
“أجنحة” نور الدين حجّاج.. “لا تطير”!
كتبت بديعة زيدان:
“ظللنا صامتين كلُّ منّا يفكّر بعالمه الذي يخصّه، وقفز إلى ذهني آخر حديث دار بيني وبين سامر، بعدما استطعت الاتصال به.. رفض أن يأتي ويترك منّة وابنته، اختار الوطن بعد أن استحال إلى كومة رماد، اختار أن يبقى بين أنياب الموت.. سامر الذي حرّضني على السفر من البلاد ها هو يختار البقاء فيها، وأنا الذي رفضت السفر سابقاً صرتُ أطلب من سامر الهجرة.. لا أحد يعرف كيف تتبدّل الحياة بكل هذه السرعة؟.. فكل ما تؤمن به الآن ربما تكفر به بعد عدّة أشهر، إنها الأقدار لا أحد يعلم كيف تتبدّل، وكيف ترتب نفسها بطريقة عجيبة في كلّ مرّة”.
بالتأكيد لم يكن الروائي الفلسطيني نور الدين عدنان حجّاج، حين كتب روايته الثانية والأخيرة “أجنحة لا تطير” (2021)، وصدرت عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، يعلم أنه هو نفسه سيعيش بين أنياب الموت في حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة، حتى انتهى به المطاف شهيداً في الثالث من الشهر الجاري.
ويسرد حجّاج في روايته، وإن لم يذكر غزة كجغرافيا واضحة للحدث، حكايات الشباب الذين وصلت نسبة بطالتهم لأرقام قياسية قبل الحرب المتواصلة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، فيما تملّكهم الإحباط حدّ الارتفاع الكبير في نسب الانتحار، وفي محاولات الفرار نحو “مستقبل أفضل”، ربّما، حال النجاة من رحلة “زوارق الموت”.
نرى “فادي”، مثلاً، وهو طبيب أسنان عاطل عن العمل يذهب إلى الجامعة للحصول على شهادات من أساتذته تفيد بتميّزه لعل ذلك يساعده في الحصول على وظيفة تنتهي حالته كـ”دكتور مع وقف التنفيذ”، فيلتقي “أمل” الطالبة في الكلية ذاتها، ويقع في حبّها، والتي من خلال حكايتها يتطرق للحديث عن التحرش، وعن العنف الذكوري ضد النساء حدّ “الاغتصاب الزوجي”.
وعبر “فادي” يتم التطرق للأوضاع الصعبة في الجغرافيا التي يعيش فيها، حيث “بدأ الشارع يغلي، وبدت دعوات لتظاهرات شبابية غاضبة ستخرج من أماكن عدّة من البلاد، طلباً للحياة الكريمة والحقوق المسلوبة، بعد ضغوط كثيرة مورست على هذا الشعب منذ سنوات طويلة”، بينما تم تحريم وتكفير من يخرج بهذه التظاهرات، حتى أنهم اتهموهم بالعمالة للاحتلال، وبأنهم “أجندات خارجية”، متحدثاً بصراحة عن ثلاثة عشر عاماً أوصلتهم إلى القاع، أي منذ العام 2008، بُعيد الانقسام، منتقداً السلطة الحاكمة دون تسميتها، بمنشور عبر “فيسبوك”، حيث كتب: ثلاثة عشر عاماً أوصلتمونا لما بعد القاع.. سقط اليوم عنكم اللثام وانجلى القناع.. دافع عنكم هذا الشعب بكل ما استطاع.. وكان لكم فيما سبق الخط الأول في الدفاع.. أخبرونا: كم حرباً خضنا لأجلكم وكم صراع؟.. أثخنتمونا بالفقر والجراح والأوجاع.. ماذا تبقى لنا نحن الفقراء الجياع؟.. مللنا أساليبكم في الكذب والخداع.. لن نظل بعد اليوم عبيداً أو أتباع”.
يختفي “فادي” بعد أن طوقت ست مركبات للشرطة بيته، وبات “معتقلاً”، بينما تتزوج “أمل” من صديق لشقيقها، لعله ينقذه من ديونه المتراكمة.
وفي الجانب الآخر من السرد ثمة حكاية “سامر” وابن خالته “قصي” الذي تربّى معه كشقيق، على اعتبار أن والديه توفيّا إثر حادث سير، فقامت خالته بتربيته رفقة ابنها، إلا أن الحقيقة أنهما انفصلا، وكل منهما تزوج، فبقي دونهما، حتى بات محامياً، لكن ومع انفجار الأحداث في الشارع، وهو ربّما ما حلم به حجّاج ذات يوم ولم يكن، قتل زميله لدفاعه عن أحد المعتقلين بأن صدمته سيّارة، بعد سيل من التهديدات، وكان طلب من “قصي” إكمال مشواره إن حدث له مكروه، لكن الأخير يترك البلاد كما “فادي” الذي تعرض لعنف وتنكيل كبيرين خلال اعتقاله، ليلتقي الجميع بعد نجاتهم من رحلة قوارب الموت غير الشرعية، على أرض تركيا.
وفيما يشبه التنبؤ بالحرب الذي ذهب ضحيتها الروائي الشاب، تُستهدف البلاد بعدوان جديد في خضّم الثورة، حيث “أغلقت البلدان المجاورة حدودها معنا، وبدأت أعداد النازحين بعشرات الآلاف في الأيام الأولى للحرب.. قصفت الصواريخ باتجاهات كثيرة (…) لم نكن نرى سوى جثث تتطاير، بيوت تسقط، طائرات تصير قطعاً من السماء.. ثم صوت مدوٍ يصمّ الآذان.. انتقلنا إلى بيت أكثر أماناً، إلى أن تهدأ الأمور (…) كنّا نظن أنها مجرد أيام وتنتهي، كنّا نظن”.
وكان لافتاً أن عبارة “الحمد لله مازلنا على قيد الحياة”، وهي الأكثر تداولاً هذه الأيام للناجين مع صباحات ومساءات غزة، كرد على من يسأل أو لا يسأل عنهم، جاءت على لسان “فادي” في مطلع صفحات الرواية، وهي لعلها العبارة التي بقي نور الدين حجّاج يرددها حتى اللحظات الأخيرة، التي لم يعد بعدها على قيد الحياة.
ونور الدين حجّاج كاتب وروائي شاب، وُلد في غزة في اليوم الأخير من الشهر الأول للعام 1996، واستُشهد فيها يوم الثالث من كانون الثاني الجاري، بعد قصف إسرائيلي على منطقة الشجاعية، شرق المدينة.. صدرت له روايتان، كانت أولها بعنوان “غريب وغريبة” في العام 2018 عن دار الكلمة للنشر في القاهرة، هو الذي أنهى دراسته الجامعية في تخصّص الرياضيات والحاسوب، وعمل مُدرساً في مدرسة “الكرمل” الثانوية للبنين بمدينة غزة.
وكان حجّاج كتب على صفحته في “فيسبوك” قبل خمسة أيام على استشهاده: مساء الخير أيّها العالم.. انقطعت الاتصالات والإنترنت ليلة البارحة، وما اعتبرته في إحدى المرات مستحيلاً صار واقعاً فجأة ولكن بظروف أُخرى، فساعي البريد لن يستطيع القدوم في ظل هذا القصف والدمار، كما أن جرائده لن تحمل سوى نفس الخبر كل يوم: “إن غزة تُباد، والحياة تغيب عنها كل يوم دون أن تشرق في اليوم التالي”، وربما خبر موتي سيصدر في النسخة القادمة.. هذا ما طرأ في بالي لحظة انقطاع الاتصالات والإنترنت، ومعها انقطعنا عن العالم، وانقطع العالم عن معرفة أخبارنا، وازدادت حدّة القصف لنضع أيدينا على قلوبنا، لأن ما نخافه ها هو يقترب، سنموت بصمت دون أن يعرف عنّا العالم شيئاً، حتى أننا لن نستطيع الصراخ ولا توثيق لحظاتنا، أو كلماتنا الأخيرة.. أعيش في حيّ صغير يسمى حيّ الشجاعية، وهو حيٌّ يقع على الحدود الشرقية لمدينة غزة، وفي كل ليلة لا تتوقف أصوات الانفجارات بأنواعها المختلفة ومن كل الاتجاهات، لذلك نحتضن بعضنا مع كل صوت ضخم يهز بيتنا وقلوبنا، ونحن نعلم أن واحداً من تلك الأصوات لن نسمعها لأنها ستكون قد انفجرت بنا.. ولهذا أكتب الآن، لربما تكون هذه رسالتي الأخيرة التي تجوب العالم الحر، وتطير مع حمام السلام، وتخبره أننا نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلًا، لكن في غزة تقطعت كل السبل والطرق، وصرنا نبعد عن الموت مسافة خبر عاجل أو تغريدة صغيرة.
“أنا نور الدين عدنان حجّاج، كاتب فلسطيني، وعمري سبعة وعشرون عاماً ولي أحلام كثيرة.. لستُ رقماً وأرفض أن يكون خبر موتي عابراً، دون أن تقولوا أني أحب الحياة، والسعادة، والحرية، وضحكات الأطفال، والبحر، والقهوة، والكتابة، وفيروز، وكل ما هو مُبهج.. قبل أن يختفي كل هذا بلحظة واحدة.. أحد أحلامي أن تجوب كتبي وكتاباتي العالم، أن يصير لقلمي أجنحة لا توقفها جوازاتُ سفر غير مختومة ولا فِيَز مرفوضة.. حلمٌ آخر: أن يكون لي عائلة صغيرة، وأهدهد ابني الصغير الذي يشبهني بينما أخبره قصة ما قبل النوم.. ويظل حلمي الأكبر أن يعمّ السلام بلادي، أن تشرق ضحكات الأطفال قبل الشمس، أن نزرع وردة في كل مكان سقطت فيه قنبلة، ونرسم حريتنا على كل جدار تهدم، أن تتركنا الحرب وشأننا، لنعيش أخيراً حياتنا، ولمرّة وحيدة”.
المصدر : الايام الفلسطينية