورة.
(هجاء القطط) هي إحدى قصائد الشاعر الراحل حسب الشيخ جعفر من ديوان متأخر الصدور «تواطؤاً مع الزرقة»، يهديها إلى القاصة الأردنية سميحة خريس (تعليقاً على اهتمامها بالقطط). هي إذن من قصائد فترة إقامة الشاعر في عمّان حقبة التسعينيات. وعنوانها الصريح المحيل إلى أبرز أغراض الشعر الموروث (هجاء) يبين شدة نفوره من القطط. لا نستطيع الجزم بأنه كان يعاني مما يسمى فوبيا القطط أو الحيوانات الأليفة لأنها تذكّر الفوبياويين بأصل هذه الحيوانات وسلالاتها المتوحشة، ويظل للنسل ماكان للسلف من هيبة واحترام مشوبين بالخوف، وربما الرعب في مواقف ممكنة الحدوث، تقوم السينما والبصريات الأخرى كالرسم يتكريسها. لكن حسب منذ البيت الأول يعضّد هجاءه للقطط بجملة منفية صارمة: «لا أحب القطط».
ثم يشفعها ببيتين يفصّلان أسوأ ما في القطط من أعضاء تحيل إلى شراستها الكامنة فيها حتى الآن بالقوة. ولا ضامن من خروج هذه العدوانية الفطرية للعلن بالفعل. كم من كلاب التهمت مالكيها ومربيها مثلاً. هنا إشارات جسدية أو مفردات في لغة جسدها الذي لا لغة لها سواه، انتقى منها حسب أشدها عنفاً: «المخالبَ والنظراتِ الوقاح/ تتوعد العينُ منهن بالشرر المتطاير».
لقد تعمد ألا يربط التفاصيل بالقطط مباشرة. لم يقل مخالبهن ونظراتهن. ترك ذلك تسمية لهن، لا وصفاً يتبع موصوفه، كأن يقول: لا أحب القطط ذوات المخالب و..،  لم يفعل حسب ذلك. بل جعل التفاصيل نسبةً لازمة تلصق بهن. ترك فراغاً بعد إعلان عدم حبه لهن، وكأنه يبادل القطط النظرات الغاصبة تلك. ثم داهمَ القارئَ بالتفاصيل: المخالب الجارحة المتبقية من فصيلة السنوريات، آكلة اللحوم التي تنتمي لها القطط مع الفهود والأسود والنمور. وهو يذكر الأسد كما في مخيلة البشرعنه: فيمثل القطة في حضن دافئ لامرأة بالقول: «أسدٌ منطوٍ/ في إهابٍ وثير من الفرو».
تحيل صورة القط الأسدية بالفرو في دفء الأنثى، إلى مشغّل فكري يسخر من الرفاهية المفرطة لطبقات المجتمع المترفة: لا لكونها تربي القطط منزلياً، بل لتلك الدلالة المنتجة من اقتران المرأة الفروية مع قطها المستأسد ذي الفراء أيضاً. حقد طبقي؟ ربما ستؤوِّل كثير من القراءات ذلك، لكن لحسب أسبابه:
«أنيابهن القواطع في الصحو والحلم
تلتذ داميةً
بانطباقٍ على طائر في القفصْ
أو على عنقِ فأرٍ وديعٍ
يجوب المناكبَ..
سعياً إلى الرزقِ».
ازداد معدل العداء للقطط. فوصف أسنانها بالأنياب القواطع الدامية. كما يظهرن في الواقع والأحلام. وراح يستذكر ضحاياها الضعاف. يستميل القارئ ويذكّر الزميلة التي أهدى قصيدته لها أن اهتمامها بالقطط يجب ألا ينسينا مجازرها وضحاياها.

 2

وإذا تتبعنا صعود مستوى الدلالة في النص، واحتشادها بما يوحي بمبررات عدم حب الشاعر للقطط، فسنلتقي بأسوأ مزاياها: الغمز من أهلها، والتربص والاحتيال. بل هي لصّة. وهنا يستثير حسب في الذاكرة تفسيرات القدامى للأحلام بنوع من التخمينات والتهيؤات اللاعليمة. فيرى ابن سيرين مثلاً إن رؤية القطط تدخل البيت تعني دخول لص. كما ربط القطة بالزنا والخيانة والمكر. ورؤية القطط عامة في الحلم بتوقع الخسة والجفاء والمراوغة والاحتيال…
لكن أشد ما توصم به القطط أنها المرضِعة الوحيدة التي تأكل أبناءها. وتتساوى بذلك مع زحل في الأسطورة اليونانية إذ ياكل أبناءه عند ولادتهم خوفاً من أن ينتزعوا منه الحكم. وظهر في لوحة الفنان روبنز يأكل صدر ابنه. لكن الفنان الإسباني غويا سيصور الأسطورة ذاتها بعد قرنين محتذياً أسلوب روبنز وفكرته، فيرسم التيتان كرونوس يلتهم ابنه برعب وشراهة، وُصفت بأنها عنف بصري، يعكس حيوانية وحشية، وقسوة مفرطة ومؤذية: «ولم ترضَ مرضعةٌ غيرها/ بافتراسةِ رُضَّعها/ كلما عضَّها سَغبٌ أو هُزال!».
تلك هي الخاتمة. لكأنها تلخص أعنف بنود المرافعة القططية لحسب: كراهيته مبررة بإنسانية يكسب بها القارئ الذي يتأمل حيثيات الإدانة للقطط حتى النهاية الصاعقة: تأكل أطفالها عند الولادة! وسوف يقوى الجُرم باستخدام حسب لفعل عنيف هو الافتراس، ليربطها ثانية بسلالتها االمتوحشة.
كيف إذن سيحبّ القططَ شاعرٌ قروي اعتاد تربية الطير والحنو عليه، ورؤية البط الوادع حراً آمناً في جداول القرية ونهيراتها، وفي المسطحات المائية الكبيرة في الأهوار. سيراها مستفزة ومزعجة، وكائناً متوحشاً رغم ما يراد له أن يبدو به لطيفاً. لقد صوَّره منقضًّاً على طائر في قفص. ولكن ثمة من سيقول إن حسب نشأ في ريف العمارة حيث يربي الريفيون القطط في منازلهم. لكني أحس عبر حرارة الكره للقطط أنها ذات تاريخ في ذاكرته. أهي صورة من شريط موسكو خلال دراسته هناك؟ سيدة تدفئ قطها محتضنة إياه برداء الفرو، فيما يعاني زملاؤه الطلبة والغرباء والفقراء من البرد القارس. وأنها تولدت من هذا الاعتناء الفروي المترف بهن لدى الموسرين، مقارنة مع معاناة المجتمعات غالباً من الفقر والجوع والتشرد بلا مأوى.

3

يتعقب حسب القطط ويزجرهن ويطردهن ويطاردهن في أكثر من قصيدة. لكنني قمتُ بمطاردةٍ مضاعفةٍ لقططه ولتفوهاته النصية عنها، فوجدت نصَّين أهداهما للشاعر سعدي يوسف هما (القطط) و(القطط أيضاً). ما سياق القصيدتين كي يهديهما لسعدي؟ لا يرْشَح شيءٌ في القراءة، ولا في سياق خارجي في الديوان نفسه.
في القصيدة الأولى (القطط) يلفت انتباهَ القارئَ وجودُ ألف التعريف في القطط. هي إذن قصيدة شاملة لا تستثني نوعا من أنواعها التي تربو على العشرات كما فهرسها المختصون. وكما وضع لها ت. س. إليوت «ديوان القطط» كاملا بأسمائها المبتكرة.
إنها كلها مهجوة عبر مخاطبة سعدي بالإهداء. لكنها في القصيدتين متلونة بألوان تحيل إلى إناث. فهل سعى ليحذر سعدي منهن، أو التمادي في ملاطفتهن؟ لندع ذلك مقترحاً للتأويل، أعلم أن حسب بموقفه من المرأة ووعيه المتحرر سينقض مصداقية ذلك التأويل.
«جاءت القطط الخضر والبيض
والحمر والصفر
والقطط السود تأتي محاذرةً».
القطط بألوانها توحي بأنها نساء يرقصن ويتبخترن كملكات. حتى (القطط الصفر الماكرة). لكن الحفل سينفض بفزع حين تدخل القطة الأم (مبرقةً مرعدةً). ولا يظل بأيدي المحتفلين إلا أشياء الحفل ملاعق وغطاء ومنضدة! ترق الصحب لأن القوة المتسلطة اقتحمت زهوهم وفرحهم. ولم يجد حسب من مماثلة ممكنة إلا بدخوا القطة الأم لأنها ترمزت شراً في وعيه. وربما أحالتنا القصيدة إلى درس الطبع والتطبع في قصة القطط أو السنورات اللواتي كن يحملن الشموع في بلاط الخليفة ويدخلن بها على الضيوف، فأراد أحدهم أن يدحض الترويض القططي، وأنها ستعود لطبعها ولا تنصاع للتطبيع، فرمى فأراً في المجلس فتراكضن إليه رامياتٍ بالشموع لتحترق على الأرض! والقصيدة الثانية المهداة لسعدي يوسف عنوانها الإلحاحي (القطط أيضاً). فهي تحكي هذه المرة عن استعراض قططي ساخر. تتبختر الملكات -القطط، في مستهل النص: «تتخير ألوانَها الماكراتُ القطط/ حكمةً أو شطط».
واختيار الألوان هو عَوْدٌ إلى القصيدة الأولى (القطط). كأنهن إناث من البشر. ثم يصنفهن ناسباً بعضهن للريح (قط الريح مائجةٌ/بازرقاق خفيف/تنقل الخطو غاديةً رائحة..). ثم تليها قطط الماء وقطط اليابسة وقطط الأرض العابسة الكالحة، وختم العرض بقطط النار، مكرراً رعبه من عيونهن – هذا مجال آخر لدراسة الفوبيا الافتراضة في موقف حسب من القطط. فعيون قطط النار (أحداقهنَّ النوافذ/تنصبّ ليلاً عليها القذائفُ) يرسمها وهي تنفخ أنفاسها اللاهثة، تترصد غفلة صاحبها (لتشعل البيت أعراسها الجائحة!). هنا أيضاً نفترض الإهداء لسعدي مرمزاً بالنساء متغيرات الألوان والألبسة. لكن دون الجزم بما يترسب في لا وعي حسب، وما هو مسكوت عنه بصدد المرأة.
قصيدة قصيرة أخيرة تعثر عليها المطاردة القططية. (إلى مها) في ديوانه «رباعيات العزلة الطيبة». لكأنه يواسي حب طفلة أو فتاة للقطط، فيبدأ بجملة مثبتة تضم وعداً مستقبلياً: سأحب القطط. بيت القصيدة الأول ماكر، يقود إلى ضده حتماً. فهو يعد بسين المستقبل (سأحب)، ثم يشترط طباعاً لما سيحب: ماكرةً- متكاسلة – أو عن مأرب تدور- وأخيراً في معاطف مبطنةٍ بالخطط! فقد وجد الغدر من شيمها؛ لذا جعلها تبطن الخطط، كما فعلت قطط قصيدة سعدي المنتظرة غفلة صاحبها! دببة كالقطة التي يطردها الشاعر ثم تعود في بابه ليلاً يراها في كابوس تقف عند الباب (قصيدة الباب) في الديوان نفسه. فهل أعاد حسب فكرة المسخ، وأن القطط بأرواحها الستة أو السبعة، إنما تحولت أو مُسخت عن دب؟
وذلك مالم يتأكد في فرضيات أوفيد في كتابه «مسخ الكائنات».

4

لن تعز النصوص النقيضة لأطروحة حسب القططية. عشرات الشواهد من أدباء وشعراء وفنانين عالميين اعتزوا بقططهم وخلّدوها. إنها (فخر العائلة) بحسب بودلير في قصيدته (القطط) التي ترجمت للعربية بعدة ترجمات. وهي حاذقة (يقرأ الضيوف الوقت في أحداقهن). ذاك ما لم يقرأه حسب بين شرر العيون ومكرها. لم تكن القطط وحدها المحظوظة السعيدة بتخليدها ومدحها عبر قصيدة بودلير. فها هما ذا: عالم انثوبولوجيا رائد هو كلود ليفي شتراوس يتقاسم مع اللساني رومان جاكوبسون تحليلها، والبحث عن بنيات متعالقة بدلالاتها، ويتفحصان بناءها، وتناظراتها، وصلة القطط بالمرأة فيها.
ولدى إليوت ديوان كامل عنوانه «ديوان القطط» ترجمه الدكتور صبري حافظ. وعنوان الديوان الجانبي (ما قاله الجرذ العجوز عن القطط العملية) طريف يهيئ للسخرية التي اعتنى بها إليوت. حتى ليمكن قراءة مدحه تورية مبطنة الدلالة. قطُّه المتأمل كالفيلسوف يفكر في أسمائه التي لا يعرفها. فيهبّ الشاعر ليمنحها إياه. لكل صنف من القطط اسم. منها (القط الشنيع منجوجيري) والهصور النمري والفهدي. لكن السخرية تبطل الإعجاب بمحبة القطط في الديوان، فقد جعل إليوت القط المشاغب مسؤولاً عن ضياع وثائق لوزارة الخارجية! أما المَسخ فهو ساخر أيضاً، فقد تعرفنا على قط في الديوان كان قرصاناً وتقاعد!
ولماذا الخشية من مدائح القطط الزاخرة في الكتب؟ ألم ير إدغار ألن بو الغراب مهيب الطلعة من عصور الورع الخالية باسمٍ كريمٍ، وهي غربان عزيزة دمثة عند رامبو؟
لِحسب اليوم ألا يخشى قطط القدر وأنواعها الماكرة، حيث يرقد بسلام لا ينعم به إلا الموتى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب