سيلفي باترون وإعادة الاعتبار لستانزل
نادية هناوي
تقف سيلفي بارتون في مقدمة دارسي علم السرد ما بعد الكلاسيكي الذين عنوا بمن يتكلم في السرد وليس بمن يقوم بالفعل، متسائلة: أهو المؤلف أم السارد؟ ولأجل الإجابة عن هذا السؤال أخضعت باترون نظريات جينيت ودوليزال وشاتمان وستانزل وغيرهم للنظر النقدي. وبسبب ذلك غدا كتابها (الراوي: مدخل إلى النظرية السردية) بمثابة مراجعة نقدية لكل التصورات السردية. وتوصلت إلى (أن العيب الرئيس لهذه التصورات هي أنها لا تقيم خرقا بعبارات المنطق بين فعل السرد مثلما ينجزه راو تخييلي وفعل السرد مثلما ينجزه مؤلف قصة تخييلية فالسرد في الحالة الأولى يعني النقل الشفوي، أو المكتوب لأحداث أو أفعال سابقة لفعل السرد.. ويعني السرد في الحالة الثانية أن تُقدم في شكل قصة أحداث وأفعال لا توجد بمعزل عن سردها). وهذه التفاتة مهمة كان لباترون أن تعمق البحث فيها من خلال النمذجة بالمرويات التراثية، لكنها وقفت عند مؤلفة إحدى طبعات مراسلة ريتشاردسون واسمها أنا لايتيسيا باربو، ونقلت عنها تقسيمها عام 1804 طرائق عرض الحكاية أو إنجاز القصة إلى: الطريقة السردية الملحمية التي فيها يروي المؤلف بنفسه كل مغامرات أبطاله وهذه الطريقة هي الأكثر شيوعا، واستعملها سيرفانتس في دون كيشوت وفيلدنغ في توم جونز.
والطريقة الثانية: طريقة المذكرات والثالثة طريقة الرواية التراسلية. ولعل أهم ما يميز عمل باترون هو تركيزها على التلفظ أو (التواصل) من ناحية أن السارد ليس المؤلف، بل شخصية فوَّض إليها المؤلف سلطة السرد. وهو أمر مؤكد وواضح في السرد القديم الذي فيه متلفظ السرد ليس فاعله بوجود كينونة سردية اسمها (الحكّاء) ويقف بين المؤلف والسارد وسطا فيكون الأول في منأى من أكاذيب الثاني، وكل ما يمكن أن يصدر عنه من خداع أو مجون. وعلى الرغم من ضخامة هذا العمل الذي أنجزته باترون فإنها لم تشر إلى السرد العربي القديم لا من قريب أو بعيد.
وأغلب النظريات التي ناقشتها شائعة كنظريات جينيت وتشاتمان وسيرل وغابريال وهامبرغر وبانفيلد وفلودرنك باستثناء نظرية (ستانزل) في كتابه ( نظرية السرد) 1979 وترجم إلى الإنكليزية 1984 ولم يترجم إلى العربية بعد. ووصفت باترون ستانزل بأنه واحد من أهم منظري القصة الألمان وعمله الأول (المقامات السردية في الرواية: توم جونز وموبي ديك والسفراء وعوليس) نشر في ألمانيا 1955 وترجم إلى الإنكليزية عام1971 وقد تركت هذه الكتب أثرا ضعيفا نسبيا في المشهد النقدي الغربي، كما تقول باترون ومن هنا نفهم سبب إهمال ستانزل في نقدنا العربي إذ لم يُترجم من كتبه شيء إلى العربية حتى اليوم.
ويبدو أن ما ركزت عليه باترون وهو (الوسطية mediacy) كان سببا في جعل ما طرحه ستانزل غير مهم بالنسبة إلى مجايليه من المنظرين الغربيين. والوسطية مفهوم يدل على مسألة لفظية فيها يميز ستانزل بين ثلاثة مقامات سردية نمطية:1 ـ المقام السردي بضمير المتكلم، 2ـ المقام السرد المؤلفي، 3 ـ المقام السردي المجازي. وأضاف مقاما رابعا محايدا.. ومن ثم يكون هناك نوعان من الرواة: 1/ راو مشخصن أو متفرد و2/ راو ممحو اللاشخصي. وهذا هو نفسه ما تؤكده باترون حول (تلفظية من يسرد) التي لها جذورها في السرد القديم. واعتبر ستانزل الوسيطية سمة خاصة تدل على الجنس القصصي مقابل الأجناس الأدبية الأخرى، أي مقابل جنسي الشعر والجنس المسرحي. ولأن الوسطية هي السمة المميزة للجنس السردي، مقابل أشكال أخرى من الفن الأدبي.. يكون كل القصص التخييلي موسوما بالوسيطية وكل المسرحيات موسومة باللاوسيطية، يقول ستانزل: ( إن المقارنة بين الشكل غير المباشر والوسيط للسرد والشكل المباشر للدراما.. أفضت إلى نقاش مداره.. ما إذا كان إقحام راو مشخصن يشكل عائقا في طريق إيهام القارئ. وكان فريدريش شبيلهاغن هو ومن نحا نحوه من بعده في ألمانيا، قد نسبوا الموضوعية نفسها إلى الرواية، أي لا وسيطية التمثيل نفسها، كما هو في الدراما، وكان رد فعل كايت فريدمان منذ سنة 1910 على ذلك بإثبات أن وساطة (وسيطية) السرد لم تكن قطعا أقل من مباشرية (لا وسيطية) الدراما).
ولا يخفى ما في التأكيد على أسبقية السرد على الشعر والدراما من تدليل على أن للسرد نظاما ساهمت في بنائه جملة عوامل فنية على مر التاريخ حتى انتهى إلى الصيغة التي عرفتها القصة الأوروبية في العصر الحديث. وحاولت باترون وانطلاقا من الحاضن الثقافي الغربي أن تقارب بين نظرية ستانزل ونظرية جينيت، قائلة: (إن مفهوم الوسيطية لدى ستانزل كان صنوا لمفهوم السرد لدى جونات باعتبار أن السرد يشكل السمة الخاصة بالنمط السردي، في مقابل الأنماط غير السردية من نحو النمط الدرامي، كما أن مفهوم الوسيطية هذا صنو للنقل السردي بواسطة راو كما هو عند تشاتمان مع فارق قوامه أن الشكل الدرامي في نسق شاتمان مندرج في مجال السردية). وفي هذا التقريب تقليل من شأن الطرح الذي قدمه ستانزل لا نوافق باترون عليه، لأننا نرى من خلال ما قدمته من إحالات أن نظرية ستانزل تفترق كثيرا عن نظريتي جينيت وتشاتمان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إهمال ترجمة كتب ستانزل في مقابل ترجمة كتابات نقاد فرنسيين كرروا وتابعوا جينيت وغيره، دليل آخر من دلائل تبعية المترجم ناقدا وغير ناقد إلى الغرب، مع أن ستانزل هو مرجعهم نظرا لسبقه التاريخي عليهم. ومن هؤلاء النقاد رينيه ريفارا ولوران دانو وراباتال فضلا عن تشاتمان وأمبرتو أيكو، واعتاد المترجمون تسمية تنظيراتهم بالسرديات التلفظية والتواصلية والجينيتة. ويخيل إليّ أن عدوى ما كان النقد الغربي يخشى الخوض فيه، كانت تنتقل إلى نقدنا، فيخشى هو أيضا طرقه أو تناوله مع فارق جوهري، هو أن النقد الأول كان يخشى عن دراية وقصد لكن خشية الثاني كانت في الأغلب عن قلة دراية ودون قصد. والاثنان مأسوف عليهما معا.
كاتبة عراقية