مقالات

شارع الرشيد وعصير الزبيب … رحلة العراق ج٤ … بقلم المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر

بقلم المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر

شارع الرشيد وعصير الزبيب … رحلة العراق ج٤ …حسام أبو النصر

كان الجو رغم حرارته يحمل بعض نسمات الهواء اللطيفة مع بدء انحسار أشعة الشمس عند المغيب، هو ما منحنا فرصة أكبر للتحرك خلافاً لفترة النهار والظهيرة خاصة، فقررت الذهاب في جولة إلى شارع الرشيد مع أصدقائنا. وصلنا منطقة باب المعظم عند مدخل شارع الرشيد التاريخي الذي تأسس عام 1916م في العهد العثماني من قبل والي بغداد لأغراض عسكرية، حيث تقع وزارة الدفاع، وجامع الأزبك، وأول ما قابلنا ساحة كانت مقامة فيها مدرسة المأمونية التي ازيلت وكانت فيها أيضا أول أوبرا في بغداد سميت (اوبرا الأحمدية) لملاصقتها جامع الأحمدية الذي تأسس عام 1796م، وبعد اعتراض رجال الدين سميت (اوبرا الفرابي) أزيلت أيضا، وقد سكن في هذه المنطقة أهم الشخصيات من بشاوات واغاوات، منهم جعفر البكري،  ونوري السعيد، والمؤرخ العراقي حسين أمين وبكر صدقي، ومحمد فاضل باشا الداغستاني وغيرهم كثر.
وخلال مسيرنا لامست انطفاء روح المكان، وقلة المارة والسيارات، الذي لا يحاكي ما كان عليه سابقا باعتباره شارعاً رئيساً، كما لاحظت إغلاق كثير من المحلات، وكثرة المباني المهجورة، وقد يعود ذلك إلى ان جزءاً كبيراً منها ايل للسقوط حيث عانت الاهمال والتهالك، وهو ما ترك غصة وأنا أشاهد وأسمع من الاصدقاء حكايات المكان. وفي أول شارع رشيد قابلنا (خان مدلل) التاريخي (خان للتمور) تأسس 1906م، وعلى جانب الطريق مرقد عثمان بن سعيد، والتكية البكداشية، ومستشفى قديم، وحمام الباشا، ومسجد أسماء خانم، ومع الاستمرار بالمشي وجدنا قهوة متهالكة مدمرة هي التي غنت فيها أم كلثوم وسميت على اسمها، وبعدها ظهر أمامنا ملتقى الأسطورة وعلى زاوية أحد شوارع الرشيد قابلنا مقهى الزهاوي ذو الواجهة الحمراء المذهبة، وقد كان يسمى مقهى أمين اغا، حيث التقى فيه بداية الثلاثينات (نوري السعيد) مع (جميل صدقي الزهاوي) فأعجب بها الزهاوي وأصبح يتردد عليها من ثم سميت على اسمه وأصبحت ملتقى للشعراء والمثقفين، وكانت فيها مصاطب وكراسي خشب قديمة،  ويتفرع منها شارع (حسان بن ثابت) الأثري من زمن الدولة العثمانية، وخلال المسير لم يخلُ الشارع من الدكاكين، التي لا تعد ولا تحصى، وقد قدّرت صحيفة (كل شيء) العراقية عام 1966 عددها بــ 947 دنكة (دكان)، وكان هناك مثل عراقي (الفاضي ينزل يعد محلات الرشيد). توقفنا أمام أشهر وأقدم محل عصير، فيما اليافطة مكتوب عليها محل (الحاج زبالة) الذي تأسس عام 1900م،  واتضح أن هذا ليس اسمه الحقيقي بل اسمه الحاج عبد الغفور ولكن كان كلما انجبت زوجته طفلاً يموت، فكي يرد العين عنه اشاروا عليه بأن يسمي نفسه الحاج زبالة، جلسنا عند ابنه واحفاده الذين ورثوا منه الصنعة بعد رحيله، لنشرب عصير الزبيب البارد الشهير، تمعنت حولي فوجدت صوراً قديمة لبغداد وأهم الشخصيات التي مرت على المكان خلال قرن من الزمان، والذي شرب فيه نفس العصير أغلب رؤساء العراق من الملك فيصل حتى (صدام حسين) بصحبة الرئيس (ياسر عرفات) و(الملك حسين)، وكانت المرة الأولى التي أشرب فيها عصير الزبيب في حياتي، فبطبيعتي لا أشرب أي مشروب أحمر اللون منذ صغري، أعتقد والدتي كرهت هذا اللون أثناء حملها لي، هكذا أخبرتني، ورغم ذلك استسلمت فوراً لهذا المشروب دون تمنع لأحلم أني آخر الملوك الذين شربوا منه، ما أن خرجنا ومشينا قليلاً حتى مررنا بمقاهــٍ عدة منها البرلمان، ثم مقهى حسن العجمي، الذي تأسس عام 1899م، ودخلناه واذ بسقفه المفتوح بشكل مستطيل، يضم عدداً من الغرف مهجورة بلونها الأسود اتضح أنها تعود لمدرسة يهودية، ضمن أوقاف شلومو شماش، وفيه سكن الطلاب، وقد سمي فيما بعد (فندق الامان)، وبعدها أصبحت مدرسة ايرانية (شارابت) حتى اندثرت، ويقابلها جامع الحيدر خانة الذي جدده والي بغداد عام 1827م ويعود للعهد العباسي وتحديداً عهد الناصر لدين الله، وتم توسعته في عهد داود باشا، وقد شهد أهم أحداث ثورة 1920، ومنه كانت تصدح الخطب الرنانة والحماسية، التي كان يلقيها شيوخ وشعراء منهم محمد مهدي البصير شاعر ثورة العشرين، وأيضاً محمد جعفر، ومحمد رضا الشبيبي، والملا عثمان الموصّلي خطيب جامع المرادية، ونجد أن النقوش تزخرف قبته الزرقاء، وبجانبه بيت الفنان الكبير ناظم الغزالي، الذي ولد ونشأ في المكان، ولو مشينا قليلاً نجد مدرسة (نائلة خاتون)، التي تخرج منها الشاعر الكبير معروف الرصافي، في منطقة حسن باشا، وفيها مرقد أحمد الحنبل، إضافة لمراقد اخرى، واستمرينا في المسير حتى وصلنا ميدان الرصافي، نهاية شارع رشيد الذي سمي شارع (خليل باشا جاده سي) على اسم حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني اثناء حكمهم، حيث قام بتوسيع وشق الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعاً باسمهِ عام 1910م، فيما سماه البريطانيون سنة 1917 شارع (هندنبرك)، وشارع النصر وأخيراً في العهد الملكي سمي بـ شارع الرشيد نسبة إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد  ونلاحظ أن الأزقة المتفرعة من حوله تنخفض بمقدار 4 أمتار تقريباً لدرجة أني نزلت لأحد المقاهي 15 درجة، وقد مررنا بأسواق عدة منها الصفافير الذي تأسس في العهد العباسي، وهو نفسه سوق الثلاثاء، مروراً بشارع رأس القرية التي تقع فيه الشقة التي منها تمت محاولة إغتيال عبد الكريم قاسم، عام 1959م، وقد نصب تمثال  له بعد ان ازيل تمثال  عبد الوهاب الغريري، ونجد أن أغلب البناء الموجود في شارع رشيد جاء على الطراز الفكتوري القديم، وقد مر منه أهم الملوك والرؤساء، وكان يعتبر شارع التجارة حيث كان فيه أشهر الدكاكين في دربونة النملة ودربونة الزقاق وأشهر محلات الملابس الشهيرة والساعات والأحذية، كمحلات حافظ القاضي، ومكتبة (مكنزي) المشهورة، وأهم مصور في بغداد (أرشاك)، وأسواق حسو اخوان، وسينما الرشيد، وسينما الزوراء، وسينما الوطني عند (جاسم شرف)، وجامع السلطان علي، ومبنى اوزدبار الذي تم فيه إلقاء القبض على أحد جواسيس الصهيونية عام 1951م، فيما قصر التاج الذي يعود للعصر العباسي يقع في أحد شوارعه الفرعية ويقال أن فيه سرداباً يمتد لشارع الخلفاء، كما ان الشارع كان فيه أهم وأشهر الأطباء في بغداد، ومنهم (حازم البكري) الذي كانت عيادته تقع تحت البيت الذي استعمل لمحاولة اغتيال قاسم.
الغريب هو ما كان يدور في ذهني، وكيف لكل هذا التاريخ ان يكتظ في عدة كيلومترات بهذا الشكل! وكيف يجمع كل العصور في مكان واحد!، ليشهد على سيرة بغداد الحافلة ويكون مسرحاً لأهم الاحداث التي غيرت مجرى هذا التاريخ، لدرجة ان ما حملته من ذاكرة عن المكان يعد أقل القليل، لأقف عند مدخل شارع المتنبي لأحكي حكايته لكم في الجزء القادم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب