مقالات

أعياد الميلاد هذا العام وأطفال غزة

أعياد الميلاد هذا العام وأطفال غزة

د. سعيد الشهابي

العالم الغربي يعيش هذه الأيام أجواء الاحتفاء بعيد الميلاد الذي تجري الاستعدادات له قبل شهور، ويتطلع إليه الجميع، حتى من ليس لديه انتماء ديني ولا يؤمن بالسيد المسيح ورسالته. وبشكل تدريجي أصبحت المناسبة ذات طابع اجتماعي واسع تتجلى فيها أنماط التواصل والاهتمام من قبل كافة الطبقات الاجتماعية. صحيح أن الكنائس تشهد حضورا كبيرا في الأيام التي تسبق يوم عيد الميلاد في أغلب بلدان الغرب، ولكن الغالبية الساحقة من المواطنين لا تمارس أداء الصلاة ولا تحضر الكنائس.
وكثيرا ما حذّر مسؤولو الكنيسة من تفاقم ظاهرة الاستهلاك الذي يؤدي إلى إضعاف البعد الروحي للمناسبة. ويشيرون بشكل خاص الى تنامي ظواهر الدعاية التسويقية للمنتجات الاستهلاكية التي تساهم في الضغط على الأوضاع المالية المتداعية للكثير من العائلات. فحالة البذخ التي تعيشها الطبقة المترفة في هذه المجتمعات يقابلها فقر شديد يدفع الى تصاعد أعداد من يعيشون تحت خط الفقر. إن المفارقة في المستويات المعيشية، برغم أنها تاريخية موغلة في القدم، تتصاعد باستمرار. فهناك ثلة من البشر تملك المليارات، بينما الغالبية الساحقة من سكان الكوكب لا تملك شيئا. ووفقا للبنك الدولي فإن 650 مليون إنسان في العالم يعيشون على دخل يومي لا يتجاوز الدولارين يوميا، وأن 70 بالمائة من سكان الأرض يعيشون تحت ما يمكن اعتباره خط الفقر.

سعت قوات الاحتلال الإسرائيلية لضرب غزة وشعبها بمنع الطعام والوقود عنها، في خطوة غير مسبوقة. وقد شجبها العالم واعتبرها أحد تجليات سياسة «الإبادة»

الموسم ينطوي كذلك على بعض المقولات الخيالية ومنها أن البابا نويل سينزل من مدخنة المنزل ليوزع الهدايا على الأطفال والعديد من القصص التي ترتبط بتفصيلات ولادة المسيح وظروفها، والوضع المادي والنفسي للسيدة مريم العذراء عليها السلام. ولكن بعيدا عن الخيال المرتبط بالتراث، يؤكد الواقع تنامي ظاهرة الاستهلاك خلال الموسم، وما يمثله من ضغط على الأوضاع المالية للعائلات. ومن أجل مسايرة الباقين، يضطر معيلو الكثير من العائلات لمضاعفة الاقتراض لتلبية متطلبات الموسم. ويزداد استخدام بطاقات الائتمان، كوسيلة أسهل لشراء الهدايا ومستلزمات يوم «الكرسمس» نفسه. وتنفق العائلات أموالا طائلة للاحتفاء بالمناسبة، ويصل معدل هذا الانفاق الى أكثر من 2000 جنيه استرليني للعائلة الواحدة، وتقدر القيمة الاجمالية للإنفاق على الموسم في بريطانيا بأكثر من 20 مليار جنيه استرليني. وفي الوقت نفسه يعيش أفراد وعائلات حالة الحرمان والفقر المدقع، بل أن أكثر من 270,000 في بريطانيا سيقضون الموسم في العراء، بينهم 123,000 طفل، إذ لا مأوى لهم نظرا لعدم توفر منازل خاصة بهم لأسباب شتى. وما أبشع مشاهد الذين يعيشون على حافة الشوارع، يقضون الليالي القارسة والممطرة أحيانا على قارعة الطريق. بينما في الأسبوع الماضي اشترى رجل أعمال شاب منزلا في لندن بمبلغ 130 مليون جنيه استرليني. ولو كان هناك تكافل حقيقي بين البشر لحظي كل إنسان بمأوى يقيه الحر والبرد، ولكان موسم أعياد الميلاد فرصة للفخر بإنجازات بشرية اجتماعية توفر لكل شخص مأوى مناسبا وتجنّبه القلق مما هو فيه، وتخلق لديه أملًا بحياة منتجة وممتعة.
بشكل تدريجي تتراجع الأبعاد الدينية للمناسبات التي تحولت الى شأن اجتماعي واسع، يحظى برعاية القطاعات المجتمعية والسياسية على نطاق يتوسع باضطراد. وفي حقبة التراجع الديني والنزوع نحو العلمانية وتصاعد الظواهر الاستهلاكية، يتراجع نصيب الدين وما يمثله من كنائس ومعابد من الاهتمام الشعبي، وهذا مؤشر لتراجع موقع الدين في الحياة العامة. صحيح أن الوسائط الإعلامية ما تزال تبث الصلوات المسيحية من الكنائس، وصحيح أيضا وجود فترات نقاش حول قضايا الدين في المجتمع الغربي، ولكن الواضح أن المزاج الشعبي لم يعد متشبثا بالتراث الديني. مع ذلك يشترك العلمانيون والملحدون مع الملتزمين دينيا في الاحتفاء بأعياد الميلاد. وهذا الاحتفاء من شأنه تقوية الروابط بين أتباع الدين الواحد، ولكنه لا يتحول إلى عمق روحي يصعد بالمرء إلى عالم الملكوت، ويبعده عن نمط الاستهلاك الذي يصبح أحيانا نوعا من العبث، ويؤدي إلى الخواء الروحي أحيانا أخرى.
الكنائس وما تشهده من صلوات وخطب كثيرا ما تتفاعل مع الأوضاع العامة للبشر، فإذا وقع زلزال في بلد ما مثلا، فإن القسسة يولون اهتماما خاصا بذلك ويشيرون إليه في صلواتهم وخطبهم. كما يتم الحث على دعم الضحايا ماديا، وتوضع صناديق لجمع التبرعات لأولئك المحتاجين خصوصا من ضحايا الكوارث الطبيعية. مع ذلك ما يزال النشاط الرعوي محدودا. ومن المؤكد أن الإجراءات الصارمة التي يطبقها الغربيون ضمن سياسات التصدي لغسيل الأموال كثيرا ما أدت الى تضاؤل التبرعات. فالبشر يخشون من طائلة القانون الذي أصبح معوقا عن العطاء السخي من قبل الأشخاص القادرين على ذلك. فالخشية من طائلة القانون وتحقيقات أجهزة الشرطة تحت عناوين منها: التصدي للعصابات الداعمة للإرهاب أو ضمان توقف غسيل الأموال، ومثل ذلك من العبارات والشعارات تخيف المحسنين الراغبين في التبرع. وتحت هذه الذرائع يتم تطبيق سياسة «تجفيف المنابع» الهادفة لإضعاف النشاط الديني في البلدان العربية وخنق العمل السياسي المتصدي للهيمنة والاستبداد والاحتلال. ومع أن هذه السياسة ليست جديدة، إلا أن تجلياتها في السنوات الأخيرة خطيرة ومؤثرة. فالرقابة على التحويلات المالية تصاعدت حتى أصبح المتبرّعون يشعرون بمعاملات غير لائقة من الجهات الرسمية التي تتصرف معهم وكأنهم يرتكبون جرما عندما يدعمون مشاريع الخير والإغاثة. وقد أوقفت مؤسسات خيرية عديدة نشاطاتها الرعوية بعد أن أصبحت الجهات الرسمية تشكك في ممارساتها وتضغط عليها للكشف عن مصادر التمويل والدعم والتبرع من جهة والتدقيق في الجهات التي تستلم الدعم من جهة أخرى.
وبموازاة ظاهرة الفقر في أوساط العائلات في دول الغرب، تعيش شعوب أخرى وجاليات أوضاعا مأساوية من الفقر والجوع وانعدام الأمن. ويجدر التأكيد على أن أهم ما يقلق الإنسان أمران، حسب ما جاء في القرآن الكريم: الجوع والخوف. وهذا يعني أن فقد الشعور بالامن الغذائي والأمن السياسي من أعظم كوارث الأمم والشعوب. ولذلك ذكر القرآن الكريم أن من أهم نعم الله على قريش أنه وفر لها هذين الأمرين: فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعهمهم من جوع وآمنهم من خوف. ونظرا لأهمية الأمن الغذائي والسياسي فقد سعت قوات الاحتلال الإسرائيلية لضرب غزة وشعبها بمنع الطعام والوقود عنها، في خطوة غير مسبوقة. وقد شجبها العالم واعتبرها أحد تجليات سياسة «الإبادة» التي ينتهجها الاحتلال. في أجواء عيد الميلاد، يعيش المسيحيون في فلسطين هذه الأجواء. فبالإضافة لسكان منطقة غزة، يعيش سكان الضفة الغربية في ظل الاحتلال وسياساتها الإجرامية أوضاعا أمنية مضطربة وتهديدات مستمرة بالقمع والإبعاد. وحتى مدينة «بيت لحم» التي تعتبر مسقط رأس السيد المسيح عليه السلام، ليست آمنة على نفسها، بمسلميها ومسيحييها، بل يعيشون تحت التهديد الدائم من قبل قوات الاحتلال التي لا تشعر بوجود ضغوط خارجية حقيقية. وبرغم دعاوى الانتماء للسيد المسيح، ما يزال مسقط رأسه خاضعا للاحتلال، وما يزال الراغبون في زيارته يواجهون الصعوبات والإهانة من الصهاينة المحتلين.
وفي أجواء البهجة المحيطة بأعياد الميلاد يجدر استيعاب الواقع البشري الذي تعيشه الإنسانية. فهناك ثلاثة أصناف من البشر يواجهون غياب مصدري الأمن الأساسيين: الأمن الغذائي والأمن السياسي. فهناك الفقراء الطبيعيون الذين يكابدون حالة الجوع نظرا لغياب مصادر الإطعام الطبيعية، ولهذا مصاديق في بلدان عديدة من بينها: جمهورية افريقيا الوسطى، مدغشقر، اليمن، جمهورية الكونغو الديمقراطية، ليسوثو، النيجر، تشاد، غينيا بيساو، ليبيريا وسيراليون. وهناك السجناء السياسيون الذين يقضون أجمل فترات حياتهم وراء القضبان بعد أصبحوا ضحايا لفقدان الأمن السياسي. وهناك أهل غزة الذين استهدفهم الصهاينة بعدوان متواصل منذ أكثر من شهرين، وكانوا قبلها يعانون من حصار جائر منذ أكثر من 15 عاما. هؤلاء يعانون من فقدان الأمن السياسي، وكذلك الامن المعيشي، في ظل صمت دولي رهيب، حتى من الأقربين.

كاتب بحريني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب